مراجعات كتب

الموت عند الغرب

مراجعة لكتاب: تاريخ الموت، التاريخ الكلاسيكي للتوجهات الغربية تجاه الموت في ألف سنة الأخيرة

 

  • تأليف: فيليب أريس، ترجمته عن الفرنسية: هيلين ويفير
  • مراجعة: روبرت نيسبت[i]
  • ترجمة: سلطان الزهراني
  • تحرير: عبد الله الهندي

 

البشر هم الكائنات الوحيدة الذين يدفنون موتاهم، ومن بين الأزمات المتكررة على حالة الإنسان (من ولادة وزواج وموت) أنتج الموت الكم الأكبر من الطقوس، غالبيتها بنيت على اعتقاد في حياة بعدية، وكأن ميلاً غريزيًا يوجد في الإنسان يرفض فكرة أن الموت هو النهاية، وأنه ختام دورة الحياة. سواء تركنا الطعام والكساء والأدوات في مكان الدفن – كما كان البشر يفعلون في العصر الحجري القديم – أو قدمنا ببساطة الصلوات بجانب القبور، الافتراض هو نفسه، المجتمع الذي عاش في الحياة لا بد أن يعيش بعد الموت. الموت يأخذ مكانًا في المجتمع، هو جرح في المجتمع، هو مغادرة للمجتمع. هذه طريقة مقبولة لتجسيد الأثر الذي للموت في جميع الأديان العظمى في العالم.

وهذه -أيضًا- طريقة مقبولة لوصف نظرة فيليب أريس لطريقة الموت حتى قرنين ماضيين عندما بدأت قوى مضادة بالعمل في الغرب بناء على برهان هذا الكتاب. لآلاف السنوات لم تكن الوفاة والدفن وطقوس الحداد مختلفة كثيرًا في الغرب عن تلك الموجودة في أي مجتمع بشري في كل مكان، قوة المجتمع لم تكن قابلة للتحدي في الشؤون المتعلقة بالموت مثلها مثل الولادة والزواج. لكن في قرننا -كما يجادل السيد أريس- “تنازل المجتمع عن المسؤولية” عن الموت، وتُرك الموت “لكتلة هائلة من الناس منفردين”، وأصبح الموت منعزلاً وظاهرة غير مرئية تقريبًا.

هذه النتيجة ما جاءت إلا بعد مئات من الصفحات الثرية بالوصف التفصيلي لطقوس الموت والتوجهات التي صاحبتها في الغرب منذ العصور الوسطى. لا بد أن أؤكد على اهتمام السيد أريس بالتوجهات الواعية وغير الواعية التي هي جوهر كل منهجيته. يرشدنا مطلع الكتاب إلى أنه اتجه لدراسة الموت -تقريبًا- بذات الطريقة التي اتجه لأجلها لدراسته الشهيرة عن الطفولة والأسرة “عقود من الطفولة” (1962). أراد أن يكتشف إلى أي مدى تتأثر نظرتنا الحالية بماضينا. في كتابه السابق توصل السيد أريس -بالقدر الذي أرضاه- إلى أن الإحساس بالأسرة في عصرنا -بعيدًا عن كونها قديمة المنشأ ومهددة حاليًا بالتحديث- كان في حقيقته حديثًا وليس عمره أكثر من قرنين، وهو جزء أساسي من المزاج الحداثي الذي يفترض أنه مهدد به. هل يمكن أن يقال الشيء نفسه عن توجهاتنا تجاه الاحتضار، والعناية بالجثة، والدفن، والمقابر، وعادات الحداد؟ هل يمكن مقارنة هذه التوجهات والممارسات بتلك التي كانت في العصور الوسطى والقرون التي تلتها مباشرة؟

بمعونة من زوجته، بدأ أريس دراسته قبل 15 سنة، مبتدئًا بدراسة عادات الدفن الحديثة، ثم ممارسات المقابر القديمة والحديثة، وختم ببقية الأشياء الموجودة ذات الصلة بالموضوع: الوصايا، وسجلات التوثيق، والنقوش، والسجلات، والأعمال الأدبية. والكتاب -بغض النظر عن أي حكم آخر- هو تاريخ علمي تفصيلي عميق للموت لدى الغرب في آلاف السنوات الماضية، مُتَممًا بالتحليل لكل جانب يمكن تصوره للموت: من تجهيزات الاحتضار، إلى طقوس الحداد الأخير. وكما هو الحال مع كل كتب التاريخ المتخصصة التي صاغها المؤلفون ذوو الخيال العالي والعلم؛ فإن “تاريخ الموت” يلقي الضوء على ما هو أكبر -في التاريخ الغربي- من مجرد أنماط الموت وأشكاله.

من سيرة ذاتية نُشرت في باريس قبل سنوات بعنوان: “مؤرخ الأحد”، نعرف أن السيد أريس ولد في عام 1912 لعائلة كاثوليكية ملكية متدينة في مقاطعة فرنسية وثيقة الصلة بحركة العمل الفرنسي. السيد أريس نفسه كان عضوًا في هذه الحركة السياسية المحافظة. وعلى الرغم من أنه استقال في شبابه؛ اعتراضًا على الشخصية المرضية لقائدها تشارلز موريس؛ إلا أن الظاهر أن نظرته للشعب، والمجتمع، والماضي، والحاضر، لم تتغير كثيرًا في أثناء حياته. ولا يبعد أن يقال إن القناعات السياسية والاجتماعية لحركة العمل الفرنسي تشكل أساسًا لبحث السيد أريس، فهو عدائي بشدة للدولة المركزية الحديثة العلمانية، وللفردانية المتصاعدة، وحب الذات التي نشأ معظمها من الدولة الحديثة، ولديه مودة دائمة للعلاقات الاجتماعية التقليدية: للأسرة، والجيران، والمجتمع، والمنطقة، التي شكلت وسيطًا بين الفرد والدولة الحديثة، والتي مدت الناس في أوروبا -قبل الحداثة- بأمنهم وحرياتهم. يُضاف إلى ذلك: حقيقة أن السيد أريس دعم حكومة فيتشي في أثناء الحرب العالمية الثانية، وكان كارهًا للمقاومة، وفي كلا الحالين؛ لم يكن هذا بسبب حبه للنازيين أو الألمان، بل لأنه كان مشمئزًا من المبادئ الماركسية التي كانت توحد الغالبية العظمى من المقاومة، ومن الواضح أننا نرى فيه فرنسيًا أصيلاً محافظًا، بل رجعيًا.

بقي -فقط- أن نشير إلى أنه كان متمردًا في مجال دراسة التاريخ. ولم يزل كذلك منذ كان في طالبًا في السوربون. هناك تأثرَ بعمقٍ بمؤرخي “الحوليات” (لوسين فبفر، ومارك بولش، وفيرنارد بروديل، وآخرين). ومعهم اكتسب نفورًا دائمًا من السرد العرضي التقليدي للتاريخ، الذي عادة ما كان محصورًا في الأحداث السياسية. لقد أدار ظهره لطريقة السوربون التقليدية، وفشل في نهاية المطاف في الحصول على درجته العلمية العالية، وخسر بالتالي كل الفرص ليصبح مؤرخًا محترفًا. ومن هنا جاءت تسمية سيرته الذاتية: “مؤرخ الأحد”، فاهتماماته بالتاريخ لم يكن ينغمس فيها إلا في أوقات راحته، نظرًا لحاجته إلى دعم نفسه بالصناعة.

وعليه، فالقارئ ينبغي أن يكون منتبهًا، فعلى الرغم من وجود إطار زمني عام في هذا الكتاب، بداية من العصور الوسيطة، وانتهاءً بالقرن العشرين؛ إلا أن السيد أريس لم يكن رهينة للتسلسل الزمني. لم يكن فقط يتحرك بكثرة من الماضي إلى الحاضر، أو من الحاضر إلى الماضي، لكنه كذلك كرس وقتًا طويلاً للحديث عما بقي من الماضي في الحاضر، ولجهودنا لإرجاع الحاضر إلى الماضي. وكما عرض الأسرة الحديثة وكأنها أجنبية عن الماضي بوصفها منتجًا لتفكك مجتمع القرابة التقليدي؛ يرى أن التعاطي مع الموت في المجتمع الغربي انحدر على مدى ألف سنة من “الموت المروض” إلى “الموت الجامح”، بمعنى: من عصر كان الموت فيه شعبيًا وظاهرًا للمجتمع، إلى عصرنا، حيث يغدو الموت -بتزايد- أكثر خصوصية، ولم يعد أي مجتمع طبيعي راغبًا في التعامل معه.

