- رسامويل بول فريد دي فالوا
- ترجمة: جميلة السواح
تقديم
الانتحار فعل إنساني من المقام الأول، وواحد في كل المجتمعات، ويمكن -حسب إيميل دوركايم، أحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث- تفسير معدل الانتحار من خلال تحليل كلي للمجتمع يُظهر أن الانتحار إما نتيجةٌ لانعزال تام عنه أو انغماس مفرط فيه. وإما أنه مدفوعٌ بيأس ناتج عن مشاكل في العلاقات الاجتماعية أو مشاكل مالية. والمنتحرُ مَن عجَز عن حل مشاكله ولم يجد منها خلاصًا سوى الموت. من هنا اعتقد شوبنهاور أن الأمر متعلق بإرادة الحياة؛ فبالنسبة إليه ينبع الانتحار من الإرادة[1].
يجد الفرد -مدفوعًا بإرادة الحياة- في الموت ملاذًا من الألم. فالذى يحب الحياة وتثقل أعباؤها كاهلَه ويثقله ما ينزل به من مقاديرها المحزنة؛ ينشد التحرر بالانتحار.
يدور تفكيرنا قبل كل شيء حول البحث عن المحرك الحقيقي للانتحار (الموت أو الحياة)، وبناء عليه التمييز بين الانتحار الحقيقي والزائف. فشوبنهاور يشير في الواقع إلى أن الانتحار الذي أبدعته الإرادة ليس رغبةً في الموتٍ بل نحوٌ أخر لإرادة الحياة. يُطرح إذن سؤالٌ عن: لماذا الذي ينشد الموت هو في الحقيقة مُريد للحياة، وإذا كان الانتحار العادي مزيفًا (لأن المنتحر كان يريد الحياة) فما هو إذن الانتحار الذي ينكر فيه المنتحر رغبته في الحياة لصالح الموت؟
ثمة منظوران يستحقان الفحص لبلوغ غايتنا من التحليل؛ الأول الانتحار باعتباره تأكيدًا على الحياة، والثاني الانتحار باعتباره نفيا لها.
1 – الانتحار باعتباره تأكيدًا شغوفًا لإرادة الحياة
غالبًا ما نعتقد أن المنتحر ما عاد راغبًا في الحياة، وأنه بتعبير آخر ينكر بتدميره الكامل لجسده إرادتَه للحياة. في المقابل، الانتحار أبعدُ ما يكون عن إنكار إرادة الحياة، بل هو حسب شوبنهاور تأكيد مفرط للإرادة[2]؛ فلا يريد المنتحر فعلا أن يموت، بالعكس،إنه يريد الحياة عبر تأكيد هذه الإرادة دون أن تشوش عليها أي إرادة خارجية. في هذه الحالة، تجد الإرادة نفسها مكبوحة على نحو يدفع الفرد للتعبير بحرية.
- الإرادة والانتحار
علينا أن نعلم أن مقولة الإرادة أساسية في فلسفة شوبنهاور، لهذا تهيمن على مبدأ العقل ومن ثَمّ على أفعال الفرد. وليست مرتبطة بالموت أو الحياة لأنها لا تستهدف الفرد بل النوع؛ حياةٌ كونيةٌ لا فردية. ومن هنا إشارة المؤلف إلى أن: «العلاقة بين الانتحار ونفي الإرادة هي نفسها العلاقة بين الشيء الجزيئي وفكرته؛ الانتحار ينفي الفرد لا النوع»[3]. ليس موت كلبي هو ما سينفي فكرة الكلب، والأمر ذاته بالنسبة للإرادة.
الانتحار تمظهر للإرادة باعتباره فعلَ إرادةِ الحياة، يتأسس على استعادة قوة الذات التي ليست شيئا أخر سوى قوة الإرادة، ليحيى كغيره من الكائنات. إن ضحية إرادة خارجية سيواجه بعنف العوائق الطبيعية للحياة عن طريق المعاناة، وهو ما سيقوده إلى تدمير نفسه. إن إرادة المنتحر، الإرادة المتجسدة نفسها، تختارُ تدمير الجسد بدلا من تركه ممزقا بالألم. فالإرادة تحتاج إلى التقدم من غير عوائق، ومن يقتل نفسَه يرغب في العيش أكثر من غيره، لأن إرادة عدَمِ الإرادة هي إرادة بنحو ما.
يُبين الانتحار، باعتباره صراع الإرادة مع نفسها، إلي أي حد تمثل الحياة صراعا من أجل الهيمنة؛ إنه تأكيد مفرط بل وشرس للإرادة، و بعبارة أبسط الانتحار من مساوئ الأنانية. مع ذلك، فبما أن الفرد يُحاول عن طريق ظاهرة الانتحار التخلص عشواءً من معاناته، فإن إرادته تتلاشى؛ بما أنها لا تنعدم إلا بعد الموت. لم يعد بمقدوره العيش، ما يعني أن تمظهر الإرادة يختفي لا الإرادةُ نفسُها، فلا قوة بإمكانها تدمير الإرادة، تمظهرها فقط يمكنه أن يتعرض للتصفية من فرد يملك معرفة بها. وهذا حال المنتحر الذي تجرفه إرادةُ الحياة فيبحث بنحو ما عن التحرر. هذا التمظهر موجود أيضا في الموت الرحيم؛ حين يُتوقع أن الموت يريح المريض، ويخلصه من آلامه. وهنا بالتحديد لدينا خيار موافق للإرادة (أو إرادة الطبيعة). يُظهر لنا الألم حين يبلغ أقصى درجاتهِ إمكانية إنكار الحياة، ولهذا يصير المنتحر من وجهة نظره محقا في الإقدام على الموت لأنه يُلفي فيه انتصارا. ويبدوا له هذا النصر كالتالي:
لا أريد التخلص من الألم؛ أريد له أن يمحو إرادة الحياة التي تتمظهر على نحو بغيض إلى الحد الذى يقوي داخلي المعرفة التي بدأت في الانبلاج عن الطبيعة الحقيقية للعالم، وحتى تصير هذه المعرفة المُهدئَ الأقوى لإرادتي ومصدر خلاصي الأبدي[4].
إن شدة الألم الجسدي أو المعنوي يجعل الانتحار أمرا هينا. نذهب في ساعات الوجع إلى فرض بعض الآلام الجسدية أملا في أن تخفف عنا، وتستفز لذة الحياة النزوع نحو الانتحار الذي يدفع الرجل إلى قتال نفسه ليقتلها تماما كما يقاتل الآخرون شخصا ما في صورة مشابهة.
- انتحار العاشقين
فلنسأل أنفسنا بداية كيف يمكن لشخصين على ثقة من حبهما المتبادل، وينتظران العثور على السعادة القصوى غيرَ مفضلينَ التحرر من كل العلاقات الاجتماعية وتحمل أي لون من ألوان المعاناة، بدلا من التخلي عن السعادة و الحياة في آن واحد.
في الوصل (ونعني به الظفر جنسيا بالمحب) تشتد المشاعر فترتفع عن الأرض بل وتعلو عليهما، وتضفي على لذتهما الحسية تجليا معنويا فائقا، فتنقلب المحبة شيئا شاعريا، ويحسب الرجلُ مدفوعا بإرادة العيش أنه يجد لذة قصوى في توحده مع المرأة التي يحب. وفي أعلى مراتب المحبة، إذا ساءت علاقتهما فقدت الحياة زخرفها، وخلت من أفراحها، وعلا في النفس تقزز يدفع الرجل أحيانا إلى الإعراض عن حياته. في حال كهذه، تتلاشى إرادة الفرد في إرادة النوع، ويصبح الفرد غير قادر على التصرف نيابة عن النوع حين يرفض أن يسلك لأجل نفسه، فلا يجد حينئذ حلا إلا في الانتحار.
