أحمد الحمدي*
-1-
حَفَل التراث العربي والإسلامي بالعديد من النصوص التي جمعت أقوالاً كثيفة الدَّلالة في مديح العُزلة، أذكر منها: ((العزلة والانفراد)) لابن أبي الدنيا (تـ/281ه)، و((العزلة)) للخطابي (تـ/388ه)، وفي كتاب الغزالي(تـ/505ه) ((إحياء علوم الدين)) باب في آداب العزلة، ومثله في ((صيد الخاطر)) لابن الجوزي (ت/597ه)، وكذا ((الأمر بالعزلة في آخر الزمان)) لمحمد بن إبراهيم الوزير (تـ/840ه).
وتراثُ المتصوفة في الجُملة زاخرٌ بالدعوة إلى العزلة عبر سلوك “الخَلوات” بقصد فراغ القلب عن علائق الدنيا، والتفكر في ملكوت الله بذكره، والاستبصار بعيوب النفس، فضلاً عن التفرغ للمجاهدات بكثرة العبادات والتألهات= وقد أفرد أعلام السلوك الصوفي في التراث الإسلامي فصولاً في آداب الخلوة والعزلة، كما في ((الرسالة)) للقشيري (تـ/ 465ه)، و ((الجوهر المصون)) للشعراني (تـ/ 973ه)، وغيرهما.
وفي التراث الـغربي الحديث كذلك نصوص في مديح العزلة، بعضها ظهر على هيئة تنظير فلسفي واجتماعي للعزلة مثل ((العزلة والمجتمع)) لنيقولاي برديائيف (1874-1948م)، والآخر على هيئة نصوص إبداعية أدبية كرواية ماركيز (1927-2014م) ((مائة عام من العزلة)) والتي هي سردٌ مَلْحَمي لأجيالٍ من عائلةٍ عاشت منعزلة عن محيطها.
وثمة مصطلح آخر يرادف العزلة في الثقافة الغربية هو “المنفى”، حيث يكثر تداوله لدى أدباء الوجودية والتفكيكية والعدمية وكتابها كـ ألبير كامو (1913-1960م)، صاحب رواية ((المنفى والملكوت)) وسيوران (1911- (1995م) في شذراته وألغازه اللغوية، وقد نجحى نحوهم بعض أنصار النزعات الفلسفية والأدبية الغربية في العالم العربي كـ أدونيس (1930-…) في كتابه ((رأس اللغة جسم الصحراء))، وغيرهم كثير.
أما التراث الشرقي الهندي منه والصيني= فلا حاجة للتذكير بأصالة سلوك العزلة فيه، والانقطاع عن الوصال بالبشر انقطاعًا قاسيًا، ففي الثقافة الهندوسية والبوذية والطاوية وموروثها الروحي عبر آلاف السنين حثٌ مباشر على سلوك الترهبن والانطواء في خلوات المغارات، وشواهق الكهوف.
-2-
ومعنى العزلة بيِّنُ للحِس العام= فالـمُعتزل من الأشخاص، أي: المنقطع عن مخالطة الناس[1]. واعتزل الشي: تنحَّى عنه[2]. والقرآن الكريم: (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) (سورة الدخان: 21) أي: خلوا سبيلي[3].
فالاعتزال في أصله نأْيٌ ماديٌ بـ ((الجسد/الجسم)) عن الناس، تمهيداً لعُزلة الفِكر والنفس= من أجل تحقيق الصفاء عن شواغل الحياة، وكثافة الأنفاس، وضجيج الأيام، وراحــــة الجسم، هذا هو معنى العزلة في الأصل، لكن القَدْر الخفي في معنى العزلة، والجديد على البشر في أزمنتها الحديثة= هو أن عزلة الجسد بغية تحقيق صفاء النفس لأي غرض كان باتت ((عزلة مـُخترَقـة)) بفعل التقنيات الحديثة من هاتف وراديو وتلفزات، وأخيرا بفعل ثورة سائلة من مئات التطبيقات التقنية في عالم الاتصالات الرقمية.
وبالتالي فإن انعزال وابتعاد الإنسان بجسده عن زحمة الحياة اليومية، بهدف صفاء النفس، وسكينة الروح= بات مزدحمًا وكثيفًا بالـ حضور في قلب العالم وضجيجه، الأمر الذي يجعل من عزلة الحد شبه سلوك صوري بلا مضمون وجداني يحقق الصفاء الداخلي.
-3-
العزلة مسافة اجتماعية، والمسافة الاجتماعية ليست دائمًا ثابتة بصارمة، ولكنها تــُحدد جُزئـــيًا حسب الوضع الشخصي[4]. ولا شك أنّ الإنسان بحاجة إلى ((فن المسافة)) بينه وبين العالم، لكي يمارس احتياجات روحه ويتفكر في مقاصد وجوده، فـ”مولد الوعي حدث هام في مصير الأنا[5]” -كما يقول برديائيف-، و”العزلة زاوية صغيرة يقف فيها المرء أمام عقله“- كما قال دوستويفسكي-، وقد كانت العزلة المتقطعة المؤقتة سِـمَةً من سـِمَات سلوك الأنبياء والحكماء والعلماء= وما شعيرة الاعتكاف في الإسلام إلا انقطاعٌ مُؤقَّت عن زحمة العالم من أجل العبادة والقرب الإلهي.
-4-
وفي ظني أنّ سبب جمع العلماء المسلمين من المتقدمين والمتأخرين لنصوص أعلام الزهد والسلوك في مديح العزلة، والحث عليها، واعتبارها بابًا من أبواب النجاة في الدنيا، وذخيرة في الأخرى= كان مبعثه أمران، أولهما: أن كُلَّ أهل زمانٍ يَشكُون زمَانهم، ويأسفون على أحوال أهل عصرهم وتلك خِصِّيصة يبدو أنّ مجمل حال الناس ينحازون لها، ويأرِزون إليها، والباعث الآخر: أنّ نصوصًا مأثورة جاءت في السنن النبوية، والآثار المروية[6] على لسان النبوة والصدر الأول من الصحابة والتابعين=تحث على العزلة، وتنتصر لصوابها.
-5-
ومقام الكتابة هنا ليس المفاضلة بين العزلة والمخالَطة، ومحاكمة ثبوت ودَلاَلة تلك النصوص المأثورة أو الانتصار لأحد الفريقين منهما من مؤيد أو معارض، فذلك مقام آخر، إنما المقام الذي دفع بي للتساؤل عن إمكانية العزلة اليوم= هو أننا نحن أبناء القرن الحادي والعشرين، في لحظة التاريخ التي اجتاحت فيها الوسائط الرقمية، وثورة الخوارزميات الإلكترونية، التي تتوالد أشكالها وتموت كل يوم: هل باتت العزلة ممكنة لمجمل الناس؟
يبدو أنّ العزلة باتت شبه مستحيلة! تحت ضغط مُنتجات الحضارة الرأسمالية، وما تبتكره كل يوم من فنون الإلهاء والتسلية الرقمية والتشتيت الذهني والنفسي الذي يتوسل بفنون التسويق، بل وعلوم الأعصاب السريرية والاجتماعية.
وإنّ كل ما يستطيع المرء فعله اليوم هو أنْ ينسي في سلوكه الذهني والعملي عادات ذريـَّـــة صغيرة، يمكنه من خلالها أن يحمي نفسه من غوائل الحياة المعاصرة وسلبياتها، على عقله وروحه وذلك عبر تنمية ((حاسة الانتباه)) و((حاسة الانتقاء)) للمفيد، والتفكير النقدي في المعروض والاتكاء على فقه إدارة الأولويات ومقصد الموازنات الشرعية، والبصيرة بالاحتياجات الذاتية، وأنْ يستحضر الإنسان المعاصر أنّ قيمته الحقيقية في العالم الافتراضي اليوم ليست في موقع المستهلك لسُلطة التــَّــفـاهات= وإنما قيمة الإنسان الافتراضية فيما يضيفه لنفسه وللعالم من الخير، والقيم الـخُلقية والعِلمية والعَملية، وفوق كل ذلك ما يضيفه من معنى للحياة.
إنّ تجربتنا الثقافية اليوم مختلفة وعابرة للزمان والمكان= فانكماش المسافات، والعيش في علم كثيف بالمجازات الرقمية=هي أحد أشكال العلاقات المعقدة للعولمة التي يعيشها الإنسان المعاصر، فـ”العالـَم ولأول مرة في التاريخ -كما يقول جون توملينسون في كتابه العولمة والثقافة-: “لديه إحساس مشترك بأنه يعيش مكانًا وزمانًا متقارِبًا[7]“.
إذا ما أراد الفرد أنْ يلوذ بمحراب العزلة الصعب في عالم اليوم، فعليه الحذر من آفات ((العزلة الوهمية)) في العالم الرقمي: فقد تتحول العزلة إلى شكل من أشكال الأنانية، والتعالي المثالي، والنرجسية المرضِيَّة، أو العَوَق الاجتماعي، والشعور بالخزي، وتدني تقدير الذات، مخدوعةً بوهم العزلة شبه المستحيلة= في زمنٍ باتت البيئة الرقمية تكتسح فيه كل مساحات الفرد، محطمةً فيه ((وهْم الـخُصوصية))، في الوقت الذي يشعر فيه الإنسان بأنه يتمتع بأعلى درجات الحريات الفردانية.
- باحث سعودي، مهتم بