- أحمد الغريب
الحمد لله أهل الثناء والمجد، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد..
فإن نقد الأبحاث القائم على أصول البحث العلمي وعلى العدل وحسن القصد لهو ظاهرة صحية يجب أن تكون حاضرة في مجتمعاتنا العلمية الشرعية، ولا شكَّ أن عملية النقد تساهم في تجويد الأبحاث واستدراك الأغلاط التي لا يسلم منها باحث مهما كان إتقانه.
والنقد بشرطه السابق لا عيب فيه بل هو أمر محمود، ولكن قد يصاحب النقد ما يجعله مذمومًا يُلام فيه صاحبه، مثل أن يكون مبنيًا على أغلاط منهجية، أو يكون النقد لأجل رغبات شخصية، أو سوء فهم وعدم إمعان وتأمل في البحث الذي يعمد الناقد إلى نقده.
ولقد كتب الباحث/ عبد الله الغزي مراجعة نقدية لتحقيقي لكتاب الطريقة الأثرية والعقيدة السنية للشيخ عبد القادر البصري الحنبلي، ونُشر في مجلة نماء في عددها الخامس عشر في خريف سنة 2021، وأرى أن الباحث- الذي سأطلق عليه لقب: “الناقد” في هذه الورقات-= قد وقع في مراجعته هذه أغلاط منهجية كبيرة، رأيت من المناسب أن أنبه عليها في هذا الرد، حتى يتجنبها الباحثون في أعمالهم البحثية؛ التقريرية منها والنقدية.
والمراد بـ “المحقق” في هذه الورقة هو كاتب هذا الرد الذي بين يديك: أحمد الغريب.
وأسأل الله أن يوفق الناقد في قادم أعماله ليتجنب هذه الأغلاط، وأن يهدينا ويسددنا وإياه، اللهم آمين.
وقد قسمت هذه الأغلاط المنهجية إلى عناوين عريضة تحتها أمثلة تدل عليها، وأعددها في التالي:
أولًا: تحريف محل البحث الأصلي:
إن أول ما يهتم به الباحث في تقريراته أو انتقاداته هو أن يتأكد من صحة فهمه لمحل البحث، حتى يكون بناؤه العلمي في تقريره أو نقده مبنيًا على أصلٍ صحيح، فإنه “لا نقد إلا بعد فهم، وإذا لم نفهم النص فكيف يمكننا التمييز بين الصحيح وغير الصحيح؟” [برجستراسر-أصول نقد النصوص ونشر الكتب:50]، هذا بغض النظر عن الإجراءات التي سيتبعها الباحث بعد ذلك، فإذا كان هناك خللٌ في فهم محل البحث فإن كل ما سيقرره في بحثه سيكون عبثًا لا طائل من ورائه، كمن يحرث في الماء.
إذا عُلِم ذلك فإن الناقد قد وقع في مراجعته تحريف لمحل البحث الأصلي للمحقق، حيث اخترع محل بحث لم يعمد المحقق إلى الحديث فيه، ولبيان وقوع هذا التحريف فإني سأذكر من كلام الناقد ما يدل عليه، وأعقبه بذكر وجه التحريف في كلامه.
يقول الناقد: “إلا أن مراجعتنا هذه لا علاقة لها بالإجابة على جميع هذه الأسئلة وغيرها مما لم يُذكر، بقدر ما تتعلق بتسليط الضوء على الإجراءات العلمية التي أغفلها المحقق في دعواه أن قراءة الشيخ لصفة الكلام هي (تصحيح عقدي) لمذهب الحنابلة، وهذا ما سيكون موضع مناقشتنا في هذه المراجعة؛ مبينين القصور البحثي الذي وقع فيه المحقق“. [[المراجعة-الغزي:162.]
ويقول الناقد أيضًا: “وإننا هنا نرغب أن نؤكد، لما يكتنفه هذا الموضوع من صراع مذهبي؛ بأننا لا نكترث بطبيعة النتائج التي يتوصل لها الباحث بقدر ما تقلقنا نوعية الإجراءات العلمية التي أوصلته لهذه النتيجة“. [المراجعة-الغزي- 163].
ويقول الناقد: “وذلك لمحاكمة المحقق على إخلاله ببحث بعض الإشكاليات التاريخية التي يتوقف عليها صحة ما يروم تقريره من أن قراءة الشيخ لصفة الكلام هي تصحيح داخل المذهب الحنبلي، دون أن يبيَّن موقف الإمام من هذه المسألة والسياق التاريخي للقول بالقدم النوعي لصفة الكلام قبل الشيخ على قواعد المنهج العلمي والبحث التاريخي؛ بحيث يمكن عد تقرير الشيخ لهذه المسألة تصحيحًا” [المراجعة-الغزي-163].
ويقول الناقد: “وبطبيعة الحال فإن مناقشتنا لن تتجاوز مسألة ادعاء التصحيح التيمي لصفة الكلام داخل المذهب الحنبلي..”. [المراجعة-الغزي-163].
ويعود الناقد ليكرر كلامه ويعيده بعد أسطر فيقول: “نود أن نؤكد على أننا لسنا معنيين في هذا المقام بالخروج بموقف نهائي للإمام… بقدر ما يعنينا تبيين القصور البحثي الذي وقع فيه المحقق وتجاهله للإشكالات التاريخية وتصويره سياق المذهب الحنبلي العقدي في هذه المسألة بسردية يكتنفها الكثير من الاختصار“. [المراجعة-الغزي-164].
ثم يعود فيكرر كلامه فيقول: “فإن الخلل الرئيس الذي وقع في المحقق: أنه ادعى دعوى لم يثبتها بالأدلة التاريخية؛ فاعتبر عمل الشيخ في تقرير القدم النوعي لصفة الكلام تصحيحًا داخل المذهب الحنبلي”.[المراجعة-الغزي-165].
ثم بعد أسطر يرجع فيسأل نفس السؤال، فيقول: “ما هو الإجراء العلمي الذي سلكه المحقق فجعله يعتقد بأن ممارسة الشيخ النقدية لأقوال سلفه من الحنابلة في هذه المسألة هي من التصحيح؟ وكيف ظهر له هذا؟”. [المراجعة-الغزي-165].
ولو جمعتُ للقارئ جميع العبارات التي كرر فيها هذا المعنى لأصابه الملل، مع أن الأصل في المراجعات والأبحاث العلمية ينبغي أن “يلاحظ أن تكرار المعاني معيب للغاية، وأن الحديث عن نقطة في أكثر من مكان عيب كبير”. [كيف تكتب بحثًا أو رسالة- شلبي: 83].
وعلى أية حال فإن ما سبق كافٍ في تصوير مراده الذي كان يمكنه أن يعبر عنه بعبارة واحدة في بداية مراجعته، وكأن الناقد بتكراره هذا يمعن في إيهام القارئ بوقوع الخلل الذي يتوهمه في عمل المحقق.
إذا علِم ذلك فهذا مقام بيان التحريف لمحل البحث الذي وقع في مراجعته.
- يجب أن يُعلم أن الناقد يكتب مراجعته هذه لمقدمة تحقيق لكتاب عقدي لأحد الحنابلة المتأخرين، هذا الحنبلي-وهو الشيخ البصري- شديد التأثر بتقريرات الشيخ، فكان من المناسب-في نظر المحقق- أن يذكر بعض العوامل والظروف التي هيأت لتأثره بابن تيمية، فلا ريب أن تأثره لم يكن محض صدفة، فلذلك عرض المحقق شيئًا من أثر تقريرات ابن تيمية فيمن بعده من الحنابلة، وصولًا إلى الشيخ البصري، وكذا في القرن الذي عاش فيه الشيخ البصري.
- وقد عقد المحقق مبحثًا عنونه بقوله: “تأثر المؤلف بتقريرات المدرسة التيمية“، ثم ذكر تمهيدًا قال فيه: “إذا كان الغرض الأساسي من هذا المبحث هو إظهار تأثر الشيخ عبد القادر بالمدرسة التيمية فإنه يحسن هنا أن أذكر عرضًا تاريخيًا لتأثير ابن تيمية في الحنابلة قبل الشيخ عبد القادر، ثم أختم ذلك بتأثر الشيخ عبد القادر رحمه الله”. [الغريب-مقدمة الطريقة الأثرية:61]. وهذا التمهيد ذكر فيه المحقق نقولًا مجملة في إفادة تأثير ابن تيمية فيمن بعده.
- ومما ذكره المحقق في هذا التمهيد قوله: “وليس المقصد نفي الجهود التصحيحية السابقة لابن تيمية، فلا شك أن في كلام بعضهم شيئًا من ذلك، كما يفعله ابن عقيل مع شيخه القاضي أبي يعلى“.[الغريب-مقدمة الطريقة الأثرية:61].
وهنا تجد أن المحقق قد سمى بعض ما قام به ابن عقيل تصحيحًا، مع أن بعض هذا التصحيح الذي قام به ابن عقيل لا يعتقد المحقق صوابه في نفس الأمر، ولكنه عملية تصحيحية في اعتقاد ابن عقيل، فتصحيحه شيء، وصحة هذا التصحيح شيء آخر.
- ثم يذكر المحقق بعد تمهيده: المطلب الأول، والذي عنون له بقوله: “الأثر التيمي في التصحيح العقدي عند الحنابلة؛ قيام الصفات والأفعال الاختيارية بالذات الإلهية أنموذجًا”.
ويكشف المحقق عن مقصده بوضوح، وينص صراحة على محل البحث، فيقول في نص لا يحتمل التأويل: “وإن وُجِد في كلام بعض من سنذكرهم ما يخالف ظاهره تقريراتهم في صفة الكلام؛ فإن هذا لا يؤثر في بحثنا والذي هو: (الأثر التيمي في تقريراتهم)“. [الغريب-مقدمة الطريقة الأثرية:67].
وإنه لا ينقضي عجبك إذا علمت أن الناقد قد نقل في آخر مراجعته هذا النص، ومع ذلك وقع في مراجعته ما وقع من تحريف لمحل البحث، وسحبه لقضية أخرى، وما ذكره هنالك من وقوع التناقض في كلام متأخري الحنابلة ليس هو محل البحث أيضًا.
ثم إن المحقق كان قد أورد سؤالًا في بداية هذا المطلب يقول فيه: “ما هو قول ابن تيمية في صفة الكلام؟”.
ثم يجيب على السؤال بما هو معروف من تقريرات الشيخ، فالمطلب معقود لأثر ابن تيمية فيمن بعده، وأراد المحقق أن يمهد لذلك بإبراز قول ابن تيمية، وأنت ترى هنا أنه لم يعقده لإبراز آلية التصحيح التي قام بها ابن تيمية، ولا لبيان إجراءاته العلمية في سبيل تقرير ذلك.
إذن، فالمحقق لم يكن بحثه في كون ما قام به ابن تيمية في صفة الكلام وعزوه للإمام أحمد صحيحًا في نفس الأمر أو لا، وإنما كان بحث المحقق في إظهار الأثر التصحيحي التيمي الذي تبناه من بعده من الحنابلة، سواء كان تصحيح ابن تيمية صحيحًا في نفس الأمر أو لا، وسواء كان المحقق يتبنى هذا التصحيح أو لا يتبناه، فليس ذلك محل البحث، وإنما البحث كما أسلفتُ في إظهار الأثر التيمي فيمن بعده من الحنابلة، حتى لو افترضنا جدلًا أن تصحيح ابن تيمية لم يكن صحيحًا لما غيّر ذلك في صلب بحث المحقق شيئًا.
ومن هذا تعلم أن الناقد بنى مراجعته على محل بحث مخترع وأوهم القارئ بأنه هو محل البحث والكلام، مع أن محل البحث الذي اخترعه لم يخطر ببال المحقق فضلًا عن أن يخاطب به القارئ لكتابه، بل هو مخالف لما نص عليه كما تقدم بيانه، فكيف يناقَش المحقق بمحل البحث المخترع؟!
إن الذي يطالب بذلك مثله كمثل من يعمد إلى باحث استدل على مسألة فقهية بحديث نبوي فاتهمه بالقصور البحثي لأنه لم يقرر حجية السنة النبوية في بحثه، وراح يورد عليه حجج نفاة الحجية.
وبهذا تعلم أن قول الناقد عن المحقق: ” ما يروم تقريره من أن قراءة الشيخ لصفة الكلام هي تصحيح داخل المذهب الحنبلي” هو تقويل للمحقق ما لم يقله.
ومما يزيد هذا الأمر إيضاحًا: أن المحقق لم يقم بحشد أدلة ابن تيمية في عملية التصحيح التي قام بها، وهي أدلة كثيرة متنوعة مشتملة على نصوص الوحي وأئمة السلف وأهل الحديث قبل الإمام أحمد وفي زمن الإمام وبعد الإمام، هذا بخلاف نصوص الإمام الكثيرة في هذا الباب، ولو كان غرض المحقق إبراز عملية التصحيح لقام بحشدها، وتحليلها، وبيان أوجه دلالتها، لكنه لم يفعل ذلك حتى يقال: “إنه أخلّ بالإجراءات العلمية بعدم ذكر النصوص المشكلة”، بل الحقيق بوصف الإخلال هو الناقد لإهماله عامة أدلة ابن تيمية ومناقشاته التي أوردها لإثبات صدق رؤيته التصحيحية مع طعنه بالقراءة التيمية، فكان من المتحتم عليه إيراد هذه الأدلة والجواب عليها، بل سترى ما هو أعجب من ذلك، وأن الناقد كان ينبغي له أن يقدم مراجعته هذه لما في كتابه المصادر الأصلية، ويأتيك تفصيل هذا في أثناء هذا الرد، وهو مهم فتنبه له.
وهنا ينتهي ردي على مراجعة الناقد باعتبارها مراجعة لتحقيقي، خاصة وأنه قد أقرّ في آخر مراجعته بأن المحقق قد أصاب فيما أراد إبرازه في الجملة، وفي ذلك يقول الناقد: “ترتكز فكرة المحقق على أن للشيخ تأثيرًا وحضورًا لدى الحنابلة الذين أتوا من بعده، وقد أصاب المحقق في الجملة في إبراز هذا القدر من البحث” [الغزي- المراجعة: 186]، وقد علمت أيها القارئ أن هذا القدر من البحث هو القدر الذي أراد المحقق إثباته، فلا وجه للإطالة بعد هذا الإقرار من الناقد، وبقيت أمور سبق أن تناولها المحقق في رده على الناقد الأول، فلتراجع في تلك الورقة، وهذا رابطها
إذا عُلِم ذلك، فما سأذكره بعد هذا فهو إما لبيان بعض الإشكاليات العلمية في مراجعة الناقد، وإما لبعض ما أوهمته هذه المراجعة.
ثانيًا: الإيهام المتكرر:
لم تقتصر مراجعة الناقد على وقوع تحريف محل البحث الأصلي فيها، بل ورد فيها عدد من الإيهامات التي كان يجب على الناقد أن يتجنبها، ومن ذلك:
1 – قول الناقد: “فإننا سنذكر في هذه الفقرة الرئيسة (2-5) الإشكالات التي تعكر على جعل الإمام قائلًا بالقدم النوعي لصفة الكلام والتي تجاوزها المحقق ولم يشر لها بأدنى إشارة، وإنما اكتفى بالإشارة لمقولة تُنسب للإمام يمكن أن يفهم منها القول بالقدم النوعي لصفة الكلام، ثم ناقش قضية ثبوتها في الحاشية باختصار“. [الغزي-المراجعة:167[.
وقال: “وقد اكتفى المحقق بمناقشة الاعتبار الثاني-وهو جهالة الخضر بن المثنى- في مقام الرد على أحد الباحثين”.
ومحل الإيهام في مراجعة الناقد هو أن المحقق لم يقحم المقولة ليستدل بها على تصحيح نسبة القول للإمام، وإنما الذي ذكرها هو ابن رجب، وما المحقق إلا ناقل لكلام ابن رجب أولًا، ومعلق وملخص له ثانيًا، فقد نقل المحقق عبارة ابن رجب التي فيها هذه الرواية، ثم عقب على النقل ببيان محل الشاهد منه وبيان مصدر ابن رجب في الوقوف على هذه الرواية، وبيّن أن المقالة واردة في كتاب الرد على الجهمية، ثم إن المحقق أيضًا لم يكن يبحث في ثبوت الكتاب للإمام من عدمه في رده على ذاك الباحث المشار إليه، ولذلك فإن نقاش المحقق للباحث الآخر كان في الهامش ولم يكن في صلب البحث، فهل يتصور أن الباحث يعتمد على رواية للإمام وهي دليله ثم يجعل بحثها في الهامش والحاشية حتى يقول الناقد: “اكتفى الباحث بمناقشة الاعتراض الثاني في مقام الرد على أحد الباحثين”؟
والخلاصة: أن المحقق كان يرد على من حاول تضعيف نسبة الكتاب مستدلًا بابن رجب لأجل حكمه بالجهالة على الخضر بن المثنى، وفي ذلك يقول المحقق: “وقد علمتَ من النقل أعلاه أن ابن رجب الذي استدل به المذكور… يثبت قيام الأفعال الاختيارية بذات الرب، ويثبت أن الله يتكلم بمشيئته واختياره، ويستدل على ذلك بنفس النص الذي حاول تضعيف نسبته إلى الإمام أحمد في المسلك الأول مستكثرًا بابن رجب الذي يخالفه“. [الغريب-مقدمة الطريقة الأثرية:71].
2 – ومن عمليات الإيهام التي وقعت في مراجعة الناقد قوله:” فكيف يذكر المحقق أن هذه المقولة المنسوبة للإمام توافق كلام الشيخ [الغريب- مقدمة الطريقة:79[ “.[الغزي-المراجعة:175].
ووجه الإيهام أن المحقق ذكر هذه العبارة عندما كان يبيّن ما قام به المرداوي في تقريره لصفة الكلام وبيان ذلك أن المحقق قد قال: “ثم ينقل المرداوي عن ابن تيمية أقوال الناس في صفة الكلام، فيذكر ثمانية أقوال، ثم ينقل عنه القول التاسع وهو أن يقال: لم يزل الله متكلما إذا شاء، ومتى شاء، وكيف شاء، بكلام يقوم به، وهو يتكلم به بصوت يسمع، وأن نوع الكلام قديم، وإن لم يكن الصوت المعين قديما، وهذا القول هو المأثور عن أئمة الحديث والسنة). ثم يقول المرداوي: (انتهى ملخصًا).
ثم يقول المرداوي تعليقًا على هذا القول: ومن أعظم القائلين بهذا القول الأخير الإمام أحمد، فإنه قال: (لم يزل الله تعالى متكلما كيف شاء بلا تكييف)، وفي لفظ: (إذا شاء)” [الغريب- مقدمة الطريقة:76-77].
ثم يقول المحقق بعد ذلك: ” والخلاصة أنك ترى أن المرداوي قد استدل بكلام ابن تيمية في مسألة تعلق الكلام بالمشيئة…ثم يذكر أن أعظم القائلين بهذا القول التاسع هو الإمام أحمد-رحمه الله-، وينقل عن الإمام أحمد ما يوافق كلام ابن تيمية“.
فانظر إلى عبارة الناقد ثم انظر إلى صنيع المحقق لتعلم أن الناقد يمعن في تكرار الإيهام، وأن المحقق ما زاد على أن أوضح ما قام به المرداوي من إيراده لنصوص عن الإمام أحمد يرى أنها توافق ما ذكره ابن تيمية، على أنك ترى أن المرداوي لم يقتصر على رواية: “إذا شاء” بل أورد رواية أخرى نصها: “لم يزل الله متكلًما كيف شاء بلا تكييف”، وهذا يدفع ما أوهمته مراجعة الناقد من تفرد كتاب الرد على الجهمية بورود نص تعليق الكلام بالمشيئة فيه، وسيأتي الإشارة إلى ذلك، ولكن المقصد هنا هو بيان عدم موضوعية مراجعة الناقد وبعدها عن قواعد البحث العلمي السليم.
ثالثًا: استبطان قناعات قبلية ونتائج مسبقة:
وهذا الإشكال يتجلى واضحًا عند حديثه عن المحقق، وذلك في عدة أمور، ومنها:
1 – يقول الناقد: “يبدو لنا أن المحقق كغيره من عموم باحثي بيئته المذهبية واقع تحت تأثير سطوة السردية التيمية في الخلاف العقدي مع الكلابية”. [المراجعة-الغزي-166].
وهذا كلام قد بناه على ما سبق من تحريف لمحل البحث، وإيراده لأسئلة لا ترد على المحقق، ثم خرج بهذه النتيجة، والمحقق لم يقصد إلى الكتابة في صحة مقالة ابن تيمية من عدمها، ومع ذلك حكم عليه بهذا الحكم الاختزالي والذي بناه على مجرد وهم وخطأ فهم، مع محاولة تنميط المحقق وجعله من بيئة مذهبية فيسهل له الحكم على جميع أفرادها بحكم عام.
2 – ومن ذلك قول الناقد عن المحقق: “وهذا أمر لم يتنبه له المحقق؛ إذ يبدو أنه يظن أن مجرد تعليق الكلام الأزلي بالمشيئة الإلهية كافٍ لدعوى أن الإمام يقول بالقدم النوعي لصفة الكلام، وهذا غير لازم؛ لأن هذه المقولة: لم يزل متكلمًا إذا شاء يمكن أن تفسر بـ:”، وذكر الناقد تفسير الإخميمي-غير الحنبلي لا في أصوله ولا فروعه- بأن المراد أزلية القدرة على الكلام، وتفسير القاضي: بأن المشيئة متعلقة بالإسماع.
وهذا الذي ذكره عن المحقق وهم عجيب، فإن المحقق نفسه قد ذكر كلام القاضي في تفسير تعلق الكلام بالمشيئة، وذكر رد ابن قاضي الجبل عليه.
يقول المحقق: “بقي أن يقال: إن كلام القاضي أبي يعلى في تأويله لكلام أحمد في تعلق الكلام بالمشيئة بأنها مشيئة الإسماع= قد ردَّ عليه أحد كبار الأصوليين الحنابلة وهو العلامة ابن قاضي الجبل”، ثم نقل المحقق كلام ابن قاضي الجبل [الغريب-مقدمة الطريقة الأثرية-80]، وينظر أيضًا: [الغريب-مقدمة الطريقة:77].
فلا أدري كيف استجاز الناقد لنفسه أن يوهم القارئ بما ادعاه من عدم انتباه المحقق فيما يتعلق بفهم الرواية الواردة عن الإمام.
3 – ويتدخل الناقد في نية المحقق وغايته حيث يزعم أن نقله لنص عن ابن رجب يُشكِل على غاية المحقق، ونص كلام الناقد: ” أن السلفية لا يتعاملون مع هذه الأقوال… على أنها خلاف سائغ داخل مذاهب أهل الحديث، كما نظر زين الدين ابن رجب-الذي نقل المحقق قوله [الغريب-مقدمة الطريقة-: 72 [ بلا انتباه بما يتضمنه من إشكال على غايته- إلى مسألة الأفعال الاختيارية على أنها خلاف بين المتأخرين من أهل الحديث”. [الغزي-المراجعة:188].
وقد نصصتُ على سبب نقلي لكلام ابن رجب بقولي: “والإضافة المهمة هنا هي أن القول بإثبات الأفعال الاختيارية هو أحد قولي أهل الحديث من الحنابلة وغيرهم، وقد عرفت أن هذا هو الذي اختاره الحافظ ابن رجب ونسبه إلى الإمام أحمد وإسحاق وغيرهم من أئمة الدين”. [الغريب-مقدمة الطريقة: 72 ].
أقول: قد نصصت على غايتي من النقل عن ابن رجب بقولي: “والإضافة المهمة هنا” الخ، فلم أتعرض لسواغية الخلاف من عدمه، ولا تعرض له الحافظ ابن رجب في هذا الموضع، ولا يرى ذلك أصلًا، وإنما وقع سوء الفهم من الناقد حيث حمّل عبارة ابن رجب ما لم تحتمل، كما تراه في الفقرة التي أفردتها لإخلاله بالإجراءات العلمية.
رابعًا: الإخلال بالإجراءات العلمية:
وهذا الجزء من ردي يظهر فيه كيف تتهاوى الموضوعية وتتلاشى، فمراجعة الناقد قد وقع فيها إخلالات كثيرة بالإجراءات العلمية، ولم يقع هذا في موضع أو موضعين فيقال إن هذا هفوة لا يخلو منها باحث، لكنك سترى أن هذا الإخلال قد تكررت في مراجعة الناقد بحيث تكاد تكون منهجًا عامًا؛ وسأذكر للقارئ بعض هذه الإخلالات الكثيرة:
1 – زعم الناقد أن ما نقله المحقق في مقدمته عن ابن رجب الحنبلي فيما ذكره في الصفات الاختيارية وأن للمتأخرين من أهل الحديث قولين في ذلك= أقول: زعم أن ذلك دال على سواغية الخلاف عند ابن رجب.
ولقد أخلّ الناقد بالإجراءات العلمية التي توضح لنا سواغية هذا الخلاف عند ابن رجب، وكأنه يظنَّ- بلا انتباه منه لسياق الكلام ولطريقة بعض العلماء في عرض الأقوال- أن مجرد ذكره للقولين عن أهل الحديث دالٌّ على سواغية الخلاف عنده، وسأوضح الخلل عند الناقد من خلال ذكر ما يلي:
أ – عبارة ابن رجب التي توهم منها الناقد سواغية الخلاف عند الحافظ هي قوله: (الثاني: أن هذا مبني على إثبات الأفعال الاختيارية، وقيامها بالذات، وفيها قولان لأهل الحديث المتأخرين من أصحابنا).
ولقد ذكر ابن رجب هذه العبارة في أثناء دفاعه عن الحافظ عبد الغني المقدسي من اتهام الأشعرية له بالكفر، وأخذوا عليه عبارات منها: قوله: “لا أنزهه تنزيهًا ينفي حقيقة النزول”، ومنها إثبات الحرف والصوت، فدافع عما يلزم من كلام الحافظ من إثبات المكان بأن في ذلك تفصيلًا وذكر أن في الصحيحين إثبات لفظ المكان، وما يلزم من “الانتقال” أجاب عنه الحافظ بأن هذا لا يُسلّم لزومه، وجوابه الثاني أنه مبني على إثبات الصفات الاختيارية، وأجاب عن إثبات الحافظ عبدالغني للحرف والصوت بأن هذا معتقد الإمام أحمد الذي ينتمي إليه الحافظ عبد الغني، ثم يختم ابن رجب دفاعه عن عبد الغني بقوله: “والمقصود ههنا الإشارة إلى ما وقع في حق الحافظ من التحامل عليه والتعصب”. [ابن رجب-الذيل: 3/35-36]. فقد أبان الحافظ عن مقصده، وأنه كان يريد نفي التهمة عن الحافظ عبد الغني من جميع الأوجه، فمهما قلبت كلامه فلا ينبغي أن يرميه الأشعرية بالكفر، ولم يكن غرضه تقرير سواغية الخلاف من عدمها.
ب – إذا تبيّن هذا فإن الحافظ ابن رجب قد نسب لكثير من أهل الحديث ما هو بدعة شنيعة عنده، بل قد ذكر ذلك في أثناء حديثه عن أدلة المتكلمين الدالة على نفي حلول الحوادث، فقد نقل قول الأشعري: “أن طريقة المتكلمين في الاستدلال على قدم الصانع، وحدوث العالم بالجواهر والأجسام والأعراض محرمة عند علماء المسلمين”، ثم ذكر ابن رجب أن”نفي كثير من الصفات إنما هو مبني على ثبوت هذه الطريقة”، ثم ذكر طريقة أهل البدع في التعامل مع نصوص الكتاب والسنة، ثم قال-وهو محل الشاهد-: “هذه طريقة طوائف أهل البدع المحضة من الجهمية، والخوارج، والروافض، والمعتزلة، ومن أشبههم، وقد وقع في شيء من ذلك كثير من المتأخرين من المنتسبين إلى السنة من أهل الحديث والفقه والتصوف من أصحابنا وغيرهم“.
فقد نصَّ هنا على أن من أهل الحديث من الحنابلة وغيرهم قد سلكوا مسلك أهل البدع التي اشتد إنكارُ الحافظ لها، فمجرد تبني جمع من أهل الحديث لقول لا يدل على سواغيته، ولقد كان الواجب على الناقد أن يسلك مسلكًا علميًا في تحرير قول ابن رجب، لا أن ينسب إليه سواغية الخلاف بنص لم يَفهم مراد الحافظ منه، متجاهلًا سياق الكلام، كما أنه لم يتتبع كلام ابن رجب في هذه المسألة وأشباهها حتى يقف على حقيقة قوله.
2 – ذكر الناقد في أول مراجعته أن مذهب الحنابلة اكتسب أهميته لكونه مذهبًا فقهيًا عقديًا [المراجعة-الغزي:161[، كما ذكر أنه “يجب أن نفحص عن مدى حضور هذا القول في المجتمع الإسلامي في زمن الإمام، ولا يمكننا التأكد من مستوى حضور هذا القول إلا بالنظر في المصنفات العقدية المتقدمة”، وعندما يحدد طبيعة الكتب التي سيفحص من خلالها حضور هذا القول أو عدمه فإنه يستبعد كتب أعيان أهل الحديث المعاصرين لتلك الحقبة، في الوقت الذي نجده ينقل عن الثلجي والبلخي والقلانسي والأشعري، ولو كان سبب استبعاده لكتب أهل الحديث هو شح المصادر بحيث إنه لا يمكن التعرف على أحوال تلك الحقبة إلا من خلال قول هؤلاء المذكورين= لما توجه إليه اللوم، ولكن الأمر ليس كذلك، فالكتب متوافرة.
- ويحق لنا أن نتساءل عن سبب استبعاده لشخصيات محورية سأذكرها بعد، لكني أقف وقفة هنا عند أمر عجيب وهو نقل الناقد عن ابن الثلجي-تحديدًا-، فابن الثلجي الذي كان يُسمَّى ترس الجهمية [التسعينية:1/344] قد اشتهر عنه الكذب على الشرع ووضع الأحاديث فضلًا عن كذبه على الإمام أحمد أكثر من مرة [الكامل في الضعفاء:7/551، التسعينية: 2/377]، كما اشتهر عنه نقل الأقوال بفهمه الفاسد، وأنا مضطر هنا لنقل أحد هذه الأقوال لأنها من ضمن الأقوال التي نقلها الناقدُ عن الثلجي في شرح مقالات الناس في القرآن، فقد روى الخلال بإسناده “أن أبا الحارث قال للإمام أحمد: قال لي: ابن الثلاج: سمعت رجلًا يقول: القرآن هو الله..” ثم تمضي الرواية إلى أن يتبيّن لنا فهم ابن الثلاج الفاسد وهو أنه سمع رجلًا يقرأ قول الله تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله) ففسرها هذا الرجل: أي إلى كتاب الله، فاستنتج ابن الثلاج من هذا أنه يقول: إن القرآن هو الله. [التسعينية:376]، فقد تبين أن ابن الثلاج لا هو بالصادق المأمون في روايته، ولا هو بالمتقن الفاهم لأقوال مخالفيه، ومع ذلك نجد الناقد يقول عن كتاب ابن الثلاج المفقود: “فهذا المصدر المفقود يكتسب أهمية بالغة، فمؤلفه معاصر لمحنة القول بخلق القرآن، وهو صاحب مواقف سلبية تجاه الإمام، فهو يحكي واقعًا شاهده” [الغزي-المراجعة: 168]، وقد علمتَ أن هذا الواقع الذي شاهده كان يبدل فيه ويغيّر، وأول قول نقله الناقد عنه من كتابه المفقود هو القول الذي سلطت عليه الضوء آنفًا وبينتُ غلطه.
- وبعد ذلك نتساءل عن سبب استبعاده لإمام الأئمة ابن خزيمة، فما هو الإجراء العلمي الصحيح الذي سلكه الناقد ليستبعد شخصية محورية مثله؟ إن كان لأجل مذهبه الفقهي فهذا لا ينفعه، لأنه قد نصّ كما سبق على أنَّ مذهب الحنابلة يشمل المذهب العقائدي، ولذلك تجد الحنابلة يذكرون أن ابن خزيمة منهم، كما نص على ذلك ابن النجار الفتوحي في [شرح الكوكب- 2/92[، كما نجد الحنابلة في بعض جولاتهم مع المعتزلة في بغداد، وبعد ظهورهم هم وأهل الحديث معهم =يشرعون في قراءة كتاب التوحيد لابن خزيمة [ابن رجب-ذيل الطبقات:1/37].
لكن في منهجية وموضوعية الناقد لا بأس في استبعاد ابن خزيمة، فهو لا يرى إشكالًا أن ينقل عن ابن الثلجي الجهمي الكذاب، وعن البلخي المعتزلي، وعن القلانسي الكلّابي– الذي يغلط في نقل كلام أهل الحديث في قضية جوهرية فيحكي عنهم أنهم لا يقولون إن كلام الله حروف ولا ليس بحروف [القلانسي-المقالات:106]-، وعن الأشعري؛ للتعرف على أقوال أهل الحديث لكنه لن ينقل عن ابن خزيمة أحد أكبر أئمتهم -والذي عاش أكثر عمره في القرن الثالث الهجري- ؛ لأنه ليس حنبلي الفروع!
- وما الإجراء العلمي الذي سلكه الناقد لاستبعاد الإمام الدارمي وهو أحد الرواة عن الإمام أحمد، وذكره الحنابلة من جملة الأصحاب في طبقاتهم [أبو يعلى- الطبقات:1/221]، وينقلون عنه روايات رواها عن إمامهم كما في [ذيل الطبقات:1/300[. والدارمي في كتبه يذكر الإمام أحمد كقوله في نقضه: “وأين هو عمَن كان في عصر ابن الثلجي من علماء أهل زمانه مثل أحمد بن حنبل؟” [النقض-الدارمي:409[، كما أنه يستدل بالإمام أحمد على مشروعية الخوض في الرد على الجهمية وفي ذلك يقول الدارمي: “وكذلك قال ابن حنبل: كنا نرى السكوت عن هذا قبل أن يخوض فيه هؤلاء فلما أظهروه لم نجد بدّا من مخالفتهم والرد عليهم”.[النقض-الدارمي-395].
فكيف يمكننا اعتبار ما فعله الناقد صنيعًا علميًا وهو يستبعد الدارمي تلميذ الإمام وأحد الرواة عنه مع وفرة كلامه، وردوده التفصيلية على جهمية زمانه، ثم يستدل مع ذلك برجل من أعدى أعدائه وهو ابن الثلجي، حين نقل عنه في مراجعته [الغزي-المراجعة:168].
- وما الإجراء العلمي الذي يجعله يستبعد شخصية كشخصية ابن قتيبة، وهو معدود في زمرة الحنابلة اعتقادًا، ويعدُّه القاضي من أصحابه الحنابلة [أبو يعلى-الإبطال:66]، ويذكره ابن النجار فيقول: “ابن قتيبة منا” [ ابن النجار-شرح الكوكب:2/57].
- وما الإجراء العلمي الذي يجعله يستبعد الإمام البخاري تلميذ الإمام؟ والبخاري لنا معه وقفة مهمة.
أقول: لقد استدلَّ الناقد بالإمام البخاري في كتابه المصادر الأصلية المطبوعة للعقيدة الأشعرية كما في [ص31-32[ للتعرف على رأي أهل الحديث المخالفين للكلابية في هذه المسألة.
فنجد الناقد في كتابه المذكور يقرر أن الكلابية اتجاه جديد، وأن ظهور ابن كلاب أدى إلى تغير في الآراء العقدية، ومن ضمن هذه التغييرات: ما حدث في صفة الكلام والصفات الاختيارية بشكل عام، ويحيل للتعرف إلى رأي أهل الحديث إلى صحيح البخاري في كتابه التوحيد في باب قول الله تعالى (كل يوم هو في شأن)، مع شرح الكشميري على هذا الموضع من الصحيح.
فلماذا إذن أهمل إيراد البخاري في مراجعته هذه مع أهميته القصوى في هذا الباب بحيث إن الناقد لم يُحِل في كتابه المذكور إلى أحد غيره ممن عاش في تلك الحقبة من أهل الحديث للتعرف على حقيقة قولهم؟!
- بل ما السبب العلمي الذي يجعله يستبعد الخياط المعتزلي وقد كان اعتمد عليه في نسبة القول (بقدم الكلام) إلى ابن كلاب وأنه قد كان المؤسس لذلك؟ [المصادر-الغزي:30].
وذكرُ البخاري والخياط يطرح أسئلة جديدة، فهل كان الناقد واقعًا تحت السردية التيمية في كتابه ذلك؟ وإن كان الأمر كذلك ألم يكن الأولى به أن يقيم مراجعته النقدية لما قرره في ذلك الكتاب؟
ألم يذكر في كتابه أن اجتهاد ابن كلاب قد قوبل بالرفض من علماء الحديث وعلى رأسهم الإمام أحمد؟
ألم يذكر أن السالمية (أتباع ابن سالم المتوفى في القرن الرابع) قد تأثرت بالكلابية مع مخالفتهم لهم في قضية جوهرية -وهي قدم الحرف والصوت-، وأن هذا الرأي الذي هو رأي السالمية سيتبناه من بعد بعض فقهاء الحنابلة؟ [الغزي-المصادر: 30-32].
وأرى أنه من الضروري إثبات كلام الناقد الذي ذكره في كتابه المصادر الأصلية بطوله ليقف عليه القارئ بنفسه، يقول الناقد في الكتاب المذكور:
“وتوجد إشارة أخرى لا تقل أهمية عن السابقة في المصدر السابق نفسه، ويمكن أن يستفاد منها في التدليل على كون ابن كلاب البصري (ت حدود 240) أسس لمنهج جديد، وهو أنه صاحب شبهة في القول بقدم الكلام (ويعزو الناقد عند هذا الموضع في الحاشية إلى الانتصار للخياط ثم يقول: وهذه الإشارة وسابقتها في غاية الأهمية؛ لما فيهما من رد بعض الاجتهادات التي تحاول رفع نسبة آراء الكلابية والأشعرية إلى فترة سابقة على ظهور ابن كلاب البصري وأتباعه، وهذا ما تؤكده بعض المراجع الحديثة)، ثم يكمل الناقد كلامه في المتن فيقول: “وهذا مما يؤكد ظهور منهج جديد داخل الاتجاه السني في كيفية التعاطي مع المسائل العقدية في تلك الفترة المبكرة، وبطبيعة الحال، أدى هذا التعاطي إلى تغير في الآراء العقدية، وهذا ما حدث مع ما نراه في صفة الكلام تحديدًا، والصفات الاختيارية بشكل عام، وقد أصبح أصحاب هذا المنهج يُعرفون فيما بعد بالكلابية(يعلق الناقد هنا في الهامش فيقول: انظر أنموذجًا من كتابات الطبقة الأولى من علماء الكلابية، وكيفية تقريرهم نفي الصفات الاختيارية في “فهم القرآن” المحاسبي، وانظر إلى رأي أهل الحديث في هذه المسألة في صحيح البخاري كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: كل يوم هو في شأن” وانظر أيضًا “فيض الباري” الكشميري)، ويكمل الناقد كلامه في المتن: ” وأيا ما كان الأمر؛ فإن هذا الاجتهاد من ابن كلاب البصري قوبل بالرفض من علماء أهل الحديث في عصره؛ إذ تنقل بعض المصادر أن الإمام أحمد ابن حنبل كان من أشد الناس على ابن كلاب… وقد تبع ابن كلاب على منهجه هذا عدد من المتكلمين كان أبرزهم… أبو الحسن الأشعري (يعلق الناقد هنا في الهامش بقوله: (ويستحسن الإشارة هنا إلى أن الأشعرية ليست هي الوريثة الوحيدة للكلابية… أيضًا فيمكننا إضافة فرقة السالمية، والتي تنتسب إلى كل من أبي الحسن أحمد بن محمد بن سالم البصري(ت القرن الرابع) وابنه أبي عبد الله محمد (ت بعد 350)، إلى المنهج الكلابي، ولا يمكننا أن ننكر بأن السالمية خالفت الكلابية في قضية جوهرية، وهي جعلهم كلام الله عبارة عن حروف وأصوات، مع القول بقدم القرآن، وأنه صفة ذاتية، وهذا هو الرأي الذي سيتبناه بعض فقهاء الحنابلة فيما بعد… بل يفهم من بعض المصادر العدلية المتقدمة أنها تنسب رأي السالمية في القرآن إلى الكلابية، وهذا مما يؤكد من كون السالمية منبثقين عن الاتجاه الكلابي).
وبعد هذا الذي قرأته أيها القارئ؛ أظن أننا كباحثين يحق لنا أن نقول: لقد كان الأولى بالناقد أن يتخذ نفسه أنموذجًا في كتابه المصادر الأصلية، للقراءة المذهبية للتاريخ العقدي “القدم النوعي لصفة الكلام في المذهب الحنبلي أنموذجًا”.
3 – ومن المواضع التي يتبيّن فيها الخلل الكبير بل والانتقائية في التعامل مع النصوص طريقة العرض الدالة أو الموهمة بانفراد كتاب الرد على الجهمية بورود النص الذي فيه تعليق الكلام بالمشيئة، فما هو إجراؤه العلمي الذي جعله يطلق هذه الدعوى التي لا يفهم منها القارئ إلا عدم وجود نصوص أخرى للإمام بألفاظ أخرى دالة على هذا المعنى؟
واقتصار الناقد على إيراد المقولة الواردة في كتاب الرد على الجهمية للإمام، ثم تشكيكه بثبوت الكتاب يفهم منه القارئ أنه يرى انحصار ورود هذا المعنى عن الإمام في هذا الكتاب، إذ الاقتصار يفيد الحصر كما هي القاعدة عند أهل العلم، ولو كان يعتقد أن هذا المعنى وارد عن الإمام في غير هذا الكتاب فإن مناقشته ثبوت الكتاب حينئذ عبثٌ خالص، فحاله كمن يرد الاحتجاج بمضمون حديث بتضعيف أحد طرقه مع علمه بورود مضمونه من طرق أخرى صحيحة، وهذا لا شك قدح عظيم في مبادئ البحث العلمي، وإذا أضفنا إلى ذلك أن بعض الروايات الأخرى عن الإمام والتي فيها إثبات تعلق الكلام بالمشيئة= فيها ما يؤكد بطلان أو تضعيف التأويلات التي ذكرها في النص الوارد في كتاب الرد على الجهمية، فإما أن الناقد لم يكن يعلم هذه الروايات فهذا قصور ظاهر في البحث، وإما أنه يعلمها ومع ذلك لم يذكرها وجاءت مراجعته موهمة للقارئ بورود معنى الرواية في كتاب الرد على الجهمية فحسب، وهذا عبث شنيع كما أسلفت.
على أنك تجد الناقد في مراجعته ينقل عن ابن حامد ما يظنه ينصر غرضه، ويتجاوز بكل أريحية أن ابن حامد نقل أنه: “لا خلاف عن أبي عبد الله أن الله كان متكلمًا قبل أن يخلق الخلق وقبل كل الكائنات، وأن الله كان فيما لم يزل متكلمًا كيف شاء وكما شاء، وإذا شاء أنزل كلامه وإذا شاء لم ينزله” [المراجعة-الغزي:182]، فما هو الإجراء العلمي الذي يجعل المحقق يتجاوز نقل ابن حامد وهو الذي أورده في مراجعته وهو ينص صراحة على تعليق الكلام بالمشيئة ناسبًا ذلك إلى الإمام نافيًا وجود الخلاف فيه؟
والأعظم من ذلك-والذي يؤسف له- هو أن الناقد قد اعتمد على ابن المبرد في بعض ما ذكره في مراجعته، وكان اعتماده على كتاب تحفة الوصول، وهنا نرى إغضاء الناقد الطرف عن رواية مهمة ذكرها ابن المبرد في هذا الكتاب كما نقلها المحقق في دراسته وعزاها إلى موضعها في كتاب الغنية للشيخ الجيلاني، ونص الرواية أنه قيل لأحمد هل يجوز أن يقول: إن الله متكلم ويجوز عليه السكوت؟ فقال: “نقول في الجملة: إن الله عز وجل لم يزل متكلمًا، ولو ورد الخبر بأنه سكت قلنا به، ولكنا نقول: متكلم كيف شاء، بلا كيف ولا تشبيه”.[الجيلاني-الغنية:1/299، ابن المبرد-تحفة الوصول:107، الغريب-مقدمة الطريقة:82].
أقول: لم يعالج الناقد هذه الرواية، ولا قام بإجراء علمي يبيّن لنا عدم مناقشته لها، كما أغفل إيراد مناقشة ابن المبرد وقوله بتعلق الكلام بالمشيئة مع إطلاقه قدم القرآن أو نقله الإقراري لذلك، وهذا دال على الانتقائية في التعامل مع النصوص، وهذا مما ينأى عنه الباحثون الموضوعيون.
وفيما ذكرته إسقاط لما أوهمته مراجعة الناقد من دعوى تفرد كتاب الرد على الجهمية بورود نص فيه يدل على قدم نوع الكلام، وإنما مثلت بما ذكره ابن حامد لأنه ذكره في مراجعته، وبابن المبرد لأني قد ذكرته في تحقيقي، وسبق ذكر الرواية التي نقلها المرداوي، وكان يلزمه أن يناقش ما أوردوه ليثبت دعواه، فإنه سوّد كلامًا طويلًا للطعن في صحة المقولة، هذا ولم أذكر ما لديَّ من نصوص أخرى تبيّن تهافت هذه الدعوى؛ في صفة الكلام خصوصًا وتعلقه بالمشيئة، وفي عموم تصرف الإمام في الصفات الأخرى، ولهذا محل بحث آخر، ولكن المقصد هنا التنبيه على الإخلال بالإجراءات العلمية القادحة في الموضوعية وأساسيات المنهج العلمي في البحث.
4 – ومن الإشكاليات الكبرى التي بنى عليها الناقد شطر بحثه ما ذكره من دعوى لزوم قطعية دلالة النص المستشهد به لكي يسلم الاستشهاد به، يقول الناقد: “لا شكَّ أنه إذا ثبت لنا أن الإمام قائل بالقدم النوعي لصفة الكلام على وفق التقرير التيمي بنصوص صحيحة الثبوت وقطعية الدلالة فعند ذلك لن يسع القارئ إلا التسليم بأن ممارسة الشيخ في هذه المسألة هي إرجاع المذهب العقدي للحنبلي إلى جذوره الأولى في هذه المسألة”.[المراجعة- الغزي:165-166].
وهذا الأصل الفاسد الذي ذكره الناقد لم يتبع أي إجراء علمي لتقريره حتى ينطلق من خلاله إلى ما بعده، وإذا كان الأصوليون والفقهاء لا يشترطون مثل هذا الشرط في نسبة الأقوال إلى صاحب الشريعة عليه السلام، ويكتفون بما هو ظني الدلالة في نسبة القول إليه، فكيف يلزمنا الناقد بمثل هذا الأصل الفاسد في نسبة الأقوال إلى آحاد العلماء؟ ولو أن الناقد تأمل أدنى تأملٍ في نصوص عالم من أفراد علماء الحنابلة-مثلًا- لعلم سقوط هذا الكلام، فإنهم يستدلون بالظاهر والتنبيه والإيماء في تصحيح نسبة الأقوال إلى إمامهم، ويفعلون هذا في كتب العقائد والأصول والفقه، ولستُ مطالبًا بإثبات ذلك، وهو على طرف الثمام، ولكن الناقد كان هو المطالب بإثبات دعواه التي بنى عليها شطر بحثه بإبراز الإجراءات العلمية المثبتة لذلك، على أنه فيما يبدو أنه أقوى النصوص في نظره قال عنه: “وهذا يكاد يكون تصريحًا من الإمام بأزلية القرآن”[الغزي-المراجعة:176]، وما قارب الشيء ليس هو عينه فليس ما ذكره قطعيا، وهو كذلك لم يلتزم بهذا الشرط في احتجاجاته فأين بيانه لقطعية ثبوت ودلالة ما أورده من نصوص، ودفع الاحتمالات والإشكالات الواردة عليها.
5 – الذي يظهر للمحقق أنه قد يكون لدى الناقد خلل في تصور معنى التصحيح في اصطلاح الأصوليين والفقهاء، وهذا الخلل يظهر جليًا في قوله: “فهل سيعد الآن تحرير الشيخ (تصحيحًا)؟ أم قراءة تأويلية اجتهادية منه لنصوص الإمام؟” [المراجعة-الغزي: 165[. فهنا يجعل الناقدُ القراءةَ التأويلية الاجتهادية قسيمة لمعنى التصحيح، وفاته أن عمل المصحح في كثير من أحواله حقيقته أنه قراءة تأويلية اجتهادية، فكان يجدر بالناقد أن يبين إجراءه العلمي الذي يجعل التصحيح قسيمًا للقراءة التأويلية بدلًا من الحشو الكثير المكرر عن إخلال المحقق بمهام البحث.
6 – ومن الأمور التي يظهر فيها إخلال الباحث بالإجراءات العلمية ما نقله عن الطبري حيث ذكر أن الطبري نقل ذلك وجادة، والطبري لم يذكر أنها وجادة، فمن أين أتى بذلك؟ لا يخبرنا الناقد بشيء عن ذلك، بل اقتصر بأن هذا الذي سماه وجادة يُعتبر وثيقة بالغة الأهمية، وراح يبني عليها..[الغزي-المراجعة: 170].
خامسًا: تنزيله الظاهر منزلة المجمل.
يقول الناقد: “إن الإجراء العلمي للوصول إلى هذه النتيجة هي في إثبات أن الإمام نفسه قائل بهذا الرأي بنصوص ثابتة صريحة؛ لا أنها مجرد نصوص مجملة يمكن أن تحمل على غير وجه” [الغزي-المراجعة:165]، والناقد يعتبر أن نص تعليق الكلام بالمشيئة من هذه النصوص المجملة، مع أن القاضي عندما أراد أن يتأول تعليق الكلام بالمشيئة بأنها مشيئة إسماع= نصّ على أن الظاهر من كلام أحمد هو تعليق الكلام بالمشيئة، يقول القاضي عن الذي قال إنه يتكلم إذا شاء كما نقول يخلق إذا شاء: “ولعله تعلق بظاهر كلام أحمد في رواية عبد الله”. [أبو يعلى- الإبطال:547].
ولذلك عندما أورد ابن قاضي الجبل الردود على تأول القاضي للمشيئة بالإسماع كان رده الأول أن هذا “تأويل للكلام وخروج عن ظاهره بغير دليل”. [ابن قاضي الجبل-الرد على من رد على ابن تيمية خ:14].
وما ذكره الناقد أن المقولة لم يُذكر فيها متعلق المشيئة[الغزي-المراجعة:173]، ثم قوله بعد ذلك: “فيحتمل أن يكون متعلق المشيئة الكلام؛ فيكون التقدير: إن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء الكلام [أو[ الإسماع فيكون التقدير إن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء الإسماع”، أقول: هذا الذي ذكره الناقد خللٌ كبير، فإن متعلق المشيئة موجود في نفس النص، وهو قوله: “متكلمًا”، والظرف والمظروف “إذا شاء” متلعق بهذا التكلم، فما ذكره الناقد بعد ذلك غلط، ولا قصده القاضي أبو يعلى ولا غيره، فإن تقدير كلام القاضي هو: لم يزل مسمعا كلامه إذا شاء، لا: إن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء الإسماع. والشاهد أن المتعلق مذكور، وظاهر النص تعليق المشيئة بنفس التكلم، وأن الذي يتأول المشيئة فيجعلها راجعة إلى إسماع الكلام هو صارف للفظ عن ظاهره.
ولا شك أن دلالة الظاهر غير دلالة المجمل، والذي يظهر للمحقق أنَّ لدى الناقد قصورًا في التعامل مع مباحث دلالات الألفاظ؛ على مستوى التصور والتداول، وقد سبق الإشارة إلى ما في كلامه عن قطعية الدلالة، وهذا المبحث يستحق إفراده في ورقة خاصة.
سادسًا: القفزات الاستدلالية:
ذكر الناقد من ضمن تشكيكاته في ثبوت كتاب الرد على الجهمية: “عدم حضور هذا الكتاب في السنة لعبد الله-ابن الإمام- ولا فيما وصل إلينا من كتاب السنة لأبي بكر الخلال-جامع علوم الإمام- الذي وُجِدت فيه أبواب تتعلق بالجهمية وخلق القرآن، مما يوحي بعدم حضور الكتاب في مجتمعهم العلمي في تلك الحقبة” [المراجعة الغزي:171].
وهنا نجد في مراجعة الناقد عملية قفز استدلالية عجيبة، فمع إقراره بأنه ما وصل إلينا من كتاب السنة إلا بعضه فإن ذلك دالٌّ عنده على عدم حضور الكتاب في مجتمعهم، فماذا إن كان الكتاب موجودًا في الجزء المفقود الذي لم يصل إلينا من السنة للخلال، كيف يسلم له هذا الاستدلال مع عدم وجود نسخة كاملة لكتاب السنة؟ بل كيف يقفز الناقد متجاوزًا نصوص جمع من الحنابلة ممن أثبتوا وجود كتاب الرد على الجهمية أو بعض نصوصه التي انفرد بها في كتاب السنة للخلال؟
وكما ترى فإن في صنيع الناقد هذا خللًا منهجيًا مركبًا في طريقته في الاستدلال إذ ينطلق من قصور المصادر لنفي وجود ما قصرت عنه في الواقع.
سابعًا: الانتقائية في ذكر النصوص:
لقد مرَّ بنا شيء من ذلك فيما مضى في الإخلال بالإجراءات العلمي، وأخص هذه الجزئية بمثال يدلُّ على هذا المعنى، ففي ضمن ذكره للأقوال التي تُشكل بحسب فهمه على التقرير التيمي أنه رُوي عن الإمام أنه قال: “لم يزل الله متكلمًا عالمًا”، ثم يقول الناقد: “فهنا الإمام قرن صفة الكلام بصفة العلم في حكم الأزلية، ولا يمكن أن يُقال بأن العلم صفة اختيارية تتعلق بالمشيئة، بمعنى إن شاء الله علم وإن شاء لم يعلم”[المراجعة-الغزي:176[. وينبغي أن يعلم أن الناقد قد عزا هذا النص إلى عدة مواضع منها: السنة لغلام الخلال المطبوع في زاد المسافر.
ووجه الانتقائية في اختياره للنص هو أن هذا المعنى محكي عن الإمام أحمد بلفظ آخر يسقط طريقة استدلاله بهذا اللفظ رأسًا، لكنه أهمل ذكره، والنص الذي أقصده هو ما رواه غلام الخلال في جزء السنة المطبوع في زاد المسافر(1/304)-وهو الجزء الذي نقل عنه الناقدُ الروايةَ السابقة وهذا النص بعد الذي نقله بأربع صفحات فقط– وعن غلام الخلال ابنُ بطة في الإبانة (7/ 326) أن الإمام أحمد قال: “ولم يزل الله عز وجل متكلمًا عالمًا غفورًا“، والزيادة هنا هي قوله: “غفورًا”، فإن الناقد لو كان نقل هذا النص لسقط استدلاله بقرن الكلام بالعلم، فإن الإمام قد قرن الكلام بالعلم والمغفرة، ولا شك أن المغفرة متعلقة بالمشيئة بمعنى أن الله إن شاء غفر وإن شاء لم يغفر، إلا إن كان لديه ما ينافي ذلك فهو مطالب بإبرازه.
والشاهد هنا هو الدلالة على انتقائيته في اختيار النصوص، وإلا فإنا نرى أن استدلاله بالرواية التي ذكرها متهافت، فإن مجرد ذكر أزلية الكلام لا يصلح الاستدلال به على قدم عينه لا نوعه، فإن اللفظ محتمل، ولا ينفعه قرنه بالعلم لأن مشابهة الكلام للعلم من وجه لا يدل على مشابهته له من كل وجه.
ثامنًا: الإكثار من طرح الأسئلة الخطابية والأجنبية عن محل بحث المحقق:
وهذا ملاحظ مكرر بكثرة في كلام الناقد، وأمثل له هنا بالتالي:
1 – فمن ذلك قول الناقد: “ولماذا الإمام يهجر داود الأصفهاني مع نفيه بأنه يقصد بحدوث القرآن أنه مخلوق؟ بل في رواية عنه، ذكرها أبو بكر الخلال؛ يظهر تفرقته بين المحدث والمخلوق” [المراجعة-الغزي:177]، وعند الرجوع إلى الرواية التي يقصدها في تفريق داود بين المحدث والمخلوق نجد أنه يقصد قول داود: “القرآن محدث، ولفظي بالقرآن مخلوق”، فقول داود مركب هنا من أكثر من مقالة، ومعلوم أن الإمام أحمد كان يُجهّمُ من يقول: إن لفظه بالقرآن مخلوق، فلماذا لا يكون هجر الإمام أحمد لداود بسبب مجمل قوله في القرآن؟
ثم يُقال للناقد: أنت قد عزوت إلى تاريخ الإسلام للذهبي لتشير إلى رواية يظهر منها لك أنه يفرق بين المحدث والمخلوق، فلماذا أهملت الرواية الأخرى الموجودة في نفس الصفحة والتي تليها من تاريخ الذهبي (6/330)، والتي فيها:
“وقال أحمد بن كامل القاضي: أخبرني أبو عبد الله الوراق أنه كان يورق على داود، فسمعته يسأل عن القرآن، فقال: أما الذي في اللوح المحفوظ فغير مخلوق، وأما الذي هو بين الناس فمخلوق”. ألا يدل ذلك على أنه كان يقصد بالمحدث معنى المخلوق؟ فلماذا اقتصرت على تلك وأهملت هذه؟ على أن القول بأن القرآن محدث بمعنى أنه مخلوق كان هو الجاري على لسان الجهمية الذين ناظروا الإمام أحمد، وهذا أيضًا مهم في فهم إنكاره على داود.
ثم يقال للناقد أيضًا: إن الخلال قد نقل عن عبد الله أن داود جاء إلى عبد الله ابن الإمام وقال له: “قد علمت شدة محبتي لكم وللشيخ، وقد بلغه عني كلام، فأحب أن تعذرني عنده، وتقول له: أنْ ليس هذا مقالتي، أو ليس كما قيل” ودخل عبد الله على الإمام فأخبره بذلك فكان خلاصة جواب الإمام أنه بلغه كتاب محمد بن يحيى الذهلي الذي فيه أن داود أحل في بلدهم الحال والمحل، وذكر في كتابه أنه قال: القرآن محدث، وذكر الإمام أن محمد بن يحيى أصدق من داود. [التسعينية:1/339-340].
ثم نسأل نفس سؤال الناقد الخطابي: هل يحل للإمام أحمد أن يهجر داود، وداود متبرئ من المقالة، تائب عنها، بغض النظر عن ماهية هذه المقالة؟
وعلى أية حال فالإمام قد كان يهجر في أقل من ذلك، ويهجر من أجاب في المحنة كصاحب عمره يحيى بن معين، هجره إلى أن مات، وقد كان يكفي هذا السطر الأخير في الجواب على سؤال الناقد.
2 – ومن ذلك أن الناقد قد سلّم للمحقق بصواب ما أراد إبرازه من تأثير ابن تيمية في الحنابلة بعده-في الجملة-، ولكنه يورد على المحقق سؤالًا أجنبيًا ليس له أن يورده على المحقق أصلًا، وهذا السؤال هو: “ما قيمة مجرد هذا التأثر والحضور على مستوى الانتماء العقدي المميز؟” [الغزي-المراجعة:186]، ويكرر هذا السؤال في الصفحة التي تليها كعادته في التكرار الممل.
وأنا أقول: ما علاقة سؤالك بما قصده المحقق إبرازه من إظهار التأثير؟ إن سؤالك غير وارد عليه، وعندما يريد المحقق تبيين غايته من ذكر هذا التأثير سيفعل، أما وأنك قد سلّمت بالقدر الذي يريد إبرازه-في الجملة- فإن سؤالك غير موضوعي لا يجري على قواعد البحث العلمي.
3 – ومن ذلك قوله: “ألم يتعقب علماءُ الدعوة السلفية شمسَ الدين السفاريني في شرحه على منظومته العقدية متهمين إياه بمخالفة السلف؟” [الغزي- المراجعة: 186]، وأقول: تعقبوه أو لم يتعقبوه؛ ما علاقة ذلك كله ببحث المحقق الذي قصد إليه من إثبات التأثير؟ وقد نصَّ المحقق على وجود المخالفة في بعض ظاهر كلام من ذكرهم من الحنابلة لتقريرات ابن تيمية، وفي ذلك يقول: “وإن وجد في كلام بعض الذين سنذكرهم ما يخالف ظاهره تقريراتهم في صفة الكلام فإن هذا لا يؤثر في بحثنا…” [الغريب-الطريقة:67].
وهنا أذكر استطرادًا أن المحقق قد كان تعرّض لذكر التناقض عند متأخري الحنابلة في مقامات أخرى عندما كان المقام يستدعي ذكر ذلك، وهاتان الصورتان فيهما تمثيل بالسفاريني الذي ذكره الناقد.
ومع ذكري للتناقض الحاصل في كلامهم إلا أني لم أطلق ما أطلقه الناقد من عبارات فجّة في حق بعض الحنابلة كقوله عن الشيخ عبد الباقي وغيره: “والحقيقة إن مثل هذه النصوص المتناقضة التي توحي بأن كاتبها غير واع بما يكتب..” [الغزي-المراجعة:187].
والشاهد أن أمثال هذه الأسئلة الخطابية والأجنبية قد تكررت من الناقد كثيرًا، والمفترض أن الأسئلة التي يطرحها السائل إنما تكون على محل بحث المقرر، لا يذهب عنها يمنة ويسرة.
تاسعًا: اختلال المعيار العلمي الثابت:
إن من أوجب الواجبات على الباحث أن يضع لنفسه معايير علمية صارمة، يلتزمها في نفسه، وفي تعامله مع مخالفيه، ولقد لاحظت اختلال العلمي في مراجعة الناقد في عدة مواضع، وسبق الإشارة إلى بعضها، لكني أفرد بعضها هنا لتسليط الضوء عليها لضرورة تنبيه الباحثين عليها:
1 – في الوقت الذي يحرص الناقد على تضعيف نسبة كتاب الرد على الجهمية بسبب جهالة الخضر بن المثنى-وهو من أهم أسباب تضعيفه للكتاب-= نجده-أي الناقد- يستشهد بمحمد بن شجاع الثلجي الذي اشتهر عنه الكذب الصريح، وثبت عليه وضع الأحاديث في التشبيه ونسبتها إلى أهل الحديث تشويهًا لصورتهم، والناقد لا يستشهد به فحسب بل يصف كتابه المفقود بأهميته البالغة!
2 – أطال الناقد النفس في ذكر تشكيكاته في ثبوت كتاب الرد على الجهمية للإمام أحمد، بينما لا نجده يعلق على ما ذكره الطبري ولو بسطر واحد في سبيل إثبات صحة النقل الذي نقله عن المأمون، وإنما اكتفى بقوله: “فهذه الوثيقة التاريخية التي نقلها ابن جرير الطبري وجادة تكتسب أهمية بالغة في كشف الموقف العام..”. [الغزي-المراجعة:70].
3 – عندما ذكر الناقد بعض النصوص التي يرى أنها مخالفة لتعليق الكلام بالمشيئة كان مما ذكره قول الإمام: “لم يزل متكلمًا عالمًا”، وهو يرى أن هذا النص يفيد في تقرير أزلية الكلام العينية لقرنه بالعلم، بينما نجده عندما تكلم على الرواية التي فيها تعليق الكلام بالمشيئة، ذكر أن الكلام محتمل لنفس الكلام ومحتمل لمعنى القدرة على الكلام كما هو رأي الإخميمي، فلماذا احتمل هناك القدرة على الكلام ولم يحتمل هنا عنده إلا الأزلية العينية-إذا كانت المسألة من المتاح فيها عنده ذكر الاحتمالات-؟
4 – يرى الناقد أنه من المعلوم أن تقرير القدم النوعي لبعض الصفات تسبقه مقدمات كلامية وفلسفية شائكة، هي غريبة على مجتمع أهل الحديث في منتصف القرن الثالث [الغزي-المراجعة:167]، وقد أطلق هذه الدعوى دون إقامة برهان عليها، ولنا عليها مناقشات، ولكن هنا يرِد السؤال: أوليس القول بقدم القرآن وقدم الحرف والصوت مبني على مقدمات كلامية كذلك، وهذه المقدمات غريبة أشد الغرابة على مجتمع أهل الحديث في القرن الثالث الهجري؟ وليست غريبة فحسب، بل إن هذه المقالة الكلامية معارضة للضرورة، ولذلك تجد متكلمي الحنابلة كانوا يبذلون جهدًا كبيرًا لمحاولة بيان أن هذه المقالة ليست معارضة للضرورات.
عاشرًا: التعرض لمسائل غير علمية:
يظهر هذا الأمر جليًا في قول الناقد: “لأننا في هذه الحالة أمام نصوص متضاربة أو متناقضة لا يمكن الاستناد عليها في الدرس العقدي والدعوة لما نعتقد أنه حق، وأزعم أن هذا ما يهم المحقق والجهة الناشرة لتحقيقه” [الغزي-المراجعة:188].
والناقد هنا قد دخل في نية المحقق ليعلم مقصده من نشر الكتاب، وهذا لا علاقة له بمحل البحث.
ولكن الأعجب من ذلك هو إقحام الناقد للجهة الناشرة في الكلام بدون داعٍ، مع أن العرف العلمي المستقر أن الجهة الناشرة لا يمثل رأي الكاتب رأيها بالضرورة، فلا وجه لهذا الإقحام المتكلف الذي لا يُعرف سببه!
وأظن أن الناقد كان ليستنكر مثل هذا الصنيع لو أنَّ المحقق تعرض للجهة الناشرة لمراجعته في سياق ردي عليه.
على أن الجهة الناشرة سبق وأن نشرت كتابًا للدكتور سامي عامري، وفيه ما هو مخالف لتوجه القائمين عليها!ٍ
أخيرًا وليس آخرًا..
لعله قد تبيّن للقارئ عِظم الإشكاليات المنهجية التي جاءت في مراجعة الناقد، وأنه هو الذي وقع في القراءة العبثية للتاريخ، وللنصوص، ولأعمال الآخرين، ونرى أن ما كان يكرره من اتهام غيره بالإخلال بقواعد البحث العلمي، مع نقله الاقتباسات النظرية= إنما هو عبارة عن إضفاء صبغة تحسينية على عمله من أجل دغدغة العواطف بإعطاء ممارسته البحثية وصفًا تجميليًا تُدعى فيها الموضوعية، والموضوعية الحقيقية براء من هذه الممارسات.
وإن الموضوعية الحقيقية التي أقصدها هي ممارسة عملية، فكثرة حديثك عن الموضوعية لا تجعلك موضوعيًا، كما أن كثرة كلامك عن العلم لا تجعلك عالمًا، فبينهما بون شاسع.
ويرى المحقق أن ما قام به الناقد من اتخاذ تحقيقه ذريعة وستارًا لنشر إشكالياته المتعلقة برأي بابن تيمية= أن ذلك ليس من النزاهة العلمية، وقد كان الأولى به أن ينقد نفسه كما سبق، في كتاب قرر فيه القراءة التيمية للمسألة التي يبحثها، ولم يكن ينبغي له أن ينتظر عملًا لغيره يحمل عليه ما لديه من اعتراضات.
أخيرًا: إن الباحث العلمي يجب عليه ألا يروّج لبضاعته جيّدها ورديئها بالانتقاص من أعمال الآخرين.
وأرجو أن يوفق الله الناقد في قابل أعماله ليتلاشى هذه الأغلاط المنهجية، فإن ساحة البحث العلمي تحتاج إلى التجويد الحقيقي للأدوات النقدية، ولن يكون ذلك إلا بمثابرة وعدم استعجال في الطرح والنقد.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.