في هذه الحالة يكون المنفذ هو الانتحار، وأحيانا الانتحار المزدوج لكلا العاشقَين، إلا إذا جرّت عليهما الطبيعة، لإنقاذ حياتهما، جنونا يغطي بحجابه الوعي[5].
يمكن لاعتراض مشاعر المحبة أن يؤدي إلى مسالك تراجيدية لا تسوء العلاقةَ فحسب، بل تؤول بمشاعر الرضى غالبا نحو التعاسة بدلا من السعادة؛ إذ غالبا ما تصطدم مشاعر المحبة ليس فقط بالظروف الخارجية، بل بالهناء الشخصي للفرد. نادرا ما يكون الانتحار، في اعتقاد دوركايم، ناتجا عن الأسباب الخارجية فحسب، بل يفترض انزعاجا جسديا ناتجا عن نفي إرادة الحياة في مكان الانتحار. وبدل أن يقاتل كبطل أو يُستشهد لدفع هذا النفي، يطلب المنتحر موتا لا يريده.
لذلك يدقق شوبنهاور في كون الانتحار ليس السبيل الأمثل للخلاص من معاناة الحياة الإنسانية إزاء عناصر الطبيعة، لأن المنتحر أكثر عبودية لإرادة الحياة من غيره، فهو تعس من حياته لا من الحياة عموما، وبالتالي تعس من إرادته للحياة لا من إرادة الحياة. الانتحار ليس إلا فعلا مجردا من المعنى، والميت لا يرى جدوى من نضاله ضد إرادة الحياة، لذا فالانتحار هو الدليل على قوة الإرادة، وبالتالي على ضعف الإنسان. إنه تصفية لظاهرة فردية ناتجة عن أنانية متضخمة. والمنتحر يدمر جسده لا إرادته في الحياة. الانتحار ظاهرة معزولة وغير مستشرية، ومتعلقة بنفي الإرادة تأكيدا لها وتعارضا لإرادة الحياة مع نفسها. حين يبلغ الإنسان أعلى منازل الإرادة، فإنه يعلن الحرب بمجرد أن يعترض عائق ما إرادته، وهو لا يقود هذه الحرب ضد ما يعترض مجال تأكيده، بل ضد نفسه؛ حرب مدفوعة بالألم. وبفضل المعرفة يمكن للإرادة تصفية نفسها في شخص المنتحر.
يعتبر الانتحار عموما وفي كل أشكاله تأكيدا قويا للإرادة؛ إنه تأكيد مفرط لمصلحته الذاتية. وحين نفسر رغبته فإن الميت أراد أن تُطببه القوة المهدئة (الموت) بعد أن عذبته الإرادة طويلا. يطلب خطأً الموتَ ورغبته هي وضع حد لمعاناته. ولكن وكما يقول ملك التشاؤم (ويقصد به هنا شوبنهاور): لا يجلب الموت أي تغيير لوجودنا.
في النهاية، كما يعني رفضُ التدخلِ الجراحي الإبقاءَ على المرض، فكذلك يعني الانتحارُ الإبقاءَ على الإرادة. الانتحار هو السبيل الذي كان يمكن أن يقودنا إلى نفي الإرادة والخلاص، وهو يشبه مريضا كان ليُشفى لو سمح بإنهاء العملية المؤلمة التي يخضع لها، ولكنه فضل الإبقاء على مرضه، ولهذا يبدو لنا فعلا بلا جدوى وغير ذي معنى، ويعبر على نحو صارخ عن تعارض إرادة الحياة مع نفسها. فمن الأفضل إذن تبني نحوا آخر في الخلاص، عدا الانتحار، لنفي الإرادة.
2- الانتحار باعتباره نفيا لإرادة الحياة
هناك نوع من الانتحار مختلف تماما عن الانتحار العادي؛ إنه الموت الطوعي بالجوع المدفوع بنوع من الزهد. في الواقع، يمكن أن تصل الطيبة واللطافة والفضيلة التي تلغي كل اختلاف أناني بين فرد وآخر إلى رقة لا مبالية، إلى أكبر قدر ممكن من إنكار الذات. يعبر إنكار الذات عن نزعة زهدية، عن تضحية طوعية بالنفس لصالح الأغيار ولصالح مثل أعلى. تخترق هذه الرؤية حاجز الأنانية، لأن الفرد في هذا المقام يعتبر آلام الآخرين كآلامه الخاصة. ويكون فرد كهذا مستعدا للتضحية بنفسه لإنقاذ الآخرين. بما أن آلام الآخرين تثقل وجوده، فإنه لا توجد معاناة غريبة عنه ولا ألم يعترضه. لم يعد ينظر إلى تناوب الخير والشر أمامه، والذي يحد من نظرتنا ويجعلنا عبيدا للنزعة الأنانية، بل يعتبره جوهر الحياة ذاتها. سيمس هذا شخصه بأذى شديد إلى الحد الذي يدفعه لإرادة العدم؛ الموت. يقودنا إنكار الذات والاستسلام إلى العدم؛ أي إلى الانتحار باعتباره إلغاء كليا لإرادة الحياة.
1.2 نكران الذات
من الناحية الإيثيمولوجية/ التأثيلية، تعني كلمة التضحية بالذات نفيا للحياة؛ الاستسلامَ و الهدوءَ الحقيقيَ إلى حين التوقفِ التام لإرادة الحياة. تنبع التضحية من مراعاة معاناة الآخرين. فحين يمارس الإنسان فضيلة الزهد لا يثبت فقط محبته لأخيه، بل يذهب إلى حد التضحية بمصلحته الشخصية لصالح مثال ديني أعلى؛ يرفض كل إشباع حسي تحت أي ظرف كان، ويتبنى العفة بما تحيل عليه من إلغاء ذاتي لإرادة الحياة.
تعبر النزعة الزهدية عن ممارسة دينية قائمة على انضباط أو مبدأ أو سبب لحياة متزمتة. الزاهد هو الشخص الذي يحتمل معاناته إلى حين موته، مستحثا إيمانه عن الامتناع عن تلبية ملذات الحياة. وينتهي الزهد بالاستشهاد باعتباره وقفا كليا للإرادة. الاستشهادي منتحر يقبل الموت بغرض منح القدوة لأقرانه، ويمنحه إيمانه قوة تدفعه للخروج عن السلوكات الدنيئة.
يعمل الشخص الزاهد على محاولة التعالي على نفسه من خلال التقشف. ينشأ هذا الامتناع الطوعي عن الرغبات عبر المعرفة المباشرة باعتبارها شفقة/ رأفة. إنه المبدأ الرديكالي للقداسة، الذي تمليه مختلف العقائد الدينية. بتعبير آخر؛ يتعلق الأمر بالسمات المكتسبة التي تدفع للتخلي عن إرادة الحياة. يستلزم هذا، أن من يمارس الزهد لا يتلقى أي متعة من الحياة. يعيش الزاهد في تواضع حقيقي: «يقابل بلا رياء الشر بالخير، ولا يسمح باتقاد نار الغضب من جديد في نفسه أكثر من اتقادها في رغباته».
يتجنب الزاهد بالصيام كل رغد لكسر إرادة الطبيعة. ومن هنا تنبع الرغبة في الموت انتحارا، لأن الموت لم يعد يخيفه. وعكس المنتحر الأناني، فإن الزاهد يتلقى الموت بابتهاج باعتباره الخلاص الذي طال انتظاره. هذه هي الحياة التي يحسد عليها، من بين آخرين، العديدُ من القديسين والأرواح الجميلة؛ المسيحيين والمسلمين والهندوس والبوذيين والمخلصين من أتباع الديانات الأخرى. وهو ما يظهر الماهية العميقة للقداسة ونزعة الزهد ونفي الذات والصراع حتى الموت ضد الأنانية.
مع ذلك، يجب استثناء التفجيرات الانتحارية من الاستشهاد. فهنا يُظهر الشخص الانتحاري إرادته في الحياة لأنه مدفوع بأنانيته المهووسة بالفردوس السماوي، وبغيرته وكراهيته إزاء حرية الغير لا بمحبة أخيه. الهجوم الانتحاري فعل يهدف إلى الإضرار بممتلكات وحياة الغير. تبعا لذلك، فإن الانتحاري على الرغم من الموت، يعبر بقتل نفسه عن رغبته في العيش.
ما يميز نزعة الزهد هو الفعل المعتبر من الناحية الأخلاقية، والمشتق من الماهية العميقة للعالم و من معارف حدسية ومباشرة، لا من أفكار مجردة. لا يوجد نفي لإرادة الحياة ضمن المفاهيم المجردة، وإنما في الفعل و السلوك وطريقة العيش. وهو،حسب شوبنهاور، الجانبُ الأرقى للإنسانية، والدوغمائية القصوى التي تحيي بقوة روح التخلي والعطاء. فلننظر إلى الحواريين الذين التزموا بمحبة إخوانهم حُبَّهُم لأنفسهم، وبفعل الخير، والإقبال بالمودة على من يكرههم ويسئ إليهم؛ بالافتقار الطوعي، وإنكار إرادة الحياة، والتفكر في الله. يبدو على ظاهرهم الحزن والبؤس والتعاسة، بينما تمتلئ بواطنهم بالفرح والسلام الإلهي. إنهم في الحقيقة يعيشون سلاما لا نغص فيه وهدوءا عميقا، وطمأنينة دفينة.
إن الإنسان الذي يخوض هذه المعركة ضد طبيعة نفسه يصبح بعد نصر كهذا مرآةَ العالم الهادئة[6]، ويحافظ بهذا المعنى على ثباته أمام قيود إرادة الحياة المختلفة من غضب وخوف وغيرة وجشع، وغيرها من الانفعالات التي ترج كياننا. في هذا الصدد، تؤكد السيدة غيون (Mme Guyon)، الفرنسية المتصوفة، في كتابها: حياة السيدة غيون:”كل شيء عندي سواء؛ ما عدت راغبة في شيء، ويبدو لي مستحيلا أن أعرف هل أنا موجودة أم لا”. وتضيف: “في ظهيرة المجد،نهارٌ لا ليل بعده، وحياة لا تخشى الموت وهي فيه، لأن الموت انتصر على نفسه ولأن الذي ذاق الموتة الأولى لن يذوق الثانية بعدها”[7].
هو ذا الرَّوْح، زهرة القداسة ونعيم القديسين الذي يتجلى، رغم استحالة أي ذوق للراحة الأبدية على الأرض، كمعركة متواصلة ضد إرادة الحياة. وعبر الحرمان من لذة الحياة يسعى القديسون والزهاد والمؤمنون بجهد وألم شديد إلى الثبات على هذا الطريق، نتيجة لذلك يكون الزهد من منظور شوبنهاور: “إبادة اللذة والبحث عن المعاناة”.
يتوقف الفرد، في هذا المستوى، عن إرادة الحياة. ويعكس هذا لنا شخصية على قدر عال من النبل في شيء من الحزن الصامت إزاء معاناة الآخرين، ويحركنا هذا الحزن بنحو عميق نصير معه قادرين على فتح ذراعنا للتعساء. يَنتج إنكارُ الذات عن ما يهدئ الإرادة، والذي بدونه لا نجاةَ حقيقة من الحياة كخلاص. الحب الحقيقي، إرادة خيرة، تنتقل بالحدس الذي ينظر لما وراء مبدأ الفردانية [ الأنانية] إلى درجته الأكثر علوا؛ القداسة. تنبع هذه الخصائص من الاستسلام، عبر الهدوء العميق الناتج عن الحرمان من الحياة حد إرادة الموت.
2.2 العدم وترتيب النعمة
بمجرد أن يحملنا الاعتقاد الديني على نفي إرادة الحياة، تقودنا الحكمة إلى الهاوية؛ إلى العدم. يظل هذا العدم الشوبنهاوري مرتبطا أساسا ودائما بموضوع محدد بدقة؛ كل عدم يجب أن يوصف بكونه عدما مقارنة بشيء موجود، وهذا الشيء الموجود يُفلت من العقل« نموذجا للا مُفَكرٍ فيه »[8]،حيث نتمسك بما لا يمكن تصوره. وكتمثيل حي لأوجاع الآخرين، يتحول العدم من باب أولى إلى تعبير إيجابي يحيلنا مباشرة على مآسي الحياة. وما يمكن اعتباره إيجابيا هو الموجود الذي يعبر عن النفي بمفهوم العدم، هذا النفي يعمل على تأكيد عدم الوجود باعتباره موضوعا للإرادة، وبتعبير أدق: يتعلق الأمر بنفي أو خلق فراغٍ إزاء كل ما هو موجودٍ في الزمان والمكان: «ويصبح الحديث عن النفي والتصفية وتحويل الإرادة، في نفس الوقت، حديثا عن تصفيةِ وتدميرِ العالم الذي هو مرآة للإرادة»[9] وهنا، تغرق الإرادة في العدم وتنفصل من علاقة الزمكان.
يكشف العدم لنا رؤية جديدة للعالم ومعنى هو الأعمق للحياة، يصرفنا فيه الألم عن الإرادة ويقودنا للهدف الحقيقي للحياة. يصير الذي لا يريد الحياة منقذا للحياة، وتبدو حياته في ظاهر الأمر تراجيدية، بينما في الحقيقة يبذل جهدا لتجاوز ملذات الحياة ووجوده الفردي إلى أن يغادر هذا الوجود الدنيوي بلا ندم. وفي هذه النقطة تصبح المعاناة وسيلة لتطهير الإنسان وتخليصه من خطاياه، وهذا يعني إرجاعه إلى طريق غريب تماما عن الإرادة. و تملك المعاناة « فضيلة مقدسة»[10] يكون عندها الموت في أعلى درجاته هدفَ الحياة الحقيقي ونتيجتَها وملخصَها. وبمجرد موته يصبح مستحيلا علينا الاستغراق في تأمل جثة الإنسان القوي الذي ضحى بحياته لصالح الآخرين دون احترامه. نتحدث إذن عن حياة الأبطال والشهداء، حياة تصير منبع إلهام ومرجعا ونموذجا يشجع الآخرين على التصرف بالمثل.
كل هذه الاعتبارات ترسم لنا طريقا مقدرا لإنسان شوبنهاور القوي، وهو قوي لأنه يقتل نفسه دون أن يريد العيش.
ولاتباع هذا الطريق يعمل بامتعاض بكل قواه ليؤسس وجودا أكثر انسجاما وإمتاعا وكمالا، وجودا لصالح أشباهه الذين مازالوا على قيد الحياة. ويعمل لذلك بعينين ثابتتين، ويُفقر حياتَه من أجل خلاص الجميع ويجعلها أكثر فراغا (عدما)، في «معاناة نافعة»[11] هي العلاج لكل مآسينا.
خاتمة
ختاما، يَبعُدُ الانتحار عن كونه نفيا لإرادة الحياة، بل تأكيدا شغوفا لها. يرغب المنتحر في تأكيد إرادته دون أي عائق. ويجد بقتل نفسه منفذا من المعاناة. وهو بذلك جبان لأنه يسمح لأنانيته بأن تحمله على تدمير جسده. إن الذي يحب الحياة وتثقل أعباؤها كاهلَه، يرجو بالانتحار الخلاص. تقودنا متعة الحياة إذن، إلى الانتحار الذي يلجأ إليه الإنسان بدافع وهمي لتمزيق نفسه حتى الموت. لذا فإن النزعة الزهدية انتحار حقيقي باعتبارها تدميرا طوعيا للإرادة. يوجد في الغالب فارق بسيط بين الموت الإرادي المدفوع بالنزعة الزهدية المتطرفة، والانتحار المدفوع باليأس. بالنسبة للزاهد فإن محبة الآخرين بقدر حبه لنفسه غير كاف، بل يلزمه التقزز من ماهية إرادة الحياة نفسها. يبعد أن ينتحر الزاهد تحت تأثير إرادة الحياة، بل يتوقف عن الحياة بتوقفه التام عن الإرادة. تنبني النزعة الزهدية على التدلل، والافتقار طوعا وقصدا، والإعراض عن كل ارتباط دنيوي حد الخضوع التام؛ الموت.
باختصار، الانتحار العادي انتحار زائف لأن المنتحر يستنجد بالموت طلبا للحياة، والانتحار الحقيقي إذن موجود في الانتحار المدفوع بنزعة زهدية، لأن الزاهد يرغب حقا في الموت ويستقبله بابتهاج.
[1] الإرادة هنا لا يعني بها شوبنهاور فقط القوة الذاتية والداخلية للفرد بل أيضا القوة المحركة للعالم والطبيعة وما يسميه هو بإرادة العالم
[2] Cf. SCHOPENHAUER A., Le Monde comme Volonté et comme Représentation, Tome 1, traduction d’A. Burdeau, éd. 7, Librairie Félix Alcan, Paris, p.416.
[3] Cf. SCHOPENHAUER A., Le Monde comme Volonté et comme Représentation, Tome 1, traduction d’A. Burdeau, éd. 7, Librairie Félix Alcan, Paris, p.417.
[4] Ibid., p.418.
[5] Arthur SCHOPENHAUER, Le Monde comme Volonté et comme Représentation, traduit en Français par Auguste Burdeau, Paris Librairie Felix Alcan, 108 Boulevard Saint Germain 108, 1912, numérisé par Guy Heff, 2013, p.2295.
[6] Cf., Arthur SCHOPENHAUER, Le Monde comme Volonté et comme Représentation, traduit en Français par Auguste Burdeau, Paris Librairie Felix Alcan, 108 Boulevard Saint Germain 108, 1912, numérisé par Guy Heff, 2013, p.894.
[7] Arthur SCHOPENHAUER, Le Monde comme Volonté et comme Représentation, Tome 1, traduction d’A. Burdeau, éd. 7, Librairie félix Alcan, Paris, p.409
[8] Arthur SCHOPENHAUER, Le Monde comme Volonté et comme Représentation, traduit en Français par Auguste Burdeau, Paris Librairie Felix Alcan, 108 Boulevard Saint Germain 108, 1912, numérisé par Guy Heff, 2013, p.936.
[9] Arthur SCHOPENHAUER, Le Monde comme Volonté et comme Représentation, traduit en Français par Auguste Burdeau, Paris Librairie Felix Alcan, 108 Boulevard Saint Germain 108, 1912, numérisé par Guy Heff, 2013, p.936.
[10] Cf. Arthur SCHOPENHAUER, Le Monde comme Volonté et comme Représentation, traduit en Français par Auguste Burdeau, Paris Librairie Félix Alcan, 108 Boulevard Saint Germain 108, 1912, numérisé par Guy Heff, 2013, p. 904.
[11] Arthur SCHOPENHAUER, Le Monde comme Volonté et comme Représentation, Tome 1, traduction d’A. Burdeau, éd. 7, Librairie Félix Alcan, Paris, p.427