- مارثا نيوسن*
- ترجمة: ليال الهطلاني
- تحرير: عبد الرحمن الجندل
أثناء حضوري لمباراتي الأولى في جنوب لندن، علت هتافات مشجعي كرة القدم منبئةً عن حرب شعواء بين مشجعي الفريقين، يصاحبها قرع طبول الحرب -حرفيًا- وعدّة آلاف صفقات متزامنة أحيانًا، مما جعلني أرتعش من الرهبة.
يطغى حماس الجماهير، فتتلاشى الفجوات بين الأجيال والتعصبات العرقية والحواجز اللغوية؛ فالحماس مُغرٍ ومُعدي، ولكن يوجد أيضًا عواقب للحماس الجماعي عندما تتسلط مجموعة من المشجعين على مشجعي الفريق الآخر مهددين بالقتل، ويومؤون بإشارات كحبل مشنقة أو سكينٍ تشق الحلق، فرغم وجود ملعب كرة قدم كامل بيننا إلا أني لا أستطيع تجاهل وجودهم ولا الخطر الذي يشكلونه؛ فقد رمى أحد المشجعين قبل عدة أسابيع طوبة من أعلى المنصة على مجموعة من مشجعي الفريق الآخر تقف أسفلها!
بدأتُ بعدها -بعدّة سنوات- بالبحث عن سلوك مشجعي كرة القدم، قرأت قصص عنفٍ مروعة من جميع أنحاء العالم – شبابٌ يُتركون في بِركٍ من دمائهم فقط لأنهم ارتدوا قميصًا بلون مختلف عن القميص الذي يرتديه المعتدون عليهم؛ وبعضهم يُطعن أو حتى يُركل حتى الموت، وفي الحقيقة فإنّ عنف مشجعي كرة القدم أعقد مما روَتهُ أساطير الشغب.
يمكن تشبيه سلوكيات مشجعي كرة القدم بهيجان الحيوانات، حيث لديهم طقوس المداهنة والعداوة، تسود هذه الطقوس في طريقهم إلى الملعب وعودتهم منه، وفي الشوارع والمقاهي يوم المباراة، يميل المشجعون للاجتماع في أماكن تُرحّب بهم -أو بالأحرى نسّقت لها الشرطة حتى تحافظ على الأمن في أيام المباريات الخطرة-؛ حيث يقع تبادل للشتائم ورمي الأشياء أثناء ابتعاد مجموعتين تدريجًا عن بعضهم البعض، ويميل أفراد المجموعة لسحب بعضهم بعضًا مغادرين قبل تصاعد الأحداث، وإن كلّ ما يتطلبه الأمر لتعم الفوضى في المكان هو أن يقع خطأ طفيفٌ فقط!
إنّ الأعداد الجماهيرية للمشجعين هائلة؛ ولذلك حتى لو كان المشجعون العنيفون أقلية فهم لا يزالون يشكلون عددًا كبيرًا، وبالرغم من الهتافات العنصرية التي تصدح في الملاعب، فقد أشارت الأبحاث إلى أنّ عنف مشجعي كرة القدم ليس محصورًا بعِرْقٍ أو شعْب، ولا حتى بما يُسمّيه علماء النفس “اضطراب التكيّف”، ولا حتى بكون المشجعين رجالًا -فالمعروف عن الرجال أنهم يميلون للعنف أكثر-؛ إذن ما الذي يسبّب كل هذا التلفّظ ورمي الزجاجات والضرب؟
أجريتُ أبحاثًا على مدى ثماني سنوات عن مشجعي كرة القدم في أوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا وأستراليا، وأخبرني المشجعون بأنه: “لا شيء يجمعنا مثل كرة القدم”، لقد شعروا كما لو كانوا ينتمون لقبيلة عندما كانوا صغارًا، حيث يخرجون للصيد كل نهاية أسبوع، وكل ما أرادوه/احتاجوه هو الهيجان كالحيوانات و”محاربة أي قبيلة أخرى تقتحم منطقتهم”!
بدأت أتساءل ما إذا كان انصهار الهوية – وهو شكل متطرف دائم من الترابط الاجتماعي- هو صلب هذه الظاهرة السامّة؛ حيث تصبح الحرب المُتخَيلة بين المشجعين المنصهرين جزءًا لا يتجزأ من هُويّتهم.
أحد المشجعين المتعصبين وشم شعار ناديه على خصيتيه، وبعض المشجعين يُقدّمون فريقهم على أطفالهم!
إنّ انصهار الهُوية يعني شعورًا “بالتوحد” مع الأشخاص الذين يشكلون هويتنا، كعائلاتنا مثلًا، ويسبب هذا الانصهار سلوكيات متطرفة تأييدًا للمجموعة/الجماعة، وتظهر هذه السلوكيات في مبادرة الناس للتبرع بالدم بعد حدوث هجوم إرهابي، أو في مخاطرة الجنود المتمردين بحياتهم في جبهة الحرب فداءً لرفاقهم، وعندما بدأت بحثي شكك البعض بفرضيتي في أنّ انصهار الهوية قد يحدث لسبب “اعتباطي” مثل تشجيع كرة القدم، وأنا أتساءل إن كانوا قد حضروا مباراة كرة قدم في أوروبا أو أمريكا اللاتينية.
التحيّز للمجموعة شائع في ثقافة المشجعين؛ حيث يسافرون من آخر الدنيا لتشجيع فرقهم، باذلين كل ما يستطيعون من وقتهم ومالهم للمشاركة، ويُظهرون ولائهم لفرقهم بكل طريقة ممكنة حتى بوشمهم شعار فريقهم مهما كان ذلك مؤلمًا.
أثناء استطلاعي للرأي مع أكثر من (700) مشجع لكرة القدم البريطانية، اكتشفتُ أنّ أحد المشجعين المتعصبين وشم شعار ناديه على خصيتيه، وأغلب المشجعين إذا جدّ الجِد يُقدّمون فرقهم على أطفالهم وأسرهم، ويتأثر بعض المشجعين بشدّة حتى أنّ هناك ترابطا بين نتائج المباريات وارتفاع أعداد الإصابات بسكتة قلبية؛ إذْ تولّد مباريات كرة القدم انتماءً شديدًا لدرجة دوام ارتباط الفرد مع ناديه وزملائه المشجعين، وعلى عكس انصهار هويات الحشد النموذجية، ففي كرة القدم يذوب المرء وتُطمس هويته ولا يُعترف إلا بهويته كمشجع، وهذا أحد أسباب قوة وحدتهم، وقد قال لي أحد المشجعين أنّه عندما أصيب لاعبه المفضّل: “شعرتُ بالحزن والأسى كما لو كان أخي، لقد بكيت بحرقة حقًا”؛ هذا الشعور “بالتقارب” يظهر بين المشجعين أيضًا، وهو سبب رئيسي للعنف الشديد، حيث يندفع المشجعون ككتلة واحدة واضعين حياتهم على محك الخطر فداءً لأخيه الذي لم تلده أمّه.
يوجد عدّة أسماء لمشجعي كرة القدم المتطرفين حول العالم مثل: “الألتراس” و”الكاجوال” ولكل منهم أسلوبهم المميز؛ إذ لا يرتدون عادة شعارات وألوان فريقهم، ولكن تجمعهم طريقة لباس متعارف عليها بينهم ولا يحتاجون لإعلانها للعامة، إنّ المشجعين المتطرفين ثابتون لا تزعزعهم خسارة فريقهم، إذ إنهم سيقاتلون معه حتى آخر رمق؛ بل قد تزيدهم الخسارات ترابطًا فيما بينهم، علّق أحد المشجعين فقال: “المشجع الحقيقي لا يظهر وقت الفوز فقط بل هو الذي يتمردغ مع فريقه في الطين وقت خسارته”، وأضاف مشجعٌ آخر: “لقد أحبطني فريقي أكثر مما أسعدني، ولكنني أدمنت تشجيع فريقي كما لو كان مخدرات … آملًا مجيء نشوة انتصارنا التالية”.
تبدأ المشكلة عندما تتحول الطقوس الاجتماعية للمشجعين المنصهرين -الذين يضعون مصلحة مجموعتهم أولًا- إلى سلوكيات عنيفة: فتظهر الخصومات الكروية والشجارات الجماعية، وتظهر الوحشية القبيحة التي تخيّم على جو المشجعين منذ سنين. كل هذه السلوكيات التي يراها المجتمع السوي “جنونًا” يراها المشجعون عين العقل. يستهدف المشجعون عادة في شجاراتهم مشجعي الفريق الآخر؛ حيث أظهر المشجعون البرازيليون الذين يسمّوْن: “تورسيدا” -وهم مشجعون متطرفون يُعرَفون بقرع الطبول وعروض ألعاب النار مستخدمين المشاعل- توافقًا أكبر مع بعضهم البعض وعنفًا جسديًا أكثر من المشجعين المتطرفين حول العالم، ولكن الحق يُقال كان عنفهم متمركزٌ تجاه مشجعي الفريق الآخر فقط، كما لا يوجد أي روابط اجتماعية أو طبقية بين المشجعين، عاش المشجعون حياةً جيدةً تقليديةً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وأكّد ذلك شهادات العديد من ضباط شرطة ملاعب كرة القدم، وبالذات المدَرّبون تدريبًا مخصصًا منهم في جميع أنحاء البلاد.
تتآزر مجموعة المشجعين المنصهرين معًا إذا شعروا بأي تهديد يَطال أي جزءٍ منهم، وقد يفعلون أي شيءٍ ليحموا ويدافعوا عن بعضهم البعض، كما تتضاعف العواقب الوخيمة إذا اجتمعت مع شرب الخمر، والأسوأ تعاطي الكوكايين؛ إذْ يبدأ المشجعون المرتحلون فجرًا في شرب الخمر بطريق ذهابهم بالحافلة، صحيح أنّ الكحول تجعلهم مسترخين أكثر عند الظهيرة؛ لكن تحفيز الكوكايين يبقيهم متحمسين حتى الليل، وبالطبع المشجعون الذين اعترفوا بتعاطيهم للكوكايين كانوا الأكثر عنفًا ضد منافسيهم.
يعدّ العنف المصاحب لمباريات كرة القدم مشكلة عالمية، إذْ ارتفعت معدلات الوفيات التي يسببها من البرازيل وحتى إندونيسيا
كأي مجموعة حول العالم يتّحد مشجعو فرق كرة القدم بمستويات مختلفة، ففي صميم قلوبهم يرتبطون بمشجعي فريقهم الذين يشاركوهم مشاهدة المباريات وإشاعات حول الفريق، ويتشاركون روابط حياتية أخرى: قد يكونون أصدقائك أو إخوتك، ثم يأتي بعدهم مشجعو فريقك وبالتأكيد لن تعرف أغلبهم، لكنك تعدّهم من جماعتك، ثم يأتي أخيرًا مشجعو فريقك الوطني؛ فالملايين الذين يجتمعون معًا كلّ بضع سنوات، يجمعهم تاريخ منتخبهم متلاحمين بحرارة هويتهم الوطنية، لا يخطئ أحدكم الآخر أينما كنتم.
مشجعو “الألترا” أو “الهوليجان” -مسميات لروابط المشجعين المتطرفين كما سبق ذكرهم- يميّزون بعضهم البعض حتى لو كانوا على الشاطئ بلباس سباحة، وقد قيل لي إنّ ما يميزهم ليس الوشوم ولا قصة الشعر؛ بل مشيتهم! وثقتهم بأنفسهم، كما يعرف المشجعون المتطرفون بعضهم بأسلوبهم؛ إذ إنهم يجسّدون أسلوب التحفز للخطر، ولا يستطيعون التخلص من “تحفيز الخطر”، فيعيشون بهذه الصفات طوال حياتهم؛ ولكن حتى المشجعين “المتحفزين للخطر” يستطيعون بكل سلاسة التخلص من تحفّزهم عند سفرهم لتشجيع فريقهم الوطني، فيتحد المشجعون المتطرفون جمعيهم تحت مظلة الوحدة الوطنية، متجاوزين كل ولاءاتهم المحليّة ليقاتلوا منافسهم الوطني حتى يعودوا لديارهم.
كمشجع لفريق كرة قدم، يتشارك مع كل مشجع حول العالم نوعٌ من التعاطف، هذه هي الحقيقة، جميعكم يدرك الهدف (حرفيًا)، مهما كان فريقكم الذي تشجعونه؛ فأنتم تتشاركون تجربة السفر لساعات طويلة على متن حافلة لمشاهدة فريقكم المحبوب يخسر تحت وطأة زخّات المطر، تعرفون حلاوة الانتصار على عدوكم المعروف، ورائحة العرق الممزوجة بالجعّة في الحانة بعد تسجيل هدف النصر أثناء آخر دقيقة، تأكد أن تشجيع كرة القدم -كما يعرف أي مشجع- هو قوّة عالمية ساحقة.
يعدّ العنف المصاحب لمباريات كرة القدم مشكلةً عالمية، إذْ ارتفعت معدلات الوفيات التي يسببها من البرازيل وحتى إندونيسيا؛ لكن تلاشت تدريجيًا فورة العنف الحاد من قتالات جسدية وما يتبعها من إصابات دامية -حتى أنّها سميّت يومًا ما المرض الإنجليزي- بعد عقود من العقوبات الصارمة وصلت لحظر دولي للفريق ومشجعيه، وأصبح المشجعون الخطرون يجتمعون – تَعرِفهم الشرطة بمسببي أعمال الشغب الدائمين أو المرتبطين بمنظمات أو عصابات- لقتال متفق على موعده مسبقًا في منتصف الليل في محطة بنزين على جانب الطريق، بدلًا من التجمهر وإغلاق الطريق في منتصف النهار، ولكن بالرغم من كل احتياطات الشرطة وكاميرات المراقبة المكثّفة، فلا تزال تحدث شجارات لحظية بين المشجعين في أيام المباريات المهمّة، وتنفق شرطة لندن وحدها أكثر من: 4.000.000 أربعة ملايين جنيه إسترليني سنويًا، للحفاظ على استتباب الأمن أثناء مباريات الدوري الإنجليزي الممتاز، ولا تدفع الأندية الغنية إلا القليل منه، ولكن بالرغم من كل ذلك يُعدّ نجاح بريطانيا في السيطرة على هيجان مشجعي كرة القدم لا مثيل له.
ينتقل البشر بين مستويات الانتماء بسهولة، يختارون الأنسب للموقف. مثلًا في يوم المباراة فنحن مشجعون لفريقنا حتى الصميم، بينما في العمل قد يجمعنا حب كرة القدم مع مشجع آخر، ولكن المشجع المنصهر ينتمي لفريقه فقط، هويته هي فريقه وفريقه هو هويته، ومتى ما انصهر فلا تراجع عن ذلك.[1]
- مارثا نيوسون متخصصة في الأنثروبولوجيا المعرفية، وهي عضوة في جمعية الأنثروبولوجيا بجامعة كنت، وباحثة في مركز الدراسات الاجتماعية بجامعة أكسفورد.
[1] تحدث أمين معلوف في كتابه: (الهويات القاتلة)، عن ماهية الهوية التي يراها، واتخذ منهجًا تفسيريًا لمعنى الهوية مبنيًا على تجربته الشخصية التي عاشها بين عدة هويات أثارت لديه سؤال هوية الإنسان، وأجاب بما رآه أن الإنسان كائن متعدد الهويات، وليس ذا هوية واحدة. وبالنظر إلى هذه المقالة نجد الكاتب يرى أن الانصهار في الهوية يوصل المرء نحو التطرف، وكأنه يرى ما رآه معلوف من أن هويات الإنسان متعددة، ومتى ما انفرد الإنسان بهوية واحدة إلا ولابد أن ينصهر فيها ومن ثمّ يصبح ضمن الموسومين بالتطرف. وبالنظر للواقع المعاصر، نجد أن الإنسان يعيش أزمة هوية في ظل غياب الدين الذي كان يملأ فراغ الإنسان الهوياتي، فبالجواب عن سؤال من أنت؟ تتعدد الإجابات بين الهوية الدينية، والوطنية، والعرقية، أو كما يقول كاتب هذه المقالة هوية الفريق الواحد، هذا التعدد في الإجابات يشير إلى البعد النسبي الذي نعيشه وغياب المطلقات التي كانت تكفي الإنسان ما قبل الحداثة. بينما لم يكن الإنسان يستشعر إشكالية هذا السؤال في السابق. (المحرر)