هناك المزيد مما يمكن تعلمه من هذا الكتاب، إذ -على الرغم من الرأي السائد- فمجتمع القرون الوسطى لم يسرف في الاهتمام بالجثة وطريقة التخلص منها -كما هو حالنا الآن-، فالقبور كانت صغيرًة جدًا لدرجة تستوجب أن يثنى الجسد ويلف حتى يلائمه، إلى جانب أن القبور المستخدمة كان يعاد استخدامها، والعظام القديمة تنقل إلى مكان آخر عادة ما يكون موضعًا معدًّا لحفظ تلك العظام، وكان يتوجب عليهم أن يقوموا بالتنسيق الخاص بهم. القبور الشعبية لم تكن أمرًا نادرًا خاصة بعد الطاعون. لكن الموت نفسه بالنسبة للشخص الذي سيموت أو بالنسبة لمن هم حوله، بل وحتى للأطفال، كانت الطقوس والممارسات تجتمع في إخلاص ظاهر. من خلال بحث السيد أريس الشامل، يمكننا أن نرى مجتمعًا يكون فيه الموت جزءًا طبيعيًا من الحياة مثله مثل الولادة والزواج. بالتأكيد كان الموت شائعًا في أي أسرة قروسطية، خصوصًا موت الأطفال، لكن هذا كان أقل شيوعًا من العمومية والانفتاح تجاه الاحتضار والموت، وهو ما أعطى الموت وصف “الترويض” في تصور السيد أريس.

متى بدأ الموت يفقد وصفه القروسطي ليصبح في نهاية الأمر “الموت الجامح”؟ في الغالب كان في القرن السابع عشر. “سطحيًا” كما يقول السيد أريس عن القرن السابع عشر: “كانت الأمور … بقدر كبير كما هي في القرون الوسطى … المزيد من العظام والهياكل في الكنائس كما لم يكن من قبل، ونفس الالتزام بتنفيذ الوصية” وهكذا. لكن تحت هذا المظهر “يبدأ توجه جديد في الظهور، أو إن لم يكن توجهًا جديدًا فهو إنقاص لا واعٍ من قيمة التوجهات القديمة”. الشواهد على القلق من الموت بدأت بالانتشار في الأدبيات وفي النقوش على شواهد الأضرحة، وبشكل أكثر غزارة يجد السيد أريس “شعورًا بالضيق من لحظة… الموت” وانهماكًا متزايدًا “بفكرة معدل الوفيات بوجه عام”، مختلفًا بشكل كبير عن الواقعية تجاه الموت في المجتمع التقليدي القديم. وفي الختام يستنتج السيد أريس: “هذه الحياة التي أزيل الموت منها لمسافة معقولة= تبدو أقل حبًا للأشياء والناس من الحياة التي كان الموت فيها في المركز”.

وفي أربعة فصول لافتة للنظر عن القرن التاسع عشر، نتعاطى مع جهود عقلنة الموت في التقانة والفكر. وفي نفس الأثناء، يتعرض الموت لتيارات ممتدة من الرومانتيكية، حيث الاحتضار والموت وطقوس الحداد غمرت في كثير من الأحيان بالعاطفة التي لا يمكن فهمها بسهولة في عصرنا الحاضر (ولا قبله في واقع الأمر). الفصل المسمى: “عصر الموت الجميل”، كان تحفة فنية صغيرة، ويستطيع المرء أن يفهم منه كيف يمكن لكاتب عظيم -مثل ديكنز- أن يصبح غارقًا في مشاهد يجسدها موت نيل الصغير في “متجر الفضول القديم”. أن تموت بجمال في رواية أو قصيدة أو أوبرا أو أيًا كان= كانت تلك -بوضوح- هي الفكرة الثابتة لذلك القرن؛ والحياة تميل إلى أن تتبع الفن. وكما يظهر من الرسائل واليوميات وغيرها من التعليقات أن أي جانب مزعج لفراش الموت كان يطويه النسيان، وما نقرؤه هو -فقط- جمال مشاعر الحب والرقة والغفران والسعادة التي تَشْركُنا وسطَ الدموع والابتسامات وتماسك الأيدي.

هناك أيضًا -على نحو أكيد- مشاعر مؤلمة وبشعة و”قذرة” فيما يتعلق بالموت. وفي فصلين مميزين، يوظف السيد أريس مشاهد الموت من “مدام بوفاري” و”موت إيفان إيليتش” كنموذجين للموت “الجامح”، ولما يعتبره رواد القرن العشرين “الموت القذر” في الخيال وفي الحياة.

وعلى العموم، فالسيد أريس أعطانا صورة كئيبة للقرن العشرين. الطقوس القديمة بقيت في مناطق واسعة من الغرب، لكن ظهر معها “نوع جديد بالكلية من الاحتضار”، خصوصًا في المناطق الأكثر تطورًا تقنيًا وحضريًا. جوهر هذا الموت “الجديد” هو: الخفاء. ثمة رغبة في أن يتراجع الموت من الأسرة؛ ليتم حصره في المشافي، وبشكل متصاعد في بدائل الأسر التي نسميها دور العجزة. يلحظ السيد أريس المفارقة في الجهود التي -من جهة- جعلت ذكر الموت “فحشًا” في الأوساط المهذبة-كما كان الجنس في العهد الفيكتوري-، ومن جهة أخرى: أنها تراقبه من خلال طوفان من الكتب والمقالات والوثائقيات عن الموت والاحتضار. الموت الذي يظهر من خلال الباب الأمامي حتمًا سيخرج من خلال النافذة، كما كتب السيد أريس. وقد علق على أثر التقانة الطبية على الموت والاحتضار، الأثر الذي حجْمُه وشدته كانت تتزايد ببطء في قاعات المحاكم -كما في قضية كارين آن كيونلان-، وفي مؤتمرات الأخلاقيات الحيوية، وفي الكنائس وأعمدة الصحف. لقد طاف بنا في صالات الجنائز والمنازل والمستودعات الفعلية والنفسية للاحتضار والموت. الموت في القرن العشرين -بالنسبة للسيد أريس على الأقل- أصبح -وبتصاعد- “أعنف”. و”الوحشية” البدائية للموت عادت، والموت الذي كان لوقت طويلاً “مروضًا” أصبح في هذا العصر “جامحًا”.

هل سيروض مرة أخرى؟ يعترف السيد أريس بالجميل لعمل الرواد مثل إليزابيث كابلر روس في دور العجزة، والوعي المتزايد للطب بالتزاماته في أثناء عملية الاحتضار، وكذلك لأخصائيي الصحة النفسية، ولغيرهم من الأخصائيين والباحثين. هذه الجهود -كما يَخْلص السيد أريس- هي محاولات لأنسنة الموت، ويعرب عن تقديره للتحركات الحميدة لغالب من أصبح الموت مجالهم الدراسي في قرننا الحالي، لكنني لم أجد في الفقرات الأخيرة من كتابه أي تفاؤل كبير “لترويض” الموت في الغرب اليوم أكثر مما وجدته في كتابه السابق عن إعادة ضم الطفل إلى الأسرة والأسرة إلى المجتمع الودود.

وإجمالاً، هذا كتاب مهم، كتاب جدير -بقدر كبير- أن يوضع إلى جانب العمل الشهير لإس جي إف براندون وكتاب إيرون بانوفيسكي “ثقافة القبر”، والذي يشيد به السيد أريس. العيب الأكثر وضوحًا لدى السيد أريس -على الأقل في حكم المراجع- هو: اعترافه الكامل بالتزامه أهدافَ التحليل وطرقَه لدى التاريخ النفسي. قليل من هذا يمكن قبوله. لا نمانع أن يقال لنا إنه رغمًا عن أن طقوس الموت بقيت كما هي؛ إلا أن “الإحساس بالحياة والموت في القرنين السادس عشر والسابع عشر كان مختلفًا جذريًا”.  ربما يكون الأمر صحيحًا، أو -على الأقل- في بعض جوانبه، على الرغم من أن الأدلة التي استشهد بها كانت واهنة جدًا. لكن السيد أريس عندما يبدأ يسبر “ما كان مؤثرًا في عمق اللاوعي الجماعي” ولا يجد في مشافي مجتمعنا الحاضر، ودور العجزة، ودور الرعاية، والمشارح، وخدمات الدفن والتأبين إلا “وحشية عنيفة مخادعة خائفة”= فإنه يجعل المرء يريد أن يهرب، أو -بشكل أكثر ملاءمة- أن يهرب إلى مئات الفقرات في هذا الكتاب الذي يحوي تحليلاً تاريخيًا فائقًا للعادات والطقوس ومراسم الدفن والاحتفالات التي شكلت الموت في القرب على مدى آلاف السنوات.

ملاحظة أخيرة: لم أستطع أن أفهم لم ألغي العنوان المقبول جدًا والمناسب جدًا بالفرنسية: “الإنسان في وجه الموت” إلى العنوان الحالي! هذا عنوان مناسب بدرجة كافية لفصل واحد، لا للمحتوى الكبير والمتنوع للكتاب بأكمله.

[i] روبرت نسيبت: باحث مقيم في معهد المشروع الأمريكي في واشنطن، وهو مؤلف كتاب: “التغيير الاجتماعي في التاريخ” ومؤخرًا: “تاريخ فكرة التطور”.

المصدر: DEATH IN THE WEST

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى