- عكرمة الأنصاري
اسم الكتاب: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام – الجزء الأول-
المؤلف: علي سامي النّشار
سنة الإصدار: الطبعة التاسعة (دون تاريخ)
دار النّشر: دار المعارف، كورنيش النّيل، القاهرة.
عدد الصفحات: 572
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
هذه قراءة تلخيصية مع تسجيل للملاحظات لكتاب “نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام” الجزء الأول للمفكر المصري الكبير سامي نشار والذي توفي في الرباط 1980م وترك نتاجا مهما في الحقل المعرفي. ويعتبر نشّار امتدادا لجيل النهضة المصري الذي نشأ مع بداية الدولة الخديوية، وكان من أكبر معاقله دار العلوم التي ضُمّت لاحقا لجامعة القاهرة.
وتنبغي الإشارة إلى منهج في الإحالة اعتمدته في هذه الخلاصة والملاحظات، وهو: إثبات رقم الصفحة داخل المتن إن كان الشاهد منقولا بنصه فيما أكتفي بالهامش في حالة المعنى أو روحه والطبعة التي تم الاعتماد عليها من منشورات دار المعارف القاهريّة وهي التاسعة للكتاب (د.ت)
البداية: من مقدمة الطبعات وتنويهه ببعض التعديلات التي أجراها على مصنّفه، مما ظهر له بعد كل طبعة وهذا يدل على أصالة المراجعات العلميّة عنده.
ويخلص في هذه المقدمات أن التفسير الموضوعي المحايد هو الأنجع في معالجة الفكر عامة والاسلامي خاصة[1] مع إقراره بمساهمة المناهج البحثيّة الأخرى في دراسة هذا العلم.
وفي تصديره[2] يؤكد على أصالة الفلسفة الاسلامية واستقلاليتها، كما هو حال بقية الفلسفات الأخرى (الهندية والإيرانية) كل ذلك مقارنة مع اليونانية التي يبدو أنها هي التي ينظر إليها على أنها الأصل وغيرها الفرع وهذا ما لا يرجحه، وخاصة ما يتعلق بالجانب الاسلامي، وأن الموضوع كله ليس إلا تمازجا مع بقية الحضارات مع الحفاظ على الجوهر.
وقد أشار بدور مصطفى عبدالرازق ومحمود الخضيري ومحمد مصطفى حلمي ومحمد عبدالهادي أو ريدة، في خلق مدرسة فلسفية إسلامية جادة تأخذ معطياتها من المظان الحقيقية، وما نتج عنها من نواة صلبة في “دار العلوم” على يد محمود قاسم الذي أسس لمدرسة ذات طابع عقلي والذي أخذ عليه تعظيمه للمعتزلة والرفع من شأنهم، فيما هو أي – النشّار- يرى “أن الأشعرية آخر ما وصل إليها العقل الإسلامي الناطق بالقرآن والسنة” ويختم مقدّمات طبعات مصنّفه بالتأكيد على استقلالية المدرسة الفلسفية الإسلامية عن اليونان ودعا من قال ذلك بالكف عن “ظلم عقيدتهم وتراثهم وكيانهم.” ثم مباشرة يأتي:
مدخل عام للفلسفة الإسلامية
يذكر في أول فصوله أثر القرآن، على تفكير العرب الأوائل، وقبل أن يدخل في تفاصيلها يثبت في بدايته ” أن اليونان هم سادة الفكر الإنساني ورواده” إلا أنهم كما يقول في مسألة الدين لم تكن لهم نظرية متكاملة فكانت النتيجة “دينا مختلا، وأساطير غامضة، وتصورات مريضة” ص29 كل هذا تمهيد لدور العرب في بناء الفكر الفلسفي بعد أن اختص اليونان بالفلسفة والعلم وحرموا الدين وبعكسهم أبناء إسحاق كان أبناء إسماعيل – العرب- هم من جمع بين الطريقتين وأسسوا منهج حياة متكامل، ونجحوا في تحويل ملاحظاتهم الحسية والمادية قبل الاسلام إلى فكر متماسك، بعد أن أتخلص من ” تفكير الجاهلية الشارد” ص31 بفضل العامل القرآني، الذي أوجد أجوبة على القضايا الكبرى من ألوهية وأخلاق وإنسان فهو “وضع الخطوط الرئيسية للوجود كله” ص32 وشرع في ضرب الأمثلة على كل جزئية مما سبق، وانتهى إلى نتيجة أن الفلسفة القرآنية أعلنت عن حقيقتين:
1- حقيقة توفيقية 2- حقيقة توقيفية. فالأولى أنتجت العلم التجريبي والثانية أدت لظهور العلم النظري[3]
وساعد في نضوج هذه التجربة الإنسانية المتكاملة أن “أميز خصائص هؤلاء القرآنين قبل الاسلام أنهم كانوا واقعيين حسيين” ص35 ثم أتبع ذلك بمناقشة للمناهج الحديثة، ليطرح سؤالا مهما: هل للمسلمين منهج خاص بهم؟ وهو الجواب الذي استلزم من المصنّف، تفنيد ما قرره بيّومي من سيطرة للفكر الأرسطي على دائرة الفكر الإسلامي، مع استغرابه من تجاهل أندريه لالاند للمنهج الإسلامي أثناء تأريخه للتجريبية العلمية، مما يعد “مجافاة لأبسط قواعد البحث العلمي، وخرقا لكل أمانة علمية” ص38 وفي أثناء شروعه في الإجابة على سؤال المنهج الإسلامي يذكر خصائص هذه المدرسة المنهجية، بعد أن يصفها بالتجريبية من خلال “الإدراكي” أو “تأملي” مسهبا بعد ذلك في الفصل بين القياس الأصولي والتمثيل الأرسطي، وكيف أن القياس هو نفسه “أوج المنهج التجريبي” 43 كما نظّر له جون استيوارت مل وحين ينتقل للمنهج “الاستردادي” يجده وثيق الصلة بعلم مصطلح الحديث، كما أن المنهج الجدلي له أصول في كتب البحث والمناظرة.[4]
وهنا لا يفوته التنويه بعملية النقل، التي قام بها روجر بيكون للتراث العربي إلى انجلترا، مع رصد تأثيره على فرنسيس بيكون، ثم يأخذ هذا المنهج بحذافيره جون استيوارت مل! وهو الأمر الذي لا يشك النشّار بأن الأخير على دراية به و” أنه أخذ علم المسلمين ونسبه إلى نفسه” ص44
الإبداع الإسلامي الفلسفي
وتحت هذا الفصل يحاول تحديد مكامن أصالة الفكر الإسلامي، أو ماهية المنهج الذي يظهر فيه الجانب الإسلامي الخالص، والطابع الذي يعبر عن جوهر هذا التميز، وقبل الخوض في تفاصيل إثبات هذا الأمر يشيد بريادية مصطفى عبدالرزاق ويصف محاولته بأنها ” تلتمس منشأ التفكير الإسلامي في كتابات المسلمين أنفسهم قبل أن يتصلوا بالفلسفة اليونانية” ص46 وقد قدم عبد الرزاق رؤية وخلاصة في هذا الموضوع، قررت أنه كان لدى المسلمين “تفكير خالص صدر عن ذاتهم وتفكير تنسيقي كان لهم فيه أيضا حظ من الابتكار” ص47
غير أن هذه الرؤية عليها ملحظ علمي كما يقول النشّار يتمثل في اعتبارها أمثال الكندي و الفاربي وابن سينا وابن رشد وغيرهم، يمثلون مدرسة فلسفية فيها أصالة وإبداع وهذا ما يرفضه النشّار ويعتبره “مجافاة للبحث العلمي” ص47 الذي أثبت أن هؤلاء لا يمثلون الأصالة الإسلامية الفلسفية، ولكي يبين مذهبه في الأصالة حصر ما أسماه بدائرة المعارف الاسلامية والثقافات التي تتكون منها مع ذكر مصادرها الأجنبية[5] ويحشد آراء المستشرقين في تحليل العقلية العربية والسامية، بصفة عامة وخصائصها، والفرق بينها وبين الآريّة، ويخلص في نهاية الباب إلى كون القرآن قد ألهم المسلمين “ميتافيزيقاهم” ثم ما لبثوا أن خاضوا في أدق المعاني الفلسفية على ضوء الوحي، وهذا ما جعلهم يبتكرون منهجا تجريبيّا[6] وهو الأمر الذي سيحاول تفسيره وعوامل نشأته في العنوان التالي:
نشأة الفلسفة الإسلامية العوامل الخارجية والداخلية
في تمهيده شدّد النشار في أكثر من موضع على أنه من العوامل المساعدة في عبقرية المسلمين في المنهج التجريبي تفرغهم له بعد أن كفاهم القرآن “مسائل الميتافيزيقيا” وأن طبيعة العمل الذي تجب عليهم ” تحقيق الأفعال الإنسانية وتجنب المسائل الاعتقادية الجدلية” ص59 وهي النزعة التي سيطرت على جيل الصحابة كما يقول. والتي تنأى بالبحث في الشيء في ذاته أو الجوهر والأعيان، وهي الطريقة التي سار عليها الجيل التالي لهم إلا ما ندر، وهنا يعرض إلى إشكالية كون القرآن ميتافيزيقيا قائمة بذاتها، المطلوب قبولها دون الخوض فيها، فما هي الحاجة إذن إلى قيام المدرسة الكلامية وهي مباحث فلسلفية، فكيف إذن نوفق بين الأمرين.
ومن هنا تتضح الحاجة عنده لتفسير وجود المدرسة الكلامية الإسلامية وتفسيراتها الفلسفية، وهذا يستند في مجمله للعوامل الخارجية، مع عدم إغفال بعض العوامل الداخلية كما هو الشأن في حالة الخوارج مثلا.[7] وقد حدد العوامل الخارجية بالتأثير اليهودي والمسيحي و اليوناني والمذاهب الغنوصية الشرقية، أما العوامل الداخلية فقد حصرها في ثلاثة: 1- عوامل سياسية 2- عوامل لغوية 3- عوامل اقتصادية.
العوامل الخارجية
أولا: اليهودية. وقد تحدث بإسهاب عن الفروقات بين اليهودية والاسلام من حيث النظرة إلى الإله وطبيعة علاقته مع البشر، فيما كان اتفاقهما في عنصري الدين والشريعة، ومن هنا يلتقط بداية التأثر الفلسفي الإسلامي بالعامل اليهودي وهو بحث المفسر الإسلامي عن ما يؤيد ما جاء في القرآن، من خلال الرجوع للنصوص الدينية اليهودية كالتوراة[8] سواء في ما يخص إثبات البشارة بالمصطفى صلى الله عليه وسلم فيما لم يحرّف أو من خلال التأكيد على تحريف حصل في النصوص، التي لا تتوافق مع ما جاء في الوحي، ولأن اليهود اكتشفوا أن “قلعة المسلمين العقلية حصينة، وأن النزاع العقلي المباشر قد ينتهي إلى دحرهم وانقطاعهم” ص68 دعاهم ذلك إلى سلوك طريق الخفاء والسرية والعبث بعقائد المسلمين من الداخل، وكانت البداية من الفتنة الكبرى التي يرى نشّار أن عبدالله بن سبأ من مغذياتها، إضافة إلى أفكار كالرجعة، والنسخ والبداء وغيرها، التي كانت حافزا لقيام لبعض الفرق الغالية مثل الكيسانية، ولأنه كما صوره من فريق علي ابن أبي طالب كان الطرف الشامي أيضا ترصد له يهودي آخر! هو كعب الأحبار الذي كان يظهر بغض أهل الكوفة، وقد نشر السحر وعلوم الصنعة…[9]
ويمضي المصنف في ذكر الأثر اليهودي على الفكر الفلسفي الإسلامي هذه المرة من خلال الإسرائيليات التي دخلت في دائرة الحديث وأنتجت نصوص التشبيه والتجسيم وأحاديث عن أشراط الساعة والميعاد والمهدي المنتظر، وهذه المدخلات وغيرها حفزت على “قيام علم الكلام لنقض ما أدخلوه من عقائد مختلفة في صور أحاديث موضوعة” ص70 وهو من أدى إلى قيام علم مصطلح الحديث، مع التأكيد على أن اليهود ليسوا أصحاب فلسفة متماسكة بل هم عالة على اليونان، منمذجا بدور فيلون في هذا الصدد، ويبقى التراث اليهودي عرضة لتأثيرات بابلية وهندية شكلت في النهاية صورته من خلال مذهبي: الفريسيون والصدوقيون، ويخلص نشار إلى كون اليهودية خالية من البعد الفلسفي، وما وجد فيها إنما هو من تأثيرات خارجية من أهمها المدرسة الإسلامية، ويظهر تأثيرها في طائفة القرائين وداعيتها عنان بن داوود الذي تأثر بالمعتزلة[10]، وفي ما يخص “الربانيون” يمثل بشخصية سعدية الفيومي الذي أخذ مادته من المعتزلة ومنهجه من الأشعرية[11] وللفيومي عظيم الأثر في الفكر اليهودي بعده ومع هذا لم يكن “سوى تلميذ صغيرللمعتزلة” ص83
ويلاحظ في المجمل في ما كتبه نشّار في هذا المبحث الطويل أن معظم مادّته أو كلها إلا قليلا، هي في الحقيقة تتناول تأثير المدرسة الكلامية الإسلامية على اليهودية وليس العكس، كما يقتضي السياق المفترض لترتيب الكتاب، ولعل ذلك هو ما جعله يقرر “أن اليهود لم يؤثروا عقليا أو فلسفيا في المسلمين، ولكنهم نجحوا في إدخال عناصر تخريبية لدى الفرق الخارجة عن الإسلام” ص87 وأعطى مثالا على ذلك العيسوية، الذين يعتقد أنهم أصل للقرامطة[12] وعضد ذلك برأي فريق من الباحثين يذهب إلى كون هذه الفرقة اليهودية هي الباعث الأول للإسماعيلية.
ويمكن تلخيص نتيجة هذا الفصل بالدور الفتنوي لليهود في مسائل”الإمامة” ثم خوضهم في الذات الإلهية، من خلال الأحاديث الموضوعة،إلا أن اليهود ما لبثوا إلا يسيرا، حتى أصبحوا ضمن دائرة التأثير الفلسفي الإسلامي بشكل يكاد يكون شاملا[13].
ثانيا: المسيحية. وفي بداية الحديث عن هذا العامل الخارجي مهّد لذلك بحديث عن المسيحية وظهورها وكيف كان موقف الإسلام منها وأنه لم يكن صداميا، مبينا كيف قدم روايته الوسطية “وأعلن الاسلام إعلانا قاطعا، وفي إصرار عجيب أن معجزة ميلاد المسيح، لا ينبغي أن تصوّر في أي صور مغالية” ص91 وهذا الموقف هو ما تمت به مجابهة وفد نصارى نجران، والذين رأوا بحسب المؤلف عظم الهوة بينهم وبين الدين الجديد، وإن كانت أقل من الفجوة الكبيرة التي بين الإسلام وبين المسيحية في أقطار أخرى، وهي التي تشبعت من الفلسفة الهندية والإيرانية[14] واتسم الفكري بين الإسلام والنصرانية باللين والرفق، حتى عصر يوحنّا الدمشقي زمن الأمويين، ثم استعرض المصنّف أسماء بعض الشخصيات التي كان دور في الجدل الإسلامي النصراني حول العقائد من الجانبين، وبعض التعريفات التي قدمها علماء الإسلام لمفهوم المسيحية والمسيح كما فهموها من المصادر النصرانية ثم عرج على التعريف بالملكانية، النسطورية، اليعقوبية، وكيف وظّف الشهرستاني عقائد النسطورية لتنزيلها على واقع المعتزلة “تلك المحاولة التي يحاولها الشهرستاني من ربط مذهب المعتزلة بالمذهب النسطوري، ومحاولة مقارنة آراء أبي هاشم الجبائي بآراء نسطور” ص97 وهي المحاولة لم ترق للمصنف وأعاد سببها للخلاف المذهبي بين الشهرستاني الأشعري، وخصومه من المعتزلة وبالتالي فالخطأ في هذه المحاولة أكثر من الصواب.
بعد استعراض لأهم الفرق المسيحية والرد القرآني عليهم بالتفصيل تطرّق المؤلف لمناقشات بعض المسلمين لهم، أمثال أبي علي الجبائي والقاضي عبدالجبار، إلا أن تركيزه الأكبر كان من نصيب الباقلّاني في كتابه “التمهيد”[15] وهي المناقشة التي “أنتجت تفكيرا إسلاميا خالصا في الجوهر والعرض، وفي الجوهر والأقانيم، وفي الاتحاد والتجسم، وقدمت لنا فلسفة متناسقة مع القرآن، في مناقشاته مع المسيحية” ص100 فهذا الاحتكاك كما يشير المصنف دون أن يجزم به أدت إلى ظهور قضية الصفات والجدل الذي رافقها لأجيال وأجيال، وإن كان هناك اختلاف بين المتكلمين من الجانب الإسلامي والمسيحي فيما يخص المادة والمنهج.[16]
ويمكن القول: إن هذا العامل الخارجي في ظهور الفكر الفلسفي للمسلمين لم يحدد المصنف في ثناياه أي مثال حاسم مصدره المسيحية وخاصة أنه شكك في مصادر بعض معتقدات المعتزلة، كما ذكرها الشهرستاني، وقدم تفسيرا مختلفا لهذه المقولات وهذا ما يجعل هذا العامل بناء على توصيف المؤلف ضبابيا.
ثالثا: الفلسفة اليونانية. يبدأ هذا الفصل بالتأكيد على المباينة بين الإسلام والفلسفة اليونانية من حيث المنطلقات، فالتعارض بينهما جوهري، وفي مبحث انتقال الفلسفة اليونانية إلى العالم الإسلامي، يفنّد رواية حرق مكتبة الاسكندرية على يد عمرو بن العاص، بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب، داعما تفنيده بعدد من القرائن[17] وهذا ما جعله يشكك في الرواية المنتشرة عن تاريخ نقل هذه الفلسفة، وأن ذلك حصل في العصر العباسي، وهذا لا يقلل من أهمّيته منذ زمن المأمون، وتأسيس بيت الحكمة في توثيق الصلات بين الفلسفة اليونانية والعالم الإسلامي، والدور الذي قام به المترجمون الأوائل( يوحنا بن ماسوية وحنين بن إسحاق وابنه وثابت بن قرة) نماذج ومن هؤلاء تلقى الكندي وابن كرنيب وأبو زيد البلخي ” وقد كان هؤلاء حقا كما يقول ابن تيمية، فراخ اليونان وتلامذة الروم” ص107 ويعيد نشّار تأكيد ما ذكره في بداية الكتاب، من نفي إسلامية فلسفة هؤلاء بل يعتبرهم تلاميذ أمناء للفلسفة اليونانية، التي دخلت الحيز الإسلامي في وقت مبكر مستشهدا بعدد من المصادر كما يعتقد أن الصلات بين اليونان والمسلمين أخذت أشكالا متعددة [18]، كما أنها كثيرا ما تمت عبر وسيط ثالث غالبا السريان، وهو ما جعل التراث المنقول عرضة للتشويه والتلفيق بين المذاهب اليونانية المتعارضة، وخاصة بين الآراء المشائية والأفلاطونية المحدثة، وهذا ما لم يتضح إلا بعد شروحات ابن رشد.
ويطيل نشّار النفس في تفصيلات هذه الصلة، وما أدت إليه من معرفة شبه كاملة بالفلسفة اليونانية، سواء بصورتها المشوّهة أو الحقيقية، ويؤكد على أن مؤرخي الفلسفة اليونانية من المسلمين أشاروا قبل نيتشه إلى المصدر الديني لتلك الفلسفة، ثم يكمل بذكر أهم المدارس كما تناولها المسلمون.
المدرسة الطبيعية: تناول المسلمون في دراساتهم هذه المدرسة وهي الآيونية، كما تحدثوا عن معلمها الأول طاليس، والفكرة الرئيسية التي ينادي بها أن المبدع الأول هو الماء، ومنه أبدعت الجواهر كلها “لكن سرعان ما يمزج الإسلاميون أقواله بأقوال أرسططاليس فالكواكب تدور حول المركز، دوران المسبب على سببه بالشوق الحاصل منه إليه وهذه أرسططاليسية واضحة” ص115 ولم يقف دور مؤرخي الفلسفة اليونانية من المسلمين عند هذا بل حاولوا تطويع نظريات الفلاسفة لتتوافق مع الدين والتوحيد بمفهومه الإسلامي، ضاربا لذلك أمثلة بتفسيرات الشهرستاني، وهو الأمر الذي يعلله نشار بمحاولة النقلة من المسلمين، تقديم صورة إيجابية عن هؤلاء “حتى يتقبل المجتمع الإسلامي هذه الآراء، وحتى لا يقف منها موقف العداء” ص116
وعند تناول شخصيات هذه المدرسة يقف طويلا عند نكسمندريس وأن الإسلاميين أخذوا صورة مشوّهة عن فكره “اللامتناهي” وجعلوه على طريقة الصفات الإلهية، رغم أن فكره قد وصل إليهم بشكل صحيح أيضا[19] إلا أنهم اختاروا الجانب التلفيقي المشوّه.
الفيثاغورية: وهذه المدرسة وصلت أفكارها بشكل جيد للمسلمين عن طريق المبشر بن فاتك وكتابه (مختار الحكم ومحاسن الكلم) فقد قدم في كتابه شرحا وافيا لفلسفة الرجل وكذلك غيره من المصادر وخلاصته أن الأعداد هي أصل الموجودات “غير أن الصورة المشوهة لفيثاغورس ما لبست أن انتقلت إلى الإسلاميين، في صورة الفيثاغورية الجديدة” ص124 فتكون نتيجة ذلك ظهور المذهب الفيثاغوري الحديث، وهو مذهب خليط بين الأفلاطونية والفيثاغورية.[20]
ويذهب النشار إلى أن الفيثاغورية لم تجد قبولا يذكر لدى مفكري الإسلام إلا في رمزية العدد – اثنا عشر- كما هو حال الشيعة الإمامية، هذا في حالة التسليم بعدم وجود رابط من الوحي مع هذا العدد[21] إلا أن هذا الحكم يبقى صالحا لجمهور المسلمين، لأن أثر الفيثاغورية جلي في الإسماعيلية وإخوان الصفا وهي الفرقة التي حكم عليها السنة والشيعة بـ”وضعت لتقويض العقائد الإسلامية بما حوته من مذاهب يونانية وفارسية- أي غنوصية ونسبت دائما إلى الباطنية والقرامطة ولقد لعن المسلمون القرامطة والباطنية إلى يومنا هذا” ص129 كما أن البهائية في العصر الحديث تأثرت أيضا بالفيثاغورية الجديدة، هذا على مستوى الفرق الفكرية.
أما ما يتعلق بالأعلام فيرصد النشّار من خلال نقولات من مصادر متعددة عن من تأثر بالفيثاغورية من المحسوبين على المسلمين ويذكر منهم: محمد بن أبوبكر الرازي 310هـ ويحي بن عدي 364هـ وأبو زيد أحمد البلخي 322هـ كما أن للكندي هـ257 رسالتين في الفيثاغورية المحدثة.[22]
وأنهى هذا المبحث بقوله “إن الفيثاغورية القديمة عرفت لدى الإسلاميين في ثنايا الفيثاغورية الجديدة، وكان للفيثاغورية عامة أنصارها القلائل ولكن الإسلام في أشخاص ممثليه من متكلمين لم يقبلوا هذا الاتجاه أبدا” ص 132
المدرسة الإيلية: حظيت هذه المدرسة بمعرفة كافية من قبل “الإسلاميين” وتناولوا شخصياتها بالدراسة والمناقشة بداية من اكسانوفاون ونهاية بمليسوس مرورا بزينون وقدم المصنّف لمحات موجزة عن كيف تناول الكتاب الإسلاميون أعلام هذه المدرسة، ناقلا عن اليعقوبي أن طائفة من أصحاب زينون هم السفسطائية وقريب من هذا ذكر المبشر بن فاتك ويلحظ الدكتور نشار عدم دقة ما ذكره الشهرستاني عن زينون وأنه “نسب إليه أقوالا لا تمت له بصلة ” ص134
والنتيجة التي يختم بها: معرفة الإسلاميين بفلسفة إيليا إلى حد كبير وإن كان هناك بعض الخلط بينها وبين الفيثاغورية الحديثة والأفلاطونية الحديثة.[23]
مدرسة التغير: هرقليطس: يصف الدكتور نشّار مؤسس هذه المدرسة بأنه أعظم فلاسفة اليونان قبل سقراط، ويعده من أعظم فلاسفة الدنيا ويطرح في بداية المبحث سؤالا تقليديا عن وصول فلسفة هذا الرجل للإسلاميين وكيف وصلت وهل كان لها تأثير نافذ في فكرهم وفلسفتهم؟
وقبل أن يشرع في تفصيلات الجواب، أكد على أن كتاب الطبيعة لآرسطو قدم صورة متكاملة عن فلسفة هرقليطس، وأبرز ما وجده محور فلسفته وهو كون أصل الوجود هو النار وأن الوجود جسمي وهذا الكتاب معروف عند “الإسلاميين” ثم زادت فلسفة هرقليطس إيضاحا من خلال “كتاب الآراء الطبيعية” لفلوطرخس
ويخلص نشار بعد استعراض عدد من المصادر الوسيطة أن هناك صورة واضحة لهرقليطس في الكتب المترجمة في العالم الإسلامي[24] ويستطرد في ذكر الشواهد على هذه المعرفة.
وفي ما يخص أثره على الفكر الإسلامي سواء بشكل أو غير مباشر، يعتقد الدكتور نشار أن الجواب على هذا السؤال يحتاج إلى بحث أوسع ويسجل بعض أنواع التشابه في الحركية بين المنطق الإسلامي وبين منطق هرقليطس “مع اختلاف كامل في الوسائل والغايات”ص140 إلا أنه يمكن حصر بعض المؤثرات والأفكار، كما في الجسمية التي يؤمن بها مجسمة السنة والشيعة، الذين أخذوا هذه الفكرة من الرواقية المتأثرين بهرقليطس كما أن طوائف من الصوفية قد تأثرت بفكرة النار، ويذهب النشار أن الأثر الظاهر لهرقليطس في العالم الإسلامي، يكمن في التغيّر وما يتبعها من فكرة السنة الدور أو السنة الكبرى وهي التي أخذ بها إخوان الصفا كما أن هناك من يتهم النظام بأنه أخذ فكرة التجدد من الفيلسوف اليوناني.
الطبيعيون المتأخرون: والبداية من أنبادوقليس وتتسم معرف “الإسلاميين” بالتباين بين الصحة والخطأ ويرجح أن من أسباب ذلك “أن الأسطورة حاقت به في العالم اليوناني نفسه” ص142 وينقل ماذكرته المصادر الإسلامية عن هذا الفيلسوف، كمعاصرته لداوود عليه السلام، وتلقيه الحكمة من لقمان، ثم تعلق الإشراقيين به، وأن السهراوردي عده من جملة الأصفياء والأنبياء والأولياء[25] ويعلق المصنف على هذا “ومن الثابت قطعا أن أنبادوقليس لم يكن إشراقيا” ص 143 وبنفس الدرجة من القطعية نفى نشّار توصيف الشهرستاني لمذهب أنبادوقليس في الحركة والسكون[26] ومع هذا التشويش الذي يسود تصوير”الإسلاميين” لفكر أنبادوقليس، والذي يحمل الدكتور مسؤوليته لترجمات منحولة ودخيلة، إلا أنه يعتقد أن فكره قد وصل للدائرة صحيحا و كاملا وقدم لذلك أمثلة كلها متفقة على أركان فكره النار والهواء والماء والأرض، مع مبدئي المحبة والغلبة، وهذا ما يؤكد عليه بقوله “نرى من هذا أن الإسلاميين عرفوا الأصول الأربعة لأنبادوقليس حتى في صورتها الميثلوجية المعروفة عند اليونان” ص152
ويقدم نشار في نهاية المبحث خلاصة عن حالة التأثر الإسلامي بفكر أنبادوقليس ويجملها في أمرين:
1- صورة فكره الحقيقية: لم يتأثر بها أحد من طوائف المسلمين سواء ما يتعلق بالعناصر الأربعة.
2- الصور الملفقة والتي قوّل فيها ما لم يقل ويعرف فهذه أثرت على طوائف من الباطنية والصوفية.[27]
وفي تناوله لأنكساغوراس ركز نشار على طبيعته العقلانية، وغياب الجانب الغيبي من أفكاره، وبعد تقديم أبرز عناصر فلسفته حدد المصنّف ملامح التأثر به من قبل “الإسلاميين” سواء في ما يخص الأفكار العامة، كمذهبه في العقل وأنه العلة الفاعلة للوجود، أو في ما يتعلق بتأثر منظرين إسلاميين به كما يذكر مؤرخو الفلسفة الإسلامية عن النظام، وتأثره بهذا الفيلسوف في نظرية “الكمون”[28] ويمضي نشّار في استعراضه للنماذج، وهذه المرة من خلال ديموقريطس رائد المدرسة الذرية، ويقرر أنه قد عرف على الوجه الصحيح في العالم الإسلامي فيما يبقى أثره بحاجة “إلى دراسة عميقة في مذهب الجزء الذي لا يتجزأ، عند المعتزلة وعند الأشاعرة لمعرفة أصوله عند هؤلاء الأخيرين”ص162
السوفسطائية: في مستهل حديثه عن السوفسطائية وهو مقتضب، يرجح الدكتور نشّار أن هذه المدرسة تعرضت للتشويه عند الملتقي “الإسلامي” وهذا يعود في تقديره إلى مصادرهم في معرفتها (أفلاطون – أرسطو) وقسموها من خلال ما وصلهم إلى ثلاثة أقسام العندية والعنادية واللا أدريّة.
يذكر نشّار في أكثر من موضع أن هذه المدرسة أول محاولة إنسانية لعودة العقل إلى ذاته وانعكاسه على نفسه.[29]
ورغم هذا المديح إلا أن المؤلف يشكك في كون هذه المدرسة، قد أثرت على المنهج الجدلي عند المعتزلة ويصف من ذهب إليه من الباحثين بـ”وهذا حكم جائر خاطئ” ص163 ولكنه يقر بكون المعتزلة الأوائل قد اطلعوا على مذاهب هذه المدرسة ولجأ إليه الجاحظ في بعض كتاباته الأدبية.
المدرسة التصوّرية المثالية: وهذه المدرسة تضم أبرز أسماء الفلاسفة اليونان –سقراط- أفلاطون- أرسطو. والبداية من سقراط الذي تبوأ مكانة كبرى لدى الإسلاميين وأوصلوه لدرجة القديس أو النبي[30] ومع التدفق المصدري عنه إلا أن كثيرا من الإسلاميين خلطوا بينه وبين طالبه أفلاطون بحسب نشّار دائما الذي يحصر أهميته في الفكر الإسلامي في الأمثال والحكم، والتي تم تغيير صيغة بعضها لتصبح على شكل أحاديث نسبها الشيعة إلى علي.
أما أفلاطون فقد عرفه الإسلاميون بشكل جيد، ولا يتفق الدكتور نشار في التقليل من أهمية دوره في صياغة الفكر الإسلامي خلاف لكثير من الباحثين، ويعتقد أن المعتزلة تأثروا به، وكذلك طائفة من السلف الحنابلة،ومدرسة أهل الظاهر والمتصوفة الإشراقيون ويعيد اهتمام هؤلاء باعتقادهم أن أفلاطون نادى بخلق العالم وهذا ما ينفيه عنه، وعندما ينتقل نشار إلى الحديث أرسطو يلاحظ كما هو الشأن في غالب الكتاب محاولة النأي بالفكر الإسلامي عن التأثر به، وإن كان هو نفسه يعترف بأن الصواب يكون قد جانبه إذا قال ” إن المسلمين لم يأخذوا عن أرسطاطليس بعض العناصر الجزئية، سواء في فلسفته الميتافيزيقية أو الفيزيقية أو المنطقية” ص167 ويعترف بخمود مقاومة الفلسفة المشائية مع بزوغ القرن الخامس الهجري.
المدرسة الرواقية واللذية والشكاك: والبداية من المدرسة الرواقية التي لا يقل أثرها أبدا عن أثر أرسطو، ويزيد تأكيدا على هذه النقطة بقوله “إذا كانت هناك مدرسة مشائية في العالم الإسلامي، فإن هناك مدرسة رواقية” ص171 بل يقرر: أن المذهب الرواقي كان تأثيره على التراث الإسلامي، أكثر أهمية وأوسع نفوذا من التأثير الأرسطي، ومن مظاهر ذلك وحدة الوجود عند الصوفية، وكذلك في بناء نظرية المعرفة، التي تبدأ من الحس ثم تكون الأفكار ثم فهمها، هذا إلى جانب النزعة الأخلاقية التي تأثر بها متصوفة الإسلام.
وإذا ما عدنا لمدرسة اللذية، يؤكد نشار معرفة المسلمين بأبيقور ومذهبه في اللذة، ولكنهم كرهوا مادّية المذهب[31] وهذا لا يعني عدم تأثر من نوعا ما في الجزء الذي لا يتجزأ على الأقل من وجهة نظر بعض مؤرخي الفلسفة الإسلامية.
أما عن الشكاك فقد وصل مذهبهم الإسلاميون وعرفوه معرفة تامة، ويرصد نشار “أن كثيرا من نقد ابن تيمية للمنطق الأرسططاليسي، إنما يستند على عناصر مأخوذة من الشكاك التجريبيين” ص179.
الأفلاطونية المحدثة: وهي المدرسة التي وصفها نشّار بأنها أخطر مدرسة أثرت في العالم الإسلامي وقصتها كما يقول “طويلة ومثيرة” ص179 ثم بعد استعراض لتفاصيل هذه الفلسفة وعدم وضوح مرجعيتها وكيف أنها قدمت لأوساط إسلامية على أنها لآرسطو يكرر نظريته في عدم اعتبار من تأثر بها أو بالفلسفة اليونانية بصفة عامة من أرباب الفلسفة الإسلامية، بل يعتبرهم امتدادا لليونان ولا يمثلون الأصالة الإسلامية، ويؤيد دي بور فيما ذهب إليه من عدم وجود فلسفة إسلامية، وأن الموضوع كله لا يعدو كونه تقليدا لليونان مما لا يستحق التسجيل، ويشترط لتأييده له أن يكون قصده الدائرة الفلسفية اليونانية[32] ويقدم البديل الذي وصفه بأنه: “فلسفة كاملة في تعبيرها عن الإسلام الحقيقي، وأهلها مسلمون روحا وجسدا، إن هذه الفلسفة – فلسفة المتكلمين من أشاعرة وماتريدية ومعتزلة وشيعة معتدلة……هذه الفلسفة الإسلامية لم تقبل فلسفة اليونان بل لفظتها” ص184 ولا شك أن القارئ سيلحظ هذا النأي من قبل المصنّف عن الأفلاطونية الحديثة وقبلها الأرسطيّة، ومحاولة إثبات البديل الإسلامي الخالص.
رابعا: الغنوصية. وقدم تعريفات لها بعد أن ذكر أصل الكلمة اليوناني ومفاد هذه التعريفات أنه الوصول للمعارف العليا وتذوقها بنوع من الكشف فيما جهة القدوم غير معروفة على وجه الدقة هل من فارس أو الهند[33] ومن ثمرات الغنوصية ثنائية إله النور وإله الظلام كما هو عند قدامى الفرس، وقد دخلت الغنوصية في اليهودية وهو ما نلحظه في ” الكبالا” يقول نشار[34] كما أنها وجدت طريقها نحو المسيحية في عدة صور كما في الاتحاد المطلق بين العارف والمعروف.
وفي النهاية الظهور البين للغنوصية إنما كان في الأديان الفارسية الثنوية المتأخرة
أو المجوس كما يعرّفهم المسلمون، وكان أصل النشأة مبدأ أخلاقي وهو محاولة تفسير الشر في العالم[35] ويستطرد الدكتور نشّار في تطور الغنوصية إلى أن وصل إلى الزرادشتية، التي كانت عليها فارس زمن ظهور الإسلام، وهي التي انتقل كثير من تراثها إلى المسلمين ” وقد حاول المؤرخون الإسلاميون أن يصبغوا الزرادشتية بصبغة تتصل إلى حد ما بالتوحيد، فذهبوا إلى أن منطق المذهب إلاها أبدع المبدأين النور والظلمة، إلاها واحدا لا شريك له ولا ضد” ص192.
ثم تتبع ظهور الفرق الغنوصية بعد الزرادشتية كالديصانية والمانوية ثم المزدكية مختتما بالمندائية.
ويخوض نشار في موضوع الصلة بين الغنوصية والمسلمين والبداية كانت من بعض الأسماء التي ذكر أنها اعتنقت المجوسية والغريب هو هجومه الشديد على – أبوسفيان بن حرب – واصفا إياه بالزندقة في أكثر من موضع[36] بل إنه عمم الوصف على أسرة بني أمية كلها فقال: “ولكن عثمان ما لبث أن وقع في أحابيل هذه الأسرة المتزندقة، وحين تولّت هذه الأسرة الأموية الحكم أظهرت نفاثتها المسمومة على الإسلام كدين في أكثر الأحايين” ص198.
ويزعم نشّار أن مسيلمة أيضا من الغنوصية، كما أنه أوعز إلى الدكتور محمد جابر عبدالعال نسبة القول بوجود أشخاص كانوا يعبدون مسيلمة زمن عمر بن الخطاب[37]
واهتم بشكل خاص بالمانوية والمزدكية: فغنوصهما ” كان أخطر غنوص على العالم الإسلامي” ص 200 ويسرد أسماء من ذكر أهل التراجم بأنهم غنوصيون سواء بشكل سري أو علني وأيضا الوقائع، وأولى شعر أبو العتاهية اهتماما خاصا بصفته مثال على شعر الزندقة الغنوصي تحت ستار الزهد[38] إلا أن التركيز الأكبر كان على ابن المقفع ووصفه بـأنه “كان يمثل مطلع هذه المؤامرة الشعوبية والغنوصية” ص204 مع تأكيده على طول الموضوع! وعدم اتساع هذا المبحث له.
وبعد استفاضة في ذكر تفاصيل التداخل بين المذاهب الغنوصية والإسلام، وما تركته من أثر بالغ على كافة المستويات الفكرية، لعل أهمها قيام المدارس الكلامية التي ذكر أن السبب الحقيقي لقيامها هو مناهضة الغنوص، ونقل عن المستشرقين أن السبب الحقيقي أيضا في تأسيس أولها -المعتزلة – في الأصل هو معارضة المانوية الغنوصية[39] وأنهم دخلوا في كل تفاصيل الحياة الفكرة الإسلامية بشكل خطير جدا بما في ذلك “وضع كثير من الأحاديث لتروج للغنوص في قلب الفقه الإسلامي” ص 213 وفي أثناء هذا المبحث الطويل في الكتاب يحاول نشّار تبرئة الغزالي من أي علاقة له بالغنوصية، ويعيد التأكيد على تأثيرها الشديد على أجزاء كبيرة من العالم الإسلامي، فالغنوص سيطرة على فلسفة التصوف كما يقول، هذا غير الأثر البارز للغنوصية في كل الفرق الباطنية القديمة والمعاصرة.
ويختم المبحث الذي أخذ منحى تاريخيا واضحا بالتذكير على أن الإسلام ناهض الغنوصية سواء كانت فارسية أو هندية كما ناهض الأفلاطونية المحدثة واتخذ ضدها “موقف العداوة والبغضاء يجالدها أشد مجالدة وأعنف جهاد” ص223
العوامل الداخلية
أولا: العامل اللغوي. تفسير الآيات والأحاديث من منطلق لغوي، أدى في نظر نشّار إلى نشوء عدد من القضايا التي كانت محور الفرق الكلامية، فعندما يتعلق الموضوع بالمحكم والمتشابه في الوحي نشأ عن ذلك التجسيم والتنزيه، كما أن التعليلات اللغوية في القضاء والقدر من أسباب ظهور الجبر والاختيار، ومثل ذلك فيما يخص المراد بالمؤمن والفاسق، وكذلك مسألة الأسماء والأحكام كلها تعود في تقديره عن “اختلافات في البنية اللغوية الصادرة عن هذا المجتمع الجديد” ص224 وهو أمر يعتقد أنه يمكن أن ترد إليه الحياة العقلية الإسلامية كلها.
ثانيا: العامل السياسي. يعتبر نشّار مقتل عثمان بن عفان هو نقطة الانفجار للخلافات السياسية الكامنة، التي كان من نتائجها ظهور الخوارج والشيعة، فكل الفرق في البداية، كان أصل نشأتها سياسي ثم دعمت نظرياتها بالعامل الخارجي كما الغنوصية في الحالة الشيعية، وكذلك الإرجاء ليس إلا أداة سرية للأموين لتبرير وجودهم “كمغتصبين للخلافة الإسلامية” ص225
ثالثا:العامل الاقتصادي. انطلق نشار من تبرير وجود هذا العامل من الطبقية التي كانت سائدة والتي جعلها أحد أسباب قيام التشيع، بل زعم أنه من أسباب معركة الجمل، رفض الزبير وطلحة لطريقة علي في تقسيم الأموال، بالتساوي بين الفقراء والأغنياء، كما أن قيام المعتزلة له بعد اقتصادي.[40]
ولم يطل المصنّف في ذكر العوامل الخارجية بل اكتفى بمختطفات بسيطة لا تتجاوز أسطرا معدودة في كل عامل.
ويختم هذا الباب بهذه العبارة “والفلسفة الإسلامية إنما هي ترف علمي قامت به مجموعة من الإسلاميين، انفصلت فكريا عن هذا المجتمع” ص226.
البواكير الأولى للحركة العقلية الإسلامية
أولا: الفقهاء وعقائدهم الكلامية. مهد لهذا الفصل بمقدمة تاريخية للأحداث من وجهة نظره، هاجم فيها كالعادة الأمويين الذين وصفهم بأنهم” كرهوا الإسلام أشد الكراهية، وامتلأت صدورهم بالحقد الدفين، نحو رسول الله وآله وصحبه…..”
وطبيعي بعد هذا الموقف من الأمويين أن يثمن أي مقاومة سياسية أو فكرية لهم.
أما أول مدرسة كلامية في الإسلام فيرجح أنها من تأسيس محمد بن الحنفية، وهي التي انبثق عنها الاعتزال والإرجاء والقول بالقدر، سواء في شخص محمد بن الحنفية أو بنيه من بعده وهو ما أطلق عليه مصطلح المكتب مع كثير من عبارات التمجيد والتقريظ[41] وجعل من ثمرات هذا المكتب بشكل أو بآخرالإمام أبوحنيفة الذي عده أول فيلسوف في الإسلام، كما أنه بحسب نشّار خاض في السياسة “وآمن بحق أبناء علي”ص234. ثم يذكر تفاصيل آرائه الكلامية وتدشينه لمصطلح الفقه الأكبر والتوحيد، ويحرص نشّار على أن تكون آراء أبوحنيفة متوافقة مع وجهة نظره الشخصية، في كل مسألة مع تفنيد أو توجيه ما يراه عكس ذلك، وكيف لا يكون ذلك وهو من أثره الكلامي “إمام الهدى أبي منصور الماتريدي” ص243
ولم يتجاوز حديثه عن الإمام مالك بضعة أسطر أشار فيها إلى موقف الإمام مالك من الصفات، وأنه يحارب التكلم فيها حذرا من المشبهة أو المجسمة.
ويجمل وجهة نظره ” كان مالك يضع أساس العقيدة العملية، ويعلن أنه لا يتكلم إلا فيما تحته عمل” ص244 ومع هذا انبثقت فكرة التجسيم والتشبيه من السالمية وهي فرقة مالكية وما أبعدها عن ذلك كما يقول.
وفي تناوله للإمام الشافعي ينفي كونه لا يمثل الحالة العقدية لأهل السنة والجماعة، وإن كان يعترف بأنه أي الشافعي يمقت الكلام والمتكلمين، إلا أن تلامذته كما يقول هم لهم الأثر الأكبر في ” إنشاء الفلسفة الإسلامية الحقيقية ” ص247
وعندما يأتي دور الإمام ابن حنبل في هذه السلسة يثبت أن له مذهبا كلاميا خلاف من قال بعكس ذلك.
ثم يركز على نفي نسبة رسالة “الرد على الزنادقة والجهمية” لأحمد بن حنبل من خلال عدد من القرائن، ولكنه سيعتبر الكتاب معبرا عن آراء أحمد بن حنبل كما هو الحال مع الفقه الأكبر بالنسبة لأبي حنيفة[42] ثم يستعرض القضايا الكلامية بناء على هذا الكتاب المنسوب لأحمد بن حنبل.
وخلاصة مناقشة آراء هذا الإمام أنه يشكل الانطلاقة الحقيقية لمدرسة أهل الحديث وأنهم ” سموا بأهل الحديث وأهل السنة” ص 261. وهم المقابل للجهمية والمعتزلة والخوارج.
وينقل عن البغدادي الذي يطلق عليهم وصف ” الصفاتية ” أنهم أهل السنة على الحقيقة “ص263 وهم من يمثل عقائد أهل السنة، وقد انتقلت سمة الصفاتية إلى الأشعرية، وأهم ممثليهم في العالم الإسلامي ابن كلاّب والقلانسي والمحاسبي!
ثانيا: أهل السنة الأوائل. بعد أن قرر في الفصل السابق أن الصفاتية هم ” أهل السنة والجماعة” وحدد أئمتهم يناقش أثرهم والبداية من عبدالله بن كلّاب 240هـ الذي وصفه بإمام أهل السنة في عصره وإليه مرجعها[43]، ويذكر طرفا من أخباره وما قيل عنه وتجنّي ابن النديم عليه في ترجمته وغيره ما جعله يقول ” ولعلنا نرى أن المعتزلة والشيعة هم الذين علموا أهل الفرق الأخرى رد أقوال خصومهم – إن حقا وإن باطلا- إلى أصول مسيحية أويهودية أو فلسفية”ص266
ويخلص نشار إلى أن ابن كلاب كان في رأي شيخ أهل السنة والجماعة الرسمي ويقصد به – أبوالحسن الأشعري- أنه كان موافقا لأهل الحديث وأهل السنة والجماعة وأيضا صاحب فرقة لكن كما يبدو اندمجت لاحقا في الأشاعرة[44] ويتبع هذه الخلاصة بمناقشة الذات والصفات كما يراها ابن كلاّب ويورد حوارات ابن تيمية وابن المطهر الحلي. ويفرد حيزا لمناقشات ابن تيمية للكلابية وخاصة في ما يتعلق بمسألة الكلام.
ويعتب نشار في نهاية هذا المبحث الطويل على ابن تيمية لتفضيله ابن كلاب على الأشعري فيما يخص القرب من أهل السنة والجماعة ويعتبر ذلك تحاملا على شيخ المذهب الذي وصل ” إلى أوج الفكر وإلى الأصالة والتكامل المذهبي” ص278
ويكمل نشّار هذا الباب بدور القلانسي والمحاسبي في نشر أفكار ابن كلاّب ويورد جانبا من الخصومة التي كانت بينهم وبين ابن خزيمة ويكثر بصفة عامة من الاستشهاد بنقولات ابن تيمية.
الحشوية والمشبهة والمجسمة
أولا: نشأة الحشوية والمشبهة والمجسمة.وفي مقدمة هذا الفصل أكد على عدم وجود حشوية في عصر الصحابة إلا أنه لفت لكثرة مرويات بعضهم، مما جعلهم عرضة لاتهامات بعض الفرق وهو الشيء الذي يرفضه…أما عن نشأة الحشوية من نظر أهل السنة كما يرى فهو من خلال دائرتي: الشيعة وحشوية أهل الحديث[45] فيما يذهب الشيعة أن الحشوية هم الجمهور من أتباع المذاهب السنية الأربعة، وهذا ما يجعله يرجح أن الحشوية مصطلح عام له معان مختلفة. وينقل عن الكوثري المرجعية اليهودية والنصرانية لهذا القول بعد أن أخذه “من لم يتهذب بالعلم من أعراب الرواة وبسطاء مواليهم” ص287 وينقل عنه أيضا نسبة هذه التسمية إلى الحسن البصري.
وبعد أن يستعرض بعض معالم المذهب الفكرية يقدم مقاتل بن سليمان المفسر كنموذج للحشوية وداوود الجواربي من الشيعة. يصف نشّار مدرسة مقاتل بن سليمان بأنها “كانت تعبر عن الله تعبيرا ماديا ملموسا وتراه كائنا ماديا محسوسا” ص291 أثرت هذه المدرسة على طائفة من المحدثين، وهذا ما يرصده الملطي صاحب “التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع” والذي كما يقول نشّار “سقط أيضا في الحشو والتشبيه” ص292 إلا أنه يحسب له أنه حفظ وثائق هذا الاتجاه في التراث الفلسفي، ويقدم المصنف إضاءات عن البربهارية والسالمية وعمق تأثيرهما على الصوفية في قضايا كالحلول.
ثانيا: الكرامية. وهي نهاية التجسيم وفيها أينع وازدهر كما يرى النشار وقد نشأت في خراسان معقل الغنوصية والوضع، وموطن المشبهة والمجسمة، وهي نسبة إلى محمد بن كرام 255هـ وهذه الفرقة لا تتوافق مع أصول وجزئيات مذهب أهل السنة والجماعة بل وبقية الفرق من معتزلة وشيعة[46] ووصفها بأنها “ملأت الدنيا ضجيجا…….ثم إنه ما زال يعيش حتى الآن في دوائر سلف المتأخرين الحنابلة” ص297 ثم يشرع المصنّف في تقديم الآراء الكلامية للفرقة ويخلص إلى كونهم مجسمة محضة ومصدرهم الأفلاطوني واضح، والاختلاف بسبب ما يحتمه عليهم معتقدهم الديني.
ويصل إلى نتيجة خطيرة يقول عنها “لقد وضعت الكرامية النتائج الخطيرة العبقرية التي أدت ببساطة إلى انبثاق نظرية وحدة الوجود لدى الصوفية المتأخرين” ص304
وقد أطال في شرح قضايا هذه الفرقة بما يمكن أن يتم تفسيره بأنه يقصد به ما أصبح يطلق عليه منهج “السلف” أو الحنبلية، وخاصة أنه جعل تقي الدين ابن تيمية من الكرامية وقال عنه نشأ في أسرة “يحيط بها التشبيه والتجسيم وقد وقع فيهما ابن تيمية وقوعا كاملا “ص312 واصفا مذهبه بأنه خليط بين بين غلاة الصفاتية مع مزيج من الكرامية والسالمية والبربهارية.
نشأة التفكير العقلي في الإسلام
مهد قبل الولوج في تفاصيله، بتصحيح مفهوم شائع أن المعتزلة هم رواد العقل في الإسلام، والتي لم تكن إلا امتدادا للقدرية والجهمية وقد مزجت بين آرائهما المعتزلة لتخرج بصيغتها المعروفة.
أولا: أصحاب المذاهب الحرة (القدريون الأوائل) يفسر المصنف سبب تسميتهم بهذا الاسم، بأنهم ينكرون القدر، ويربط ظروف نشأتهم بالثورة على الظلم الاجتماعي، الذي مارسه بنو أمية وهو كدأبه لا يكف عن مهاجمتهم في أي مناسبة يرد ذكرهم، بل إنه جعل أبو ذر الغفاري هو بداية لهذه الحركة الرافضة لاستبداد الحكام، الذين يتهمهم بأنهم وراء فكرة الجبر المطلق.[47]
ويرجح نشّار أن البداية الفعلية لأصحاب الإرادة الحرة كانت ضمن دائرة الحسن البصري قبل أن يتلقفها معبد الجهني ثم غيلان الدمشقي الذي طوّرها وأصبحت تنسب إليه يقول بعد أن استعرض ملامح فكرية لرجالات هذا المذهب “تلك هي الصحيفة الأولى من صحف القدرية وهم المبشرون الأوائل بمذهب الإرادة الإنسانية الحرة” ص327
ثانيا: المجبرة الأوائل (الجهمية) في مدخله قبل الحديث في صلب الموضوع يحمل نشّار كثرة الأحاديث الموضوعة جانبا من ظهور هذا النوع من الفكر فهو يضعه ضمن سياق التفسير العقلي للنصوص[48] وسمى هذه الحركة بالعقلية، وبدأ في التعريف بأحد رموزها وهو الجعد بن درهم الذي لخص قصته بعد ذكر طائفة من أخباره ومقالاته على شكل ثلاث نقاط:
- محاولة ربطه باليهودية أو المانوية.
- عدم الجزم بأن سبب مقتله هو رأي الفكري بل قد يكون لسبب سياسي.
- كل ما ينسب إليه هو القول بخلق القرآن
وبناء على هذا “يمكننا إذن من الأقوال السابقة أن نضع صورة تركيبية لأراء الجعد..فالجعد أول من نادى بالتعطيل “ص331
ثم يأتي الحدث عن أخطر شخصية في هذا الباب وهو الجهم بن صفوان، وقد تناولها نشّار بمزيد تحليل وتوصيف، مع دراسات نقدية تناولته، وخاصة من ابن تيمية الذي استعرض المصنف كثيرا ردوده على الجهمية واعترض على بعضها واصفا إياها بالتخبط وعدم الدقة وقبل الخوض في آرائه الكلامية عللها بما يلي:
- ردة فعل على معبد الجهني الذي كان ينفي القدر بالمطلق.
- مقاتل بن سليمان ومذهبه الغالي في التشبيه والتجسيم، وكانت بينهما منافرة.
- المنهج العقلي الذي ابتكره الجعد بن درهم وأخذ به الجهم بن صفوان[49]
ويقول نشّار “ولا شك أن للجهم بن صفوان فضلا كبيرا على الإسلام ولكنه كما يقول محمد بن زاهد الكوثري في مقدمته الرائعة لتبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري أفرط في النفي حتى قال إن الله لا يوصف بما يوصف به العباد” ص336
ويقرر نشّار أن منهج الجهم بن صفوان في النهاية هو التأويل العقلي وقد سلطه على كل القضايا الفكرية التي كانت شائعة في عصره. وقد توزعت آراؤه على الفرق الإسلامية “إنه وضع المشكلة وأثار العاصفة وقتل الجهم.. ولعنته جميع الفرق إلى يومنا هذا” ص372
المعتزلة
أولا: الأصل التاريخي لكلمة المعتزلة. بعد مناقشة لأصل المصطلح ومن ذلك نقد للرواية المعروفة عند مؤرخي الفرق.يخلص نشّار إلى نتيجتين حول أصل الكلمة.
الأولى: أن المعتزلة هم الذين أطلقوا على أنفسهم هذا اللقب، وأيد هذه النتيجة بنقولات عن قاضي المعتزلة عبدالجبار
ثانيا: أن السبب في اعتزالهم: أو أن هذا الاسم أطلق عليهم، هو عدم موافقتهم على انتقال الخلافة إلى معاوية “فأصابتهم بحسرة مريرة أن يسلب الحق أهله ” ص379 ويواصل نشّار دعم استنتاجه ويضفي هالة على الحالة “المستنيرة” للمعتزلة ورفضهم للظلم.[50]
ثانيا: واصل بن عطاء. اتسمت الترجمة سواء الشخصية أو المقالاتية بالتقدير والمديح الكبير من قبل نشّار لشخصية واصل بن عطاء فهو يعتبره من خريج “المكتب” الحنفي نسبة إلى محمد بن الحنفية.[51]
وعند مناقشة أثره الكلامي فهو من أسس للمدرسة الاعتزالية من حيث الجملة، ويتناول المصنف بمزيد تحليل القضايا الأولية للفكر الاعتزالي، وموقف واصل بن عطاء منها وهنا يقرر “مركز الدائرة في آراء وصل بن عطاء الكلامية هو قوله بالمنزلة بين المنزلتين” ص388 فيما يرجح أنه قال بالقدر خلاف من ذهب لعكس ذلك.[52]
وفي النهاية: يعتقد نشار أن واصل وضع أسس البحث فيما طلابه فيما بعد أخرجوا أدق الأبحاث في الكلام.[53]
ثالثا: مدرسة واصل بن عطاء. يروي نشار تاريخ الاعتزال بدأ من واصل بن عطاء ويثني بعده بعمرو بن عبيد، الذي يعتبره قرينا له أكثر منه تلميذا له لما له من أثر كبير في ترتيب المذهب، وعن تكوينه يقول “نتاج واضح لمدرسة الحسن البصري أولا ثم مدرسة واصل ثانيا” ص400
ولا يغفل نشّار عن كونه خريج المدرسة الحنفية نسبة لمحمد بن الحنفيّة، وإن لم يكن ذلك بشكل مباشر بل عن طريق أستاذه واصل بن عطاء[54] الذي سبق أن أفاض في ذكر صلته بما أسماه “المكتب”
ويلفت المصنف القارئ لحالة العبادة والزهد التي اتصف بها عمرو بن عبيد كما تذكر مصادر ترجمته وما كان خلاف في بعض المسائل بينه وبين واصل إلى أن كانت نهاية أمره أخذه بكامل آرائه.
ويختم هذا المبحث بذكر تلاميذ واصل بن عطاء الذين أرسلهم للأمصار للتبشير بمذهبه ومن خلالهم انتشر في بقية العالم الإسلامي.
رابعا: الآثار الخارجية لأوائل المعتزلة. يقدم الأستاذ نشار تفصيلا وتحليلا لهذا الأثر ومتى ظهر وهو على يقين أنه لم يظهر في الجيل المؤسس، أمثال واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، فهو مثلا لا “يرى أثر خارجي في مسألة المنزلة بين المنزلتين” ص207 ويرجح نفس النتيجة فيما يخص القول بالقدر، ويرى أنه أثر لنظرتهم في القرآن والسنة وفي الفعل السلطاني وما نتج عنه من الجبرية، فيما يترك الاحتمالات مفتوحة فيما يتعلق بفكرتي خلق القرآن ونفي الصفات التي تعود بجذروها للجهم بن صفوان والجعد بن درهم الذين يقعون في دائرة تأثير أجنبي. وفي دعم هذا النسق الكلامي وضع المعتزلة سندا لعقائدهم حرصوا على أن يكون ضمنها كبار الصحابة وآل البيت.
خامسا: الأصول الخمسة. هذه الأصول تطورت بشكل تدريجي، ولم تتبلور دفعة واحدة.
وهذا ما يرجحه نشّار بعد نقولات من مصادر مقالاتية متعددة، وهذا الاستقراء يجعله يلحظ أنه لم يكن ثمّت أصل كانت منه البداية، بل الموضوع عبارة عن إشكالات ومسائل “دينية وسياسية واجهها أوائل المعتزلة” ص420 وهي القضايا التي تم وضعها لاحقا تحت العباءة العقلية التي أصبحت فيما بعد هي المقياس.
وفي ما يلي وقفات بسيطة مع كل أصل بناء على نظرة المؤلف.
1- التوحيد: يصل المصنف إلى السبب الذي أدى لظهور هذا الأصل وهو رفض رجالات المذهب المؤسسين للنظرة اليونانية لتصوير (الله) كما أنهم لم يقبلوا الفكرة التقليدية الإسلامية عنه، فكان أن لجأوا إلى العقل لتقديم حل من وجهة نظرهم الفلسفية والعقلية.[55] فالمعتزلة يصورون الذات الإلهية بأنه قديم أول، وأنه لا يشاركه غيره فيما يستحق من الصفات نفيا وإثباتا. ومن فروع هذا التصوير نفي الصفات وما يستلزم ذلك من مسائل كخلق القرآن ونفي الرؤية. ويرجح نشّار: أن المعتزلة انطلقوا من تراث إسلامي في تقرير هذا الأصل وأيضا من خلال المؤثرات الفلسفية اليونانية. ولا يفوت المصنّف غالبا التذكير عند كل قضية كلامية، بأن الأشاعرة قدموا الحل النهائي لها كما في هذا النقل” وترى أخيرا عقيدة أهل السنة والجماعة في الصفات توضع صورتها النهائية على يد أبي الحسن الأشعري وتلامذته من بعده” ص430 ويؤكد على هذا في آخر المبحث” وبهذا حل الأشاعرة مشكلة الصفات حلها النهائي في العالم الإسلامي” ص432
2- العدل: وهذا الأصل إنما يستند على “موقف عقلي أو عقلاني بحت” ص436 فمنطلقه كما يفسره نشّار إنما هو من تقديس المعتزلة لمبدأ حرية الإنسان، ومرادهم من هذا الأصل هو مسؤولية الإنسان عن فعله، وإلا لزم أن يكون الشر من الله وهذا ما لا يليق بعدله وهو محاسبة الخلق على أمر ليس لهم فيه إرادة فتحصل من هذا نفي القدر، وأن العدل يقتضي الحكمة وهو إصدار الفعل على وجه الصواب والمصلحة.[56]
3- الوعد والوعيد: ويترجم له نشّار بالموقف العقلاني ومسؤولية العقل وينقل عن القاضي عبدالجبار شرحه لهذا الأصل بقوله” إلى أنه تعالى وعد المطيعين بالثواب، وتوعد العصاة بالعقاب، وأنه يفعل ما وعد به وتوعد عليه لا محالة، ولا يجوز عليه الحلف ولا الكذب”ص437 فتكون نتيجة هذا التفسير أن الثواب والعقاب تابعين لما تنتجه القدرة الإنسانية.[57]
4- المنزلة بين المنزلتين: وهو الأصل الذي يعتبره كثير من أهل المقالات هو البداية الأولى للمعتزلة ومقتضى هذا الأصل هو جعل صاحب الكبيرة في منزلة لا يوصف فيها بالكفر ولا بالإيمان أو اسما بين الاسمين. وهذا القول جعل المعتزلة كما جعل الإسفرايني كما ينقل نشّار”يحاول إلزام المعتزلة بخروجهم على القانون العقلي وهو قانون عدم التناقض” ص439
5- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهو مبدأ أخلاقي كما ينعته نشّار وخلاصته: أمر المسلمين وتكليفهم بالجهاد في سبيل الله وإقامة أحكامه في كل من خالفه في أوامره ونواهيه سواء كان مسلما أو كافرا.
هذه أصول المعتزلة الخمسة والتي يرى نشار أنها كونت “مذهبا متناسقا”
فهي إذا ” مذهب فلسفي متكامل” ويختتم نشاّر هذا الفصل بالتأكيد على ما ذكره في أكثر من موضع من كتابه: أن المعتزلة في نهاية المطاف أصبحوا عقديا في نطاق الشيعة والزيدية وأصبحت هذه الفرق هي محضن أصولهم العقلية والفلسفية.[58]
سادسا: شخصيات وقضايا: في هذا الجزء من الكتاب وهو طويل نسبيا يخوض المصنف في أبرز شخصيات المعتزلة بعد واصل والبداية من العلّاف- أبوالهذيل- حيث حاول تركيب فلسفته ثم عزوها إلى مصادرها الأولية والتي غالبا ما تكون يونانية مع التفصيل في ذلك وتحليله ومناقشته والملاحظ هنا أن نشّار بذل جهدا كبيرا في تعليل القضايا التي خاص فيها العلّاف وإبراز جانب التوفيق بين القطعي من الدين وبين سلطان العقل اليوناني الذي تأثر به العلاّف كثيرا مع وقفة طويلة مع مذهبه الذري.[59]
وإن كانت المناقشة كلها تتسم بالدقة والغوص في مباحث فلسفية وكلامية عميقة.. وهذا ما يلاحظ بشكل جلي في مناقشته للنظام- إبراهيم بن سيار- الذي صنفه نقلا عن مصادر معتزلية وفريق من الباحثين المعاصرين أنه “أعظم رجال الفكر الإنساني” ص484 وهذا ما يظهر بوضوح في تناوله لموضوع ” العدل الإلهي” ومذهب النظّام فيه الذي خالف فيه خاله العلّاف في ركن مهم من النظرية وهو ما يتعلق بفعل الاستطاعة في الظلم فبينما العلّاف يرى أن الله قادر عليه لكن لا يفعله يذهب النظام إلى أن الله “لا يستطيع فعل الظلم ولا يقدر عليه” ص492 ويستبعد أن يكون مصدر الفكرة من الثنوية كما ذكر بعض أهل المقالات كما لا يرجح أن تكون يونانية أيضا ونتيجته أنها فكرة أصيلة في جوهرها وتفاصيلها[60] ولعل هذا ما جعله لا يتقبل نظرية ” الجزء الذي لا يتجزأ” ومن ثم نظرية الطفرة وهذا ربما ما دعا نشّار يصدر فيه الحكم التالي “وحسبه أنه جعل من المذهب الكلامي فلسفة نظرية صدرت عن أصالة مطلقة وفكر مبدع”ص503
ويختم ذكر الشخصيات والقضايا بمعمر بن عباد ونظريته في المعاني، وتفسيرها: أن كل شيء يتحرك ويسكن لمعنى فيه. وقد أورد المصنف نقلا عن الشهرستاني تأثر الرجل الكبير بالفلسفة اليونانية لكنه بعد فحص للنصوص” يتبين لنا ما في فكرة المعاني عند معمّر من أصالة” ص510 ويعلن أنه مذهب منسجم متكامل وينتقد الزامات الخصوم.[61]
ويمكن القول بصفة عامة: إن موقف نشّار من المعتزلة هو موقف احترام وتقدير وهو يدافع دوما عن أصالة فكرهم وتحليلهم للقضايا الفلسفية ويأخذ على الخصوم تسرّعهم في العوز للمصدر الأجنبي عند مناقشة أي قول.
الخاتمة
خلاصة ما سبق من قراءة للكتاب أنه يقدم تاريخا لنشأة الفكر الفلسفي في الإسلام من منطلق وجود البديل الإسلامي الخالص والمتمثل بالمدارس الكلامية وخاصة المعتزلة والماتريدية والأشاعرة، مع نفي لأصالة من يطلق عليهم ” فلاسفة الإسلام” من أمثال الفاربي وابن سينا وابن رشد….فهؤلاء عند المصنّف ليسوا إلا عالة على الفلسفة اليونانية وتلامذة مخلصين.
إذن نشّار حاول في هذا البحث تقصّي الأصالة والرد على المدرسة الاستشراقية التي تنفي وجود مثل هذا النوع من الأصالة هل وفّق أم لا؟ هذا يحتاج لبحث أطول.
والمتأمل لهذا البحث يكتشف بسهولة الروح العقلانية وتمجيد المعتزلة عند مصنّفه، كما يتلمّس بشدّة الروح العدائية العنيفة لبني أمية وحكمهم مما يعني اعتناقا لفكرة ما! أخذ ببعض أطرافها المعتزلة وبتلابيبها بشكل كامل الإمامية.
ويبقى نشّار في النهاية مخلصا لعقيدته الأشعرية التي ينطلق منها عند الحكم على الخصوم فيما يخص الآراء وهو دائم الإشادة بدورها في تقديم الحلول المناسبة والنهائية للقضايا الكلامية المشكلة.
[1] انظر: ص17
[2] انظر: ص22
[3] انظر: ص34
[4] انظر: ص 44
[5] انظر: ص47
[6] انظر:ص57
[7] ص61
[8] انظر:ص 66
[9] انظر: 69
[10] انظر:80
[11] انظر: ص82
[12] انظر: ص 88
[13] انظر: ص89
[14] انظر: ص92
[15] انظر: ص 99
[16] ص101
[17] انظر: ص104
[18] انظر: ص108
[19] انظر: ص123
[20] ص125
[21] انظر: ص 128
[22] انظر:ص131
[23] انظر: ص135
[24] انظر: ص138
[25] انظر: ص143
[26] انظر ص147
[27] انظر: ص156
[28]: انظر: ص159
[29] انظر:ص163
[30] انظر: ص164
[31] انظر:انظر:ص 170
[32] انظر:ص184
[33] انظر:ص 186
[34] انظر:ص187
[35] انظر: ص 189
[36] انظر: ص 198
[37] انظر: ص 199
[38] انظر: ص202
[39] انظر: ص 210
[40] انظر: ص226
[41] انظر: ص231
[42] انظر: ص249
[43]: انظر: ص265
[44] انظر: ص268
[45] انظر: ص286
[46] انظر: ص297
[47] انظر: ص314
[48] انظرص329
[49] انظر: ص 336
[50] انظر: ص380
[51] انظر: ص 381
[52] انظر:ص 394
[53] انظر: ص398
[54] انظر: ص400
[55] انظر: ص429
[56] انظر:ص 433
[57]. انظر: ص438
[58] انظر: 442
[59] انظر: ص473
[60] انظر: ص495
[61] انظر: ص517