عام

قِيم منسية: التعاطف والعطاء يبدأ من المنزل

  • آدام جرانت وأليسون سويت جرانت
  • ترجمة: سليمى العلوي
  • مراجعة: مصطفى هندي
  • تحرير: المها العصفور

الأطفال بارعون في ملاحظة التناقض بين ما يفعله الكبار وبين ما يقولونه، وأي شخصٍ كبير وسمه أحد الصغار بالمتظاهر الكذاب أو المنافق يعرف ذلك جيدًا.

لو سألت الآباء الأمريكيين عمّا يريدونه لأطفالهم؛ لوجدت أن ٩٠٪ منهم أولويته هي أن يكونوا لطفاء، وهذا منطقي إلى حدٍ ما؛ حيث إن الاهتمام ورعاية الآخرين يعتبر أمرًا أخلاقيًا في مختلف المجتمعات والديانات. ولكن من جهة الأخرى عندما تسأل الأطفال عن ماذا يريده منهم آباؤهم، فإن ٨١٪ منهم قالوا بأن الإنجازات الكبيرة والسعادة هي ما يريده الآباء وليس اللطف والاهتمام.

الأطفال يعرفون ما هو مهم بالنسبة لوالديهم عن طريق ملاحظة ما يجذب انتباههم، وليس ما يقولونه لهم. وفي معظم المجتمعات المتطورة؛ يعطي الوالدان أولوية قصوى للإنجازات الفردية والسعادة أكثر من أي شيء آخر. وعلى الرغم من أننا نمتدح اللطف والاهتمام، لكن الحقيقة أننا نُظهِر لأطفالنا بأننا لا نولي هذه الصفات أهمية كبرى.

لهذا يجب ألا نستغرب بأن اللطف والعطف والحنان وحسن الأخلاق في انحدار. ففي تحليلٍ دقيق لطلاب الجامعات في أمريكا؛ أظهرت الدراسة بأن التعاطف والاهتمام بوجهات نظرِ الآخرين في انحدار جوهري واضح فيما بين عام ١٩٧٩ وإلى عام ٢٠٠٩. حيث إن الطلاب كبروا وتربوا في بيئات لا تنمي التعاطف والتفاعل مع من هم أقل حظًا، ولذلك لا يهتمون بشكل كبير لو رأوا أحدهم تعرض لظلم بيِّن.

والمشكلة ليست أن تعاطف الناس قد قل، بل أصبحوا أيضًا لا يقدمون المساعدة. ففي تجربة أجراها عالم اجتماع في عدد من مدن أمريكا سنة ٢٠٠١، ألقى فيها بمئات الرسائل والتي تظهر أنها ضائعة خارج صندوق البريد، وأعاد التجربة مرة أخرى سنة ٢٠١١، فلاحظ أن عدد المارة اللذين التقطوا الرسائل ووضعوها في صندوق البريد قد قل بنسبة ١٠٪، أما في كندا فقد أعيدت نفس التجربة، ولوحظ بأن المساعدة لم تقل مع مرور الوقت.

وجد علماء النفس أن الأطفال المولودين بعد سنة ١٩٩٥-كأسلافهم- يقدمون المساعدة لمن يحتاجها؛ ولكنهم لا يتحملون مسؤولية اتخاذ فعلٍ أخلاقي؛ فمثلًا تبرعهم للجمعيات الخيرية أقل.

ولو أن المجتمعات اليوم متفككة ولا تهتم بالآخرين بصدق؛ فإن جزءًا كبيرًا من اللوم يقع على المربين الذين عززوا قيمًا أخرى غير التعاطف. وهناك أمثلة كثيرة من حولنا لآباء ركزوا فقط على الإنجازات والنجاح، ونسوا تغذية التعاطف. فلو نظرت إليهم لوجدتهم يتباهون بنجاح أطفالهم، وينظرون إلى عدم تحقيق أبنائهم تلك الإنجازات نظرةٍ سلبية على أنه فشل في التربية.

من جهة أخرى، هناك آباء محترفون في قمع قيم التعاطف واللطف في حياة أبناءهم، لأنهم يرون أن اللطف والتعاطف في هذا العالم القاسي دلالة على الضعف. وكأن الآباء أنفسهم متفقون على عدم التدخل عندما يرفض أبناؤهم (قبل سن المدرسة) مشاركة لُعبِهِ مع أقرانهم ويصبحون أنانيين. وجهة نطر الآباء هنا هي تعليم أبنائهم الدفاع عن أنفسهم وحقوقهم، وأيضًا هم لا يريدون أن يكبر طفلهم وهو لا يستطيع أن يقول لا! بل الأفضل ألا يشارك ألعابه مع أصدقائه؛ فهو أسهل عليهم!

ومع ذلك لا يوجد سبب يمنع الآباء من أن يُربوا أبناءهم على التعاطف والتفاعل مع الآخرين، وفي نفس الوقت يكونون قادرين على الاعتناء بأنفسهم، فيجمعوا بين الكرم وبين الكرامة.

عندما تشجع أبناءك على احترام احتياجات ومشاعر الآخرين؛ سيفعلون ذلك أحيانًا، وأحيانًا أخرى لن يفعلوا. لكنهم وبشكل قريب سيفهمون مبدأ المعاملة بالمثل: فأنت إذا لم تعامل الغير باحترام؛ أبناؤك أيضًا لن يعاملوك باحترام.

إن الآباء اللذين ينتهجون الصرامة والخشونة في تعاملهم مع أبناءهم متأثرون عن غير وعي بمسألة المساواة بين البنين والبنات. في السابق، كانت العائلة والمدرسة تشجع البنات على أن يكن أكثر حنانًا ولطفا ومراعاة لمشاعر الآخرين، والأولادَ على أن يكونوا أكثر طموحًا وأكثر قوة. أما اليوم، فالمربون والمدرسون يستثمرون وقتهم وطاقاتهم في تعزيز الثقة بالنفس وتنمية روح القيادة لدى الفتيات، وللأسف لا يحدث مثل هذا مع الأولاد؛ فلا تطوير للعطاء والمساعدة عندهم. والنتيجة: اهتمام أقل بالعطاء واللطف حول العالم!

الأطفال لديهم مستقبلات حساسة جدًا؛ تلتقط كل هذا. فهم يرون أقرانهم يحتفلون بدرجاتهم وأهدافهم المحققة، وليس بالعطاء والتعاطف الذي يظهرونه. يرون الكبار يشيرون إلى إنجازاتهم ويولون أهمية بسيطة لشخصياتهم. المربون يريدون ترك إرثٍ عظيم للأجيال القادمة عن طريق أبنائهم. ولكن نحن في خطر محو قيم العطاء واللطف من قاموسهم. فما العمل لنصبح أفضل؟

عندما يدخل أبناؤنا المدرسة؛ فإن أكثر الأسئلة في نهاية اليوم تدور حول الإنجازات: هل فاز فريقكم؟ كيف كان اختبارك؟ هل حصلت على نجمة في دفترك؟

وحتى نوضح لأبنائنا أن المساعدة والعطاء قيمة أساسية لا غنى عنها؛ لابد وأن نعطيها أهمية في أسئلتنا اليومية: ماذا فعلتم اليوم لمساعدة غيركم؟ في البداية سيكون الجواب المعتاد: “لم أفعل شيئا، لقد نسيت”. ولكن بعد فترة سيبدؤون بإعطاء إجابات واعية “لقد شاركت وجبتي الخفيفة مع صديقي الذي نسي طعامه” أو “لقد ساعدت صديقتي في فهم سؤالٍ أجابت عليه بشكلٍ خاطئ في امتحان” فتجدهم يبحثون عن الفرص ليكونوا معطائين ويساعدون غيرهم.

كما أن مشاركة تجاربنا في مساعدة الغير مع أبنائنا تفيدهم جدًا، وأيضًا لا ننسى مشاركتهم اللحظات التي فشلنا فيها في المساعدة. فمثلًا إخبار أبنائك عن ندمك في عدم الدفاع عن طفلٍ تعرض للتنمر، قد يشجعهم في المستقبل للدفاع عن الأطفال اللذين يتعرضون للتنمر. أيضًا تذكر المرة التي انسحبت فيها من فريقك وتركت زملائك في الفريق متخبطين؛ قد يجعل أبناءك يفكرون جيدًا في مسؤولياتهم تجاهَ غيرهم.

الفكرة هنا: ليس بالضرورة أن نصر على أن يكون الأبناء معطائين وعطوفين دائمًا، لكيلا نضيق عليهم. ولكن المطلوب هو أن نعطي هذه القيم النبيلة أولوية الملاحظة والاهتمام والتقدير.

الأطفال بطبعهم يحبون المساعدة، وحتى الصغار منهم يظهرون فهمًا لاحتياجات غيرهم. ومع بلوغ الطفل لعمر السنة والنصف: نجده شغوف بتقديم المساعدة في ترتيب الطاولة، ومسح الأرضية، وجمع لُعبه من على الأرض. وفي الوقت الذي يصبح فيه في عمر السنتين والنصف: نجدهم يعطون أغطيتهم للأشخاص اللذين يشعرون بالبرد.

لكن الكثير من الأطفال يرون أن اللطف هو عمل روتيني وليس اختيار، بإمكاننا تغيير ذلك!

التجارب تشير إلى أن الأطفال إذا ما تم تخييرهم للمشاركة والعطاء بدلًا من إجبارهم عليها؛ سيتضاعف كرمهم. وعندما يُمتدح الطفل على تقديم المساعدة؛ سيقدم المساعدة مرة أخرى.

أيضًا بإمكاننا توجيه أطفالنا حيال الصداقات التي يكونوها. يفرق علماء النفس بين نوعين من طرق الشعبية والشهرة: فهناك المكانة (بحيث يكون الشخص ظاهرا بين أقرانه وجاذبا للانتباه بأسلوبه وتصرفاته، ويتبعه زملاؤه)، والطريق الآخر هو طريق اللطافة (يأتي من كون الشخص عطوف وطيب مع أقرانه). المراهقون في الغالب ينجذبون للمكانة؛ فتراهم يتبعون الأشخاص ذوي المنزلة العالية -حتى ولو لم يكونوا لطفاء-، وقد يلحظ بعض الآباء تصرفات الأطفال الآخرين ويقولون “لا أكاد أصدق أن هذه تصرفات طفل!”

الأطفال أيضًا يحبون أقرانهم بناءً على إنجازاتهم (الأسرع في الركض، المتميز في الصف، الأكثر جمالًا، الذي يمتلك موهبة مميزة).

لا نقول هنا أن على الآباء وضع قوانين للصداقة، ولكن المهم أن نُنَمِّي اهتمامهم بزملائهم اللطفاء والمتعاطفين عن طريق سؤالهم عنهم، وكيف يتعامل هؤلاء اللطفاء مع أقرانهم، وما هو شعور الآخرين تجاههم، وهذهِ نقطة مهمة لبناء صداقة الأبناء مع أقران ذوي قيم عالية وأخلاق نبيلة. أيضًا علينا أن نخبر الأبناء ألا يزاملوا الأقران اللذين يسخرون إذا ما سقط زميلهم في الصف، بل عليهم أن يختاروا اللذين يساعدون زميلهم للوقوف مرة أخرى.

وكما رأينا فإن التركيز على إنجازات الفرد قد تسبب نقصًا في جانب العطاء واللطف. والحقيقة هنا أن ليس علينا أن نختار بين الاثنين! فتعليم الأطفال احترام أنفسهم وغيرهم قد تكون أفضل طريقة لتحضيرهم لطريق النجاح والحياة المتكاملة. وهناك أدلة لا بأس بها تقول أن الأطفال اللذين يساعدون غيرهم يحققون إنجازات أكثر من غيرهم. فمثلًا الأطفال في الحضانة الذين قالت عنهم معلماتهم بأنهم يساعدون غيرهم ويتعاونون مع زملائهم= قد اكتسبوا مالًا أكثر بعد ثلاثين سنة. أما الأطفال في المرحلة المتوسطة، واللذين كانوا يقدمون المساعدة ويشاركون زملائهم= يتميزون أكثر عن أقرانهم غير المعطائين، فهم يحصلون على علاماتٍ أفضل في امتحاناتهم. وهناك دراسة أخرى على طلاب الصف الثامن: فقد وجدوا أن من حققوا إنجازاتٍ أكاديمية؛ لم يكونوا قد حصلوا على أفضل العلامات قبل خمس سنوات؛ ولكنهم كانوا أكثرَ مساعدة لغيرهم. أما عن طلاب المرحلة المتوسطة: فتجدهم يحصلون على علاماتٍ جيدة في المدرسة ويحترمون القوانين؛ عندما يقدر مربوهم قيم العطاء واللطف والاحترام أكثر من التميز ودخول جامعة مرموقة، والحصول على وظيفة ناجحة.

السبب وراء ذلك: هو أن الأشخاص المهتمين بغيرهم ومساعدة الآخرين، يرون بأن التعلم والتعليم جزءًا تحضيريًا للمشاركة في المجتمع ونفع الآخرين. فهذهِ النظرة المستقبلية تحفزهم لإكمال التعلم والمداومة عليه، حتى ولو كان صعبًا.

عندما يبدأ هؤلاء الذين تربوا على اللطف والعطاء مسيرة العمل؛ تراهم يحصلون على عائد مادي أكثر، ومراجعاتٍ أفضل على أدائهم، وترقيات أكثر، على عكس زملائهم الأنانيين. قد يكون سبب ذلك هو المعنى الذي يجدونه في مساعدة غيرهم والذي يدفعهم لتعلمٍ أفضل، وعلاقاتٍ اجتماعية أعمق، والفائدة القصوى هي إبداع وإنتاجية أكثر.

اللطف والعطاء يجعل الأطفال سعداء جدًا؛ ففي تجربة: أُعطي الأطفال رقائق البسكويت، وبعدها طُلِبَ منهم إعطاء القليل للدمية التي ستأكل البسكويت. سجل الباحثون تعابير وجوه هؤلاء الأطفال، ووجدوا بأن العطاء يعطي سعادةً أكثر من الأخذ، ويكون هؤلاء الأطفال في قمة سعادتهم عندما تؤخذ قطعة البسكويت من صحنهم وليس من صحنٍ آخر.

علماء النفس يسمون هذا (نشوة العطاء)، وعلماء الاقتصاد يطلقون عليه (الإشراقة الدافئة للعطاء)، أما علماء الأعصاب فقد وجدوا بأن العطاء يُفعِّل مركز المكافأة في الدماغ. وأما عن علماء الأحياء، فيقولون بأننا مرتبطين بمساعدة الغير؛ حيث يقول داروين “دائمًا ما كنّا مستعدين لمساعدة غيرنا، وقد يكون هذا السبب وراء انتصار أكثر القبائل؛ وهذا هو الانتخاب الطبيعي”.[1]

في النهاية، لابد وأن نشجع الأبناء على بذل وسعهم لتحقيق النجاح، وليكونوا فخورين بإنجازاتهم طبعًا، ولكن لا يجب أن نضحي بقيم العطاء واللطف في سبيل تحقيق النجاح والتميز. والاختبار الحقيقي للتربية هو ليس ما يحققه الأبناء الآن؛ ولكن ما أصبحوا عليه، وكيف يعاملون غيرهم.


[1] تقتضي الأمانة العلمية نقل النص كما هو، مع ذلك لا يتبنى ’أثارة‘ جميع الأفكار الواردة في المقال. (المراجع)

المصدر
theatlantic

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى