عام

2020 سنة ذوبان الوقت

هل كانت سنة أم يومًا أم ألف سنة؟ يزودنا العلم بأدلة علمية لفهم ذلك كله

  • شانون ستيرون
  • ترجمة: الخنساء با وزير
  • تحرير: عبير الغامدي

قبل أربعة عشر ألف سنة مات نجمٌ يُدعى فيلا، تهافتت نواته أولًا قبل أن يُدفع جسمه المُحطم في انفجار عنيف إلى الفضاء، فنزل موت فيلا في الوسط البين نجمي، مما أدى إلى إطلاق الإشعاع الكوني في كل اتجاه، فبدأت تتنقل شظايا هذا النجم من موقعه في مجرة درب التبانة باتجاه الأرض طوال 800 عام، فأخذت الأشعة الكونية تتغلغل في غلافنا الجوي عدة سنوات إلى أن استقرت في الأرض، فامتصتها الأشجار ومرجان المحيطات والبحيرات حول الكوكب.

 وبعد ذلك بمئات السنين، اكتُشفت شجرةٌ ميتة في جزيرة تاسمانيا الأسترالية والتي تحولت مع مرور الزمن إلى جذع شجرة ودُفنت تحت الرواسب، فعندها وجد العلماء موجةً إشعاعية عمرها 14000 عام بعد دراستهم النظائر المشعة لحلقات تلك الشجرة.

فالأحداث العشوائية التي تبدو بعيدةً وقديمة مثل موت فيلا – نجمٌ متوسط – والموجة التي سببتها على هذا الكوكب الصخري؛ دليل على ارتباطنا الوثيق بكل شيء في الكون، بما في ذلك مرور الوقت.

يدرس العلماء حلقات الأشجار بحثًا عن أدلة على العواصف الشمسية والانفجارات النجمية؛ وذلك لفهم دورات النجوم وكيف لحياتها وموتها أن يؤثر علينا.

لقد استخدمنا حلقات الأشجار لقياس هذه الروابط منذ أن تعلمنا كيفية دراسة النظائر المشّعة في منتصف القرن العشرين، كما نستخدم النظائر المشعة أيضًا مع الصخور وطبقات الجليد في أعماق القارة القطبية الجنوبية، فلطالما أراد الإنسان أن يفهم ما حصل في الماضي لفهم الحاضر، وكذلك لفهم الوقت.

ولكن الوقت نفسه كان مختلفًا هذا العام، كما تغيرت علاقتنا به بشكلٍ كبير؛ وذلك بسبب وباء فايروس كورونا، فمهما كانت الراحة التي تبعثها فينا فكرة أن الماضي قد ولّى؛ فما تنبهنا له الفترة الحالية بشدة هو أن المستقبل لا يبدو كما كنا نتوقعه سابقًا.

وفي الوقت ذاته قد ذابت ساعاتنا بأيامنا كما لو كانت سحابة ضبابية؛ وفي حين أن الوقت يمر بشكل أسرع من حولنا، فنحن لا نزال نعيش في عوالمنا الخاصة، بإيقاعها الرتيب، وقد أصبح هذا الاضطراب في الوقت جزءًا من خطابنا الجاري، ومادة ثرية للكثير من النكات والميمز (memes) التي تعبّر عن عدم معرفة في أي يوم نحن، وهذا يؤكد أننا جميعًا نعيش ظاهرة ذوبان الوقت.

ومع اختفاء ما يميّز الأيام عن بعضها، فقد بدت هذه الأيام ممزوجةً ومتداخلة، وتكرارًا لشيء واحد، فكما تعلم، نحن مخلوقات اجتماعية تحتاج للعيش في عالم اجتماعي، فلذلك قد وضع كل منا روتينًا لحياته اليومية. نستيقظ صباحًا، ونأخذ الأطفال إلى المدرسة، ومن ثم نذهب إلى العمل، نتوقف لاستراحة وجبةِ الغداء، ثم نذهب للنادي الرياضي، ونتناول العشاء في الخارج.

أما الآن بسبب الجائحة، وبشكلٍ مفاجئ، توقفت جميع الأنشطة خارج المنزل، وفقدنا الإحساس بالوقت الذي قدّمته هذه الأنشطة التي تبدو في ظاهرها روتينية مملة.

فأيامنا لم تعد أيامًا. وقت الغداء وكذلك العشاء صار مفتوحًا، وليس هناك تخطيط للسفر أو للذهاب إلى النادي الرياضي أو تناول الوجبات مع الأصدقاء.

منذ بداية هذا الوباء ونحن نواجه معضلة. لقد تغير الكثير في حياتنا ومن حولنا سياسيًا وبيئيًا، وفي ذات الوقت كان أغلبنا يعيش أيامًا مستَنسخةً في منازلهم، وهذا بحد ذاته أمرٌ صعبٌ على البشر؛ فأدمغتنا مجبولةً على فعل شيء واحد وهو: محاولة البقاء على قيد الحياة، فطبيعتنا المتأصلة تُعِّد البقاء على قيد الحياة بمثابة عمل وتنبؤ وتخطيط، فلذلك العديد منا لا يخرجون من منازلهم كوسيلة للبقاء على قيد الحياة.

درس عالم الأعصاب والباحث في جامعة كاليفورنيا في لوس انجلوس الأمريكية دين بونومانو كيفية ارتباط أدمغتنا بالوقت، فكما يقول: “الوقت مهم جدًا للدماغ؛ لأن أهم وظيفة له تكمن في التنبؤ بالمستقبل، فالدرجة التي يستطيع الحيوان التنبؤ بها لمعرفة مكان وجود الطعام والماء أو أين سيصادف حيوانًا مفترسًا وأين سيجد له رفيقة، كل ذلك يحدد نجاح ذلك الحيوان، فالدماغ جهاز تنبؤ بالدرجةِ الأولى”.

وكما هو مُلاحَظ، فقد أدى تأثير فايروس كورونا على حياتنا إلى فقد هذه الغريزة الأساسية، حتى التفكير في المستقبل صار يستحضر كتلةً من الحواجز الغامضة؛ وذلك لأننا لا نعرف متى سينتهي هذا الوباء، ناهيك عن معرفة كيف سيبدو عالمنا بعد انتهائه، فكل ما نفعله هو الانتظار.

ولفهم كيف تغيرت تجربتنا مع الوقت مؤخرًا نحتاج أن نفهم ماهية الوقت (وهي ليست إجابة سهلة بكل تأكيد)، فالوقت وسيلة أساسية لنا لمعرفة أين نحن.

يقول شون كارول، عالم الفيزياء الفلكية النظرية في معهد كاليفورنيا للتكنلوجيا: عندما يقول أحد “يبدأ الفيلم في السابعة مساءً”، لن يتوتر أحد كأن يقول مثلًا: “ما معنى ذلك!” أو “كيف لي أن أفسر هذه الطريقة الغريبة للنظر إلى العالم؟” الجميع يعرف ماذا يعني ذلك”، وهذا ما يُسمى “التوقيت” وهو ما يُنظم حياتنا.

تعرف أدمغتنا التوقيت، فتُميز غريزيًا بين الوقت ليلًا ونهارًا، وهذا ما يُسمى بالساعة البيولوجية، وهي عملية معرفة أجسادنا للوقت، ولذلك فعند غروب الشمس تنخفض طاقتك فترغب بالنوم، وكذلك أيضًا ضوء الشمس أو الأضواء الساطعة (مثل ضوء الهاتف الذكي) ينبّه أدمغتنا للاستيقاظ.

البشر ليسوا الكائنات الحية الوحيدة الواعية بالوقت، فتقريبًا جميع الحيوانات تحتاج لمعرفة ما إذا كان الوقت ليلًا أم نهارًا، فالحيوانات التي تصطاد ليلًا تجدها غريزيًا تعرف بأنها بحاجة لأن تنام النهار، ولهذا فإن التلوث الضوئي يُعَّد مشكلةً كبيرة، ليس فقط بالنسبة لنا وإنما أيضًا للحيوانات التي تعتمد على الظلام في بدء التزاوج أو البحث عن الطعام أو للنوم.

وللنباتات أيضًا ساعةً بيولوجية، فالنباتات تعرف لماذا عليها تجنُّب عملية التمثيل الضوئي في الليل، كما أن هناك العديد من البكتيريا أيضًا تتجنب ذات العملية في الليل؛ وذلك لأن الأشعة فوق البنفسجية الخارجة من الشمس تضر بالحمض النووي، ويظهر الوقت بأن يكون مستوى خلوي أساسي – كعملية سيلان الدم في أجسادنا – فيمر بغير ملاحظة منّا.

ولكن معرفتك لهذه المعلومة لن تساعدك لمقابلة أصدقائك خارج المنزل، ولن تسّهل عليك فهم الأسباب التي جعلت هذا العام يحوّل أدمغتنا إلى غسالات في وضع دوران دائم، ولكن إذا تمكنّا من فهم المزيد حول تحرُّك الكون للأمام فقد نشعر بتحسن ضئيل تجاه يأسنا الوجودي الجماعي، وربما نتمكن حتى من أن نسامح أنفسنا لنسياننا ما هو اليوم.

يُقاس الوقت بالنسبة للنجم الذي يدور حولنا، فنعرف أنه يلزمنا 365 يوم لإكمال دورة كاملة حول الشمس، وأنه يستغرق كوكبنا 24 ساعة لإكمال دورة حول محوره، طالما كنا نعوّل من آلاف السنين على الساعات الشمسية لقياس تغيّر ضوء الشمس في السماء على مدار اليوم، فنصف الدائرة المظلل الذي يعكسه هذا القياس على الأرض هو سبب دوران ساعاتنا، ولكن كثيرًا ما نمزح بأن الوقت دائرة مسطحة، وهذا عكس الواقع، فالوقت يمضي بشكلٍ مستقيم.

وذلك يُدعى بسهم الزمن. فنحن نعلم يقينًا أن الوقت يمضي بشكلٍ مستقيم، وهذا يفسّر سبب تذّكرنا للماضي وليس للمستقبل، وأننا نكبر بمرور الوقت ولا نصغر، فالكون نفسه يتحرك للأمام وذلك بفعل عمليةٍ تُسمى القصور الحراري؛ وهو في أصلهِ مقياس الجودة الذي يشير إليه الفيزيائيون بالاضطراب، والاضطراب أو الفوضى هي مجرد طريقة أخرى للتفكير في التغيير.

ويظهر القصور الحراري في كل مكانٍ حولنا وبشكلٍ أساسي طوال اليوم، لدرجة أن حرارة الأشعة تحت الحمراء التي يطلقها جسمك الآن هي شكل من أشكال القصور الحراري، ولفهم ذلك جيدًا، يلزمنا إعداد كوبًا سيّئا من الشاي. عند إخراجك مكعب ثلج من المجمد فإنه يكون في حالة منتظمة – مستوى منخفض من القصور الحراري – وذلك لأن جزئيات مكعب الثلج باردة وغير متحركة، ولكن عندما يبدأ المكعب بالانصهار فذلك يُدخله في مستوى أعلى من القصور الحراري، فجزيئاته الآن تتدفق بحرية وأقل انتظامية، وإن أردت غليانه لإعداد الشاي فسيتبخر جزء من الماء المغلي، والتبخر مستوى عالٍ من القصور الحراري للماء، وذلك يجعل جزيئات البخار تتطاير في كل المكان.

ولن تتمكن أبدًا من جمع جزيئات البخار المتطايرة وإعادتها إلى مكعب الثلج مرة أخرى؛ وذلك ببساطة لأنه لا يمكنك العودة بالزمن، لنزيد الاضطراب قليلًا في مطبخك بإضافة بعض الحليب إلى كوب الشاي = زيادة مستوى القصور الحراري، وترجع زيادة مستوى القصور الحراري لمزجنا شيئًا باردًا بساخن، فمزجت شيئين لا يمكن فصلهما، وهذا يمثّل سهم الزمن.

وبدأ الكون صغيرًا جدًا بحالة أكثر انتظامية – مستوى منخفض من القصور الحراري – وبتمددهِ ثم إطلاق الحرارة العالية إثر الانفجار العظيم، وباختلاط الأشياء ببعضها يزداد مستوى القصور الحراري الكلّي. وهذا ربما يبدو شيئًا سيئًا ولكنه علـى العكس تمامًا، فحالة التغير هذه ضرورية لحياتنا وبدونها يصل الكون إلى حالة توازن وبعدها إلى نهايته الحتمية “الموت الحراري”، فيصل كل شيء إلى درجة الحرارة ذاتها، ثم تحيط به الثقوب السوداء، فعندما تتوقف الأمور عن التغير يتوقف سهم الزمن عن التحرك للأمام.

عند انفجار النجم فيلا قبل 14000 عام، كانت لوحات العصر الحجري القديم لكهف شوفيه الفرنسي مخفيةً ومُجمدة في لحظة من الزمن لما يقرب 15000 عام قبل ذلك، وبعد موت فيلا بوقت قصير، انقرض الفيل الضخم “الماموث” كما انقرض أسد ودب الكهف، وكانت عظامهم على مدى آلاف السنين خاضعة لتغير المناخ، وذوبان الأنهار الجليدية والرواسب، فدُفنت عظامهم وترَكت أدلة على وجودهم إلى جانب العلامات باللون الأحمر والأسود التي تبطن الجدران بعمق داخل كهف شوفيه، كما احتلت الديناصورات هذه الأرض قبل مائة مليون سنة في نفس الوقت الذي كانت تتشكل فيه حلقات زحل.

فبهذه الطريقة يبدو الوقت وكأنه مختزَل، والماضي مقتطعٌ إلى أجزاء؛ وذلك لأننا ما زلنا نعيش على أرضٍ قديمة، فمن المحتمل أن تكون عظام الديناصورات تحت أقدامنا. أنشأت قدرتنا على ربط هذه العلامات في الوقت المناسب مجالات دراسة كاملة، مثل: علم الآثار، وعلم الفلك، والجيولوجيا، وعلم الأحياء. فاجتماع العلم مع التاريخ يساعدنا في رؤية ما لن نتمكن من الوصول إليه لولا ذلك.

فمعرفة مثل هذه الحقائق تساعدنا على فهم طريقة الكون في امتصاص وإطلاق الطاقة عند ولادة النجوم الجديدة وموت القديمةِ منها، وهذه الدورة تحدث من مليارات السنوات، ولكن مع تشكل النجوم الجديدة من وفرة الهيدروجين الباقية من الانفجار العظيم، تُحوّل تلك النجوم الهيدروجين إلى عناصر أخرى، فبهذا لن يبقى في النهاية ما يكفي الكون من الهيدروجين لولادة نجوم جديدة؛ فستتوقف عندها دورة الإنشاء.

ويحدث نفس هذا الاضطراب الدوري هنا على الأرض، فتأتي أنواع المخلوقات وتعيش على الأرض ثم تنقرض، وندرس نحن ما بقيَ من آثارهم مُعتقدين أننا مُستَثنون من دورة الحياة ذاتها.

ونحن كائنات مواجِهةً للمستقبل، حتى ذاكرتنا مصممَّة للتنبؤ بالمستقبل، فلدينا مخزون من التجارب السابقة – على نحوٍ بيولوجي – يساعدنا في اتخاذ القرارات، فعلى سبيل المثال: إن لمستَ مرةً موقدًا ساخنًا فأحرقتَ يدك، ستتعلم بعدها أن تبقى بعيدًا عن المواقد الساخنة.

هذا يتعارض مع طريقة فهمنا لذاكرتنا، فنحن نعتقد أن الذاكرة شيء ينتمي إلى الماضي أو الحاضر فقط. ولكن في الواقع ذكرياتنا ليست عن الماضي، بل هي من أجل مستقبلنا. فمن بين كل الأشياء التي سلبَها منا فايروس كورونا، قد يكون هذا أكبر الكُرَب: فلم نفقد الحاضرَ فحسب، بل إحساسنا بالمستقبلِ أيضًا.

قضينا وقت الوباء داخل عبث حقيقي بساعاتنا البيولوجية، فلهذا السبب شعرنا بمرور شهر مارس وكأنه سنةً كاملة، كما بدأ شهر ديسمبر فجأةً بينما كنا للتو عالقين في شهر أبريل، وكيف ليوم الأربعاء أن يمر وكأنه يوم الإثنين! أو كما يقول بونومانو: “يمكن أن يشعر الشخص المعاصر لفايروس كورونا باليوم ينقضي ببطءٍ شديد، بينما يمر الأسبوع والشهر سريعًا”. وهذا ما يسمى بالزمن الارتدادي. ويشرح بونومانو ما هو الزمن الارتدادي: “لا يتعلق الأمر كثيرًا بالوقت بل بالذاكرة وما تحويه من ذكريات، فإن مر عليك شهر كامل بلا تجارب جديدة – فبالتأكيد أنت لم تذهب إلى مدينةٍ جديدة، ولم تقابل أشخاصًا جُدد، وربما لم تمارس هوايةً حتى – فمن المحتمل أنك لم تثبّت في ذاكرتك كثيرًا من الذكريات طويلة المدى. فلذلك، بديهيًا يخلق ذلك تجربة ذاتية لتدفق الوقت بسرعة”.

يسود أجواءنا ارتباك غريب عندما لا تتوافق أيامنا مع ساعاتنا الداخلية وأحداث العالم الخارجية.

ويقول بونومانو أيضًا: “ففي وقتٍ مضى، طوّر الإنسان العاقل هذه القدرة ليس فقط على التنبؤ بالمستقبل، بل أيضًا للسفر عبر الزمن إلى المستقبل، مما سمح لنا بفعل شيء جذري تمامًا: خلق المستقبل”.

قد يكون هذا مبالغ فيه، ولكن بدلاً من محاولتنا للتنبؤ بالمكان الذي قد نجد فيه النباتات والطعام، بدأ البشر في زراعة البذور مدركين أنها لم تكن للإشباع اللحظي ولكن للبقاء على المدى الطويل، فطبيعتنا هي خلق المستقبل، إنها إحدى مهاراتنا ورغباتنا المتأصلة. وفي هذه اللحظة، تم انتزاعها منا جميعًا.

ولكن لحسن الحظ فإنّ محو الوباء لأي شعور بالماضي والحاضر والمستقبل لن يكون له آثار طويلة المدى على أدمغتنا كما يقول بونومانو: (على الرغم من أن اضطراب ما بعد الصدمة والتحديات العاطفية طويلة المدى التي قد نعانيها من العزلة تظل غير معروفة) “أعتقد أن الدرس هنا هو مدى تكيف جنسنا البشري. وهذا ما تطور الدماغ ليفعله، هو أن يكون متكيفًا، فمن المعروف أن البشر يتمتعون بالمرونة”.

لم يكن العمر موجودًا قبل قدرة الإنسان الحديث على حساب ما بعد الرقم 10. ولم نتتبع كيف كان الإنسان قديمًا، ولكن هذه الأرقام ومفهوم الوقت لم يكن لها وجود آنذاك، بينما دائمًا ما لاحظ البشر حركة الكواكب في السماء وما يتبعها من تغيّر الفصول لمساعدتهم على فهم مرور الوقت، فاختلفت أنماط ارتباطنا بالوقت بالنسبة لغالبية التاريخ البشري، وبدأ الناس بوضع الجداول الزمنية للمرة الأولى في أواخر القرن الثامن عشر، كما بدأوا برسم خريطة لحجم الإمبراطورية الرومانية وقياس انتشار الأمراض.

لم تبدأ علاقتنا بالزمن في التغيّر حتى القرن التاسع عشر، مع اختراع المحرك البخاري. وفجأةً أصبح للوقت أهميةً كبرى في حياة الناس، حتى احتاج مشغلو القطارات إلى التأكد من كون الوقت في لندن هو نفسه في غلاسكو حتى تكون مواعيد المغادرة والوصول دقيقة، وبدأ الناس في حمل ساعات الجيب وأصبحوا مدركين تمامًا لكيفية مرور الدقائق خلال اليوم.

وبغض النظر عن بُعد الحقبة التي ننظر فيها في تاريخ البشرية، هناك دائمًا مجال لنا لتشكيل علاقة جديدة مع هذا الشيء القيّم جدًا والغامض، فالوقت دائمًا ما كان يمثل مفارقةً وسيظل كذلك. فنحن دائمًا ما نتحرك عبر الزمن راغبين في استيعاب أكثر اللحظات قيمة، كالقبلة الأولى والحب الجديد، أو وجبة خاصة، ومدينة جديدة، ولكن سرعان ما تنزلق هذه اللحظات القيّمة من بين أيدينا كالرمل.

ومع ذلك، ونظرًا لأننا نعيش في غضون تلك الثواني، وندرك تمامًا أننا في الحاضر، فإن المستقبل سيظهر كما لو أنه صدًى لحاضرنا، مما يحثنا على سؤال أنفسنا في كل مرة: هل سنحافظ على هذا؟ هل سيبقى هذا الحب؟ هل سأعود إلى هذا المكان؟ وسنفكر “يجب أن نفعل ما بوسعنا لتحقيق ذلك”.

لا توجد دائرة زمنية مسطحة باستثناء تلك التي اخترعناها نحن البشر، الوقت الحقيقي هو حلقات شجرة، هو متاهة، هو بقايا نجمية، هو في الحروف، في الكتب، في اللون الأحمر والأسود المحفور على جدران الكهوف، إنه في البدايات الحب، وفي الفوضى، إنه النهايات، إنه كل شيء، مثلما نحن كل شيء.

بينما نقترب من دلالة زمنية أخرى مهمة – العام الجديد – فنحن نواجه تحديًا حقيقيًا، فكيف نتعامل مع طبيعتنا التي تتوق بشكل أساسي إلى التنبؤ بالمستقبل وحمايته والتخطيط له، بينما نواجه نزيفًا غير محدد المدة معًا؟

ربما يكون من المريح لنا جميعًا معرفة أن التيار الخفي للحيرة والخوف والحزن والقلق موجود لأكثر من الأسباب الواضحة وهي حقًا جزء من تجربة جماعية طبيعية، نحن في لحظة عميقة لكوننا بشر، فمع مرور الوقت أو حتى تحوله، نعلم على الأقل أنه لا يزال يدفعنا إلى الأمام.

المصدر
vox

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى