- تأليف : آنا ماريا جيليس – Anna Maria Gillis
- ترجمة : إبراهيم الشحات
- تحرير : نورة بنت عبدالملك بن الأمير
كانت هناك العديد من نقاط الانطلاق المحتملة لرحلة ألكسندر فون هومبولت، عالم التاريخ الطبيعي، ليصبح العالم البارز في عصره. إلا أن أهمها على الإطلاق كان في يوم 16 يوليو 1799، وهو اليوم الذي ارتحل فيه هذا العالم البروسي –نسبة إلى مقاطعة بروسيا بألمانيا- وصديقه عالم النبات الفرنسي إيمي بونبلاند على متن السفينة بيزارو إلى المدينة الأمريكية الجنوبية كومانا عاصمة نويفا أندلوسيا.
تزود المستكشفون من أوربا بأحدث المعدات العلمية المتاحة، بل ما هو أعظم في ذلك الوقت، جوازات السفر الإسبانية. وفي ظل هذه الميزة التي نادرًا ما تُمنح للأجانب، تمكنوا من المرور بأمان عبر مناطق عالم إسبانيا الجديد والقيام بعمل الملاحظات الفلكية، وقياس ارتفاع الجبال، وجمع عينات من كل ما ينمو على الأرض، وتنفيذ أي مهمة قد تسهم في تقدم العلوم.
والأهم من ذلك، أن ترخيص الحكومة الإسبانية ضمن أيضًا دعم المسؤولين المحليين لمغامرة علمية من شأنها أن تأخذ هومبولت و بونبلاند للمرور عبر ما يسمى الآن فنزويلا وكولومبيا والإكوادور وبيرو والمكسيك وكوبا. وقد ساهمت معرفتهم بطبيعة أمريكا الإسبانية وشعوبها وثرواتها، وخاصة المناطق التي لم تدرس إلا قليلاً داخل أمريكا الجنوبية في تطوير معرفة العالم بالمنطقة وغيرت أنظار الأوروبيين تجاه هذا العالم الجديد.
كانت خطة هومبولت الأساسية هي الذهاب أولاً إلى كوبا، إلا أن قرارًا استثنائيًا وضعه في كومانا على ساحل فنزويلا. ففي روايته الشخصية عن الرحلة إلى المناطق المتوازنة في القارة الجديدة، ذكر هومبولت أن المرض قد ضرب بيزارو عندما اقتربت السفينة من جزر الهند الغربية، مما أسفر عن مقتل شاب من أستورياس –منطقة في شمال غرب إسبانيا-، وكتب قائلاً: “على الرغم من أنه لم يثبت أن الحمى معدية، إلا أنني أعتقد أنه من الحكمة النزول في كومانا. قضينا سنة في هذا الجزء من العالم، ولم نكن لنكتشف الأورينوكو (the Orinoco) والكاسكويار (the Casiquiare) والحدود مع الممالك البرتغالية على ريو نيجرو (the Rio Negro) دون تفشي الحمى على متن السفينة بيزارو.”
هذه الاستكشافات من شأنها إنهاء حالة الجدل الأوروبية حول ما إذا كان هناك بالفعل ممر مائي يربط بين التيارات النهرية لنهري أورينوكو والأمازون. وقد ذكر المستكشف تشارلز ماري دو لا كوندامين، والذي رسم خريطة لحوض الأمازون، عام ١٧٤٥ أن قسًا يسوعيًا أرشده إلى استخدام نهر (Casiquiare) للوصول إلى (Río Negro) ، وهو أحد روافد نهر الأمازون. إلا أن المثقفين الذين لم يغادروا أوروبا أبدًا شككوا في دعوى كوندامين.
كان هومبولت قد بلغ التاسعة والعشرين عندما وصل إلى أمريكا الجنوبية، وقد صنع لنفسه اسمًا من خلال كتاباته في الجيولوجيا وعلم النبات. وقد سبر الأرستقراطي الشاب المتعلم تعليمًا جيدًا نفس الدوائر الفكرية التي انتهجها أمثال شيلر وجوته وموسى مندلسون. حيث درس هومبولت وشقيقه الأكبر ويلهيلم في جامعة جوتنجن، وتدرب همبولت الأصغر قبل الانضمام إلى دائرة المناجم البروسية في مدرسة فرايبرج للمناجم في ولاية سكسونيا.
وبعد وفاة والدته واستلام ميراثه، استقال هومبولت من عمله الحكومي رغبةً منه في استشراف حياته كعالم رحالة. ومن خلال تأثره الكبير بصديقه جورج فوستر من جامعة جوتنجن، والذي أبحر حول العالم على متن رحلة الكابتن جيمس كوك الثانية، وولعه بما وصفه “شوق غير مؤكد لما هو بعيد ومجهول” حاول هومبولت على مدى عامين للانضمام إلى بعثة بحثية ممولة من قبل الحكومة. وضاعت الفرصة تلو الفرصة وأصبح السفر أكثر صعوبة بعد ما شدد نابليون بونابرت قبضته على القارة. وأخيرًا، في مارس 1799، أقنع هومبولت ملوك إسبانيا بالسماح له -باستخدام أمواله الخاصة- باستكشاف مستعمراتهم. وقد قد كان إذنهم هذا هو الشرارة الأولى لأول استكشاف داخلي لأمريكا الجنوبية منذ لو كوندامين (La Condamine).
كتب هومبولت قبل مغادرة ميناء لو كورونا الإسباني إلى صديقه في مدرسة التعدين كارل فريسلابن قائلاً بحماسة: “سوف أحاول معرفة كيف تتفاعل قوى الطبيعة مع بعضها البعض، وإلى أي مدى تؤثر البيئة الجغرافية على حياة النبات والحيوان.” تتطلب محاولة هذا التوليف العلمي الطموح كمية هائلة من البيانات الأنثروبولوجية والأثرية والفلكية والنباتية والمناخية والاقتصادية والجيولوجية والجغرافية والحيوانية. ولحسن حظ هومبولت أنه كان يعيش في وقت كان فيه التقدم في العلوم الطبيعية والتطويرات في الأجهزة يجعل من الممكن التفكير في مخطط سيكون عظيماً حتى مع معدات ومعرفة القرن الواحد والعشرين.
قام هومبولت خلال سنواته الخمس في أمريكا اللاتينية بتحديد مجاري الأنهار وقياس ارتفاع الجبال وتسجيل مفردات اللغات الهندية ودراسة الأعمال الفنية لحضارة الأزتك Aztec وغيرها من الحضارات وجمع البيانات الاقتصادية وخاصة في كوبا. وللحصول على كل هذا، اجتاز هومبولت مساحات شاسعة من سهول اللانوس –في فنزويلا- والتي يسكنها المجرمون والمجاري المائية البرية المندفعة في زورق يبلغ طوله أربعين قدمًا محشورًا بأثني عشر رجلاً وقرودًا وكرسيًا، بالإضافة إلى المعدات التي شملت الكرونومترات والبارومترات والتلسكوبات والترمومترات ومقاييس السرعة والبوصلة وأجهزة تحديد اتجاه السفن والمقاييس المغناطيسية وإبر الغمس والمواد المرجعية. وسار هومبولت في كورديليرا دو لوس أنديس (Cordillera de los Andes) على طول الطرق التي سافر عليها قبل قرون الإنكا (Inca)، وصعد قرب قمة جبل شيمبورازو (Chimborazo) وصولاً إلى ارتفاع مخيف يبلغ ١٩٫٠٠٠ قدم.
ساهمت البراكين والشلالات والمياه المكتظة بالتماسيح والأدغال في المناطق الداخلية في أمريكا الجنوبية في شعور هومبولت ومن معه بمزيج من الانبهار والخوف، وصدمة من ثعبان كهربائي، فسمم نفسه بالكورار، وهو سم مشتق من النبات يستخدمه هنود الأمازون لإسقاط الفريسة. واضطر بونبلاند لإنقاذه من غرق وشيك لأن هومبولت لم يستطع السباحة، وعندما كان على مقربة من نمر قال هومبولت: “هناك لحظات في الحياة عندما يكون من غير المجدي أن نتصرف بعقلانية”، فبالرغم من أنه كان خائفًا، تذكر أن عليه المشي –لا الجري-.
انتهت رحلة هومبولت في العالم الجديد في عام ١٨٠٤ بزيارة إلى الولايات المتحدة، حيث تم تكريمه في واشنطن وفيلاديلفيا. وقد أضيفت العلاقات التي أقامها هناك -من بينها توماس جيفرسون وجيمس ماديسون- إلى شبكة متنامية من المراسلين الدوليين، الذين أبقوه على علم بجميع الأمور العلمية في أوروبا والأمريكتين.
وبدلاً من العودة إلى وطنه في برلين، انضم هومبولت إلى المجتمع الكبير من العلماء في باريس، وأعد للمهمة الضخمة المتمثلة في عرض النتائج التي توصل إليها في بحث علمي. تقول فيرا كوتزينسكي -أستاذة الأدب المقارن بجامعة فاندربيلت، ومديرة مشروع ألكسندر فون هومبولت باللغة الإنجليزية- : “كان قراره بالكتابة باللغة الفرنسية في المقام الأول قرارًا ذكيًا. حيث كان سيقيد نفسه بشكل كبير إذا كتب باللغة الألمانية فقط.”
وكشخص موسوعي احتاج القليل من النوم ليعكف على مهنة نشر موسعة بشكل مناسب. فكتب ورسم ووضع الخرائط والجداول وكافة الأمور الأخرى. وكمُراجع ذو شخصية موسوسة، أخرج رحلته إلى المناطق الاستوائية للقارة الجديدة في واحد وعشرين نسخة مطولة، والعديد من الطبعات المختصرة الأصغر بين عامي 1805 و 1834. استفاد المستكشفون النظريون من مغامراته وانكب الشعراء والرؤساء والرسامون على كتبه مبتهجين بكتاباته التي أظهرت هشاشة الفكر التنويري والشعور الرومانسي بالسيادة وقيم الثورة الفرنسية –دون النظر إلى الدماء التي سفكت من خلالها-.
غصت كتب هومبولت بذكاء جديد. فمقالته السياسية حول مملكة إسبانيا الجديدة هي مسح واسع للمكسيك، بما في ذلك الخرائط. تقول لورا داسو وولز (Laura Dassow Walls) في الممر إلى الكون (The Passage to Cosmos): “ساهمت هذه المقالة على مدى أربعين عاما في توجيه سلسلة من الرحلات الاستكشافية إلى ما سيصبح الجنوب الغربي الأمريكي”. وتقترب سيرته الذاتية، التي كتبها همبولت بناء على طلب من المعجبين، من القارئ الذي يرى همبولت من الداخل. وكتب آرون ساكس (Aaron Sachs) مؤلف كتاب (The Humboldt Current) أنه كان شخصًا ودودًا واجتماعيًا – حتى ذهب أحد المعاصرين إلى حد القول بأنه أتقن “فن الحديث إلى الكمال” – ولكنه كان أيضًا كتومًا إلى حد كبير، وهذا الذي جعله يدمر الكثير من مراسلاته الشخصية.
سعى هومبولت في كتابة سيرته –كما تقول وولز- إلى “الحصافة العلمية العالية التي منعته من انتهاك خصوصية أي شخص، بما في ذلك خصوصيته. لقد بث مشاعره في كل جزء فيها”. إذن، فهي سيرة ذاتيةٌ ليست ذاتيةً إلى حد كبير، ولكنه كتاب كان بمثابة دليل شاف للأرواح الباسلة الأخرى. وكتب تشارلز داروين، الذي كان يحفظ أجزاء من السيرة عن ظهر قلب: “إذا كنت تريد أن تكون لديك فكرة عن البلدان المدارية، فعليك أن تدرس هومبولت”. قد يكون داروين هو العالم الأكثر شهرة المحب لهومبولت، ولكن فهم هاملولدت الواسع للعالم الطبيعي والالتزام بجمع أعداد هائلة من البيانات، والأهم من ذلك، البحث عن المعنى في هذه البيانات، جذب جحافل أخرى من المعجبين، من بينهم تشارلز ليل (Charles Lyell)، ولويس أجاسيز (Louis Agassiz)، وفرانز بواس (Franz Boas)، وسامويل مورس (Samuel Morse). كان تأثير هومبولت كبيرًا جدًا، فالسنوات الوسطى من القرن التاسع عشر تُعتبر الآن عصر العلم الهومبولتي.
من المرجح أن يعرف الأمريكيون اللاتينيون والأوروبيون إرث هومبولت أكثر من الناس في الولايات المتحدة، على الرغم من أن أسماء الأماكن حولهم تعتبر الذكرى الرئيسة لهذا الرجل الذي يعتبره الكثيرون أبًا للجغرافيا الحديثة، ومن بين هذه الأماكن: شارع هومبولت في ميلووكي، ونهر هومبولت في نيفادا، ومقاطعة هومبولت في كاليفورنيا. وقد يلمع نجمه مرة أخرى مع جهود ألكسندر فون هومبولت (Alexander von Humboldt) في مشروع اللغة الإنجليزية. وتقوم كوتزينسكي (Kutzinski) وزملاؤها بتحضير أجزاء رئيسية من الرحلة إلى المناطق الاستوائية في القارة الجديدة لنشرها بواسطة مطبعة جامعة شيكاغو. وتم نشر المقال السياسي حول جزيرة كوبا علم ٢٠١٠ حيث قامت كوتزينسكي وأوتمار إتي (Ottmar Ette) من جامعة بوتسدام (University of Potsdam) بتحريره. وسيتم إصدار كتاب مشاهدات الكورديليرا والآثار الخاصة بالشعوب الأصلية في الأمريكتين في يناير القادم. وهذه المشاهدات التي تحتوي على الـ ٦٩ شرحًا من الأصل الفرنسي تعتبر أول ترجمة كاملة باللغة الإنجليزية لهذا العمل. ومن المقرر أيضا أن يتم إعداد المقال السياسي حول مملكة اسبانيا الجديدة للنشر في المستقبل.
كتب هومبولت كل كتاب من كتبه بأسلوب مميز. فالسيرة الذاتية، التي يمكن ان تكون الأكثر قراءة على نطاق واسع من بين أعماله، تدمج بين حس المغامرة والتعليقات التفصيلية. بينما في “كوبا” نرى عالِمًا صارمًا. وعلى الرغم من أنه يقضي بعض الوقت في الوصف -حيث كانت هافانا بالنسبة له واحدة من أكثر المرافئ الممتعة والخلابة في أمريكا الاستوائية- إلا أن هذا العمل محشو بجداول البيانات وتتبع درجة الحرارة والسكان حسب العرق وحالة الرق أو الحرية وإحصاءات التصدير لشراب الرم –شراب مسكر- والدبس والسكر وإحصاءات استيراد الكحول. حتى إنه وضع خرائط جديدة لكوبا، ووضع المدن والبلدات في أماكنها المناسبة ورسم الخط الساحلي. وفي نفس الكتاب، كتب هومبولت بشكل مكثف عن حالة العبيد في الجزيرة، وسعى لإثبات أنه لا يمكن تبرير العبودية حتى على أسس اقتصادية. حيث قال: “ربما تكون العبودية أعظم شر على الإطلاق يصيب البشرية، بغض النظر عما إذا كان المرء يركز على العبد الواحد الذي اختطفوه من عائلته في بلده الأم وألقوه في قبضة سفينة العبيد، أو يعتبره جزءًا من قطيع الرجال السود في جزر الأنتيل”. نادى هومبولت بالإنهاء التدريجي للعبودية، واقترح سن قوانين لمساواة السكان السود من الرجال والنساء في مزارع السكر، ومنح الحرية للعبيد الذين خدموا خمسة عشر عاما. واقترح أيضًا تقاسم الأرباح مع العبيد لمنحهم حافزاً لزيادة الثروة الزراعية، وتخصيص الأموال العامة لشراء حرية العبيد. وقد أغضبت أفكار هومبولت المسؤولين في هافانا لدرجة أنهم منعوا كتابه.
تصف كوتزينسكي كتاب مشاهدات كورديليرا بأنه “أكثر كتب هومبولت ثراءً في التجارب” وهو الكتاب الذي كان يُنظر إليه في الأصل على أنه أطلس صور يحتوي على مجموعة من المقالات القصيرة التي يمكن قراءتها كمقالات مستقلة بدلاً من سرد مستمر. وفي بعض المقالات في “المشاهدات” يلهم هومبولت قراءه بقصص مثل قصة (correo que nada) ساعي البريد. حيث كان ساعي البريد البيروفي يسبح بانتظام لمدة يومين في نهري شمايا (Chamaya) والأمازون لتسليم الخطابات محفوظة في عمامة على رأسه. يقول: “من النادر جداً أن يفقد ساعي البريد هذه الخطابات أو تتبلل منه في طريقه من إنغاتامبو (Ingatambo) إلى مقر حاكم جين (Jaén).”
تُقرأ بعض أعمال هومبولت الأخرى مثل ملخصات علمية موسعة ولكن مكتوبة بلباقة. ففي “مشاهدة شيمبورازو (Chimborazo) وكاريوايرازو (Carihuairazo)” يتناول هومبولت موضوعًا يبدو غير مستساغ وهو: الأحجام النسبية للقمم الأوروبية والأمريكية الجنوبية. وبعد الإشارة إلى أن العديد من قمم جبال الأنديز أعلى بالفعل من مونت بلانك، أعلى جبل في جبال الألب، يعود هومبولت فيقول بصورة شاعرية: “على سواحل البحر الجنوبي، بعد الأمطار الشتوية الطويلة، وعندما يصبح الهواء فجأة أكثر وضوحًا، يبدو جبل تشيمبورازو للمراقب مثل سحابة في الأفق. إنه يبرز من القمم المجاورة ويتخطى نطاق جبال الأنديز بأكملها، تماماً مثلما تعلو هذه القبة المهيبة، لأعمال مايكل أنجلو العبقرية، فوق الآثار القديمة التي تحيط بتل كابيتولين (Capitoline Hill).” إنه نوع من الوصف الذي حفز الفنانين مثل فريدريك إدوين تشورش (Frederic Edwin Church) على الرسم.
كان هومبولت ينثر دائماً الأفكار الجديدة في كافة أعماله. على سبيل المثال، في مقالته عن جغرافيا النباتات، وصف هومبولت بعناية شديدة النباتات التي وجدت على ارتفاعات محددة على جبل شيمبورازو، متنبئًا بمجال علم البيئة النباتية. واليوم، يبدو من الواضح أنه من المهم معرفة كيفية توزيع الكائنات الحية في النظم البيئية، إذا كان ذلك فقط لتلبية الاحتياجات الزراعية والحيوية والبقاء. لكن هومبولدت شجع قراءه على التفكير في الجغرافيا الحيوية ذات الصورة الكبيرة مع مرور الوقت. وكتب في “المشاهدات” قائلا: “التوزيع غير المتكافئ للحيوانات في جميع أنحاء العالم كان له تأثير كبير على الكثير من الشعوب ومسيرتها السريعة نحو الحضارة”.
وحسب وولز، فإن افتراض هومبولت الرئيس هو أنه “لا يمكن فهم البشر ولا الطبيعة بشكل منفصل”. فبالنسبة له، “لم تكن الطبيعة مجرد خلفية فحسب، بل لعبت دورًا أساسيًا في تنمية المجتمعات البشرية”. وتحدى هومبولت مرارًا وتكرارًا مفاهيم أوروبية عن قارة تكونت إلى حد ما من قبل أشخاص لم يسبق لأقدامهم أن تطأ أمريكا الجنوبية. وكان ضد الرأي السائد بأن الأمريكتين ليس لديهم تاريخ للتحدث عنه، كما تقول كوتزينسكي. وكان الناس يعتقدون أن القارة قد ظهرت في ظروف جيولوجية حديثة نسبيًا وأن أراضيها كانت مأهولة من قبل قبائل بدائية. ويجادل هومبولت بأن العالمين القديم والجديد ينتميان إلى نفس العصر الجيولوجي. وكتب يقول: “إن تدرج الطبقات الصخرية نفسها تظهر في كلا نصفي الكرة الأرضية. فالصخر البركاني الميكائي أو التكوينات المختلفة من الجبس والحجر الرملي في جبال بيرو تعود إلى نفس الفترات الزمنية لنظائرها في جبال الألب السويسرية. يبدو أن الكرة الأرضية بأكملها قد تعرضت لنفس الكوارث.”
اعتمد هومبولت في كتابه “مشاهدات كورديليرا” على ملاحظاته الخاصة من خلال أسفاره، ومعلومات من أعمال ومحفوظات أوروبية حول الممالك الإسبانية، والعلاقات مع الغزاة، والسرديات التاريخية التي صاغها كتّاب ميستيزو ونهوا (Mestizo and Nahua) للتعليق على عالم أمريكا الوسطى. ولفت انتباهه الرموز الهيروغليفية والأزياء والأساطير وعلم الأنساب الأزتكية واللغات، وكانت التقويمات، كما قال همبولت، “من بين جميع الآثار التي تبدو وكأنها دليل على أن الشعوب المكسيكية كانت على درجة معينة من الحضارة قبل وصول الغزاة الإسبان”. وعن طريق إنكا في بيرو يقول هومبولت: “يمكن مقارنة هذا الطريق مع الطرق الرومانية الأكثر جمالا.” توضح كوتزينسكي أن كونه أوروبياً واعياً يجعله “من غير المرجح أن يصبح وطنياً” فلم يؤمن هومبولت بكل ما رآه، ولكنه دعا إلى الاعتراف بأهمية ثقافة أمريكا اللاتينية. ويمكن اعتبار تصريحه: “لم نعد نعتبر أي شيء يبتعد عن الأسلوب الذي تركه الإغريق لنا من خلال نماذجهم الفذة كغير مثير للاهتمام” تحديًا مباشرًا للحس الأوروبي بالتفوق الثقافي.
عندما بدأ هومبولت استكشافاته واجه ما أسمته وولز “جدار من الجهل في أوروبا وأمريكا الشمالية، ومثله الحقائق الأساسية عن أمريكا الإسبانية وشعوبها ومدنها بنفس القدر عن جغرافيتها ونباتاتها وحيواناتها”. لقد كسرت كتاباته حول أمريكا اللاتينية هذا الجدار من خلال تقديم معلومات واقعية. وعلى نفس القدر من الأهمية، ألهمت طرق هومبولت العلمية عددًا من مشاريع الولايات المتحدة المهمة، من بينها حملة ويلكس (Wilkes) لدراسة المحيط الهادئ، ورسم جوزيف نيكوليت (Joseph Nicollet) لخرائط ولاية ميسيسيبي العليا، واستكشافات جون تشارلز فريمونت (émontJohn Charles Fr) في جبال روكي وكاليفورنيا. وفي نهاية القرن التاسع عشر، انضم جون موير (John Muir)، المعجب الكبير بهومبولت، إلى حملة زعيم السكك الحديدية إدوارد هاريمان (Edward Harriman) لدراسة ألاسكا.
وعلى الرغم من الشهرة التي اكتسبها من رحلاته الاستكشافية الجنوبية والتأثير الذي صنعه، فإن الكسندر فون هومبولت قد أفلس بحلول عام ١٨٢٧، ولم يستطع تغطية تكاليف إنتاج الكتب. وأجبرته الحاجة المالية إلى مغادرة باريس لتولي منصب في خدمة الملك فريدريك فيلهلم الثالث. واصل هومبولت خلال سنوات عمله في برلين العمل الميداني -هذه المرة في روسيا- وعمل في كوزموس (Cosmos). وكان العمل العظيم المكون من خمسة مجلدات، والذي كان تاج أعماله العلمية، محاولة كبرى لدمج الأساليب والنتائج في مختلف التخصصات من أجل شرح العلاقات بين الظواهر المختلفة، وهي المشاكل ذاتها التي واجهها لأول مرة في أمريكا الجنوبية. تقول كوتزينسكي: “استمر في العودة إلى الأمريكتين مرارًا وتكرارًا. فهي المحك الذي يدور في فلكه دائمًا عقله.”
عن الكاتب:
آنا ماريا جيليس ، مدير تحرير مجلة العلوم الإنسانية
المصدر : Humboldt in the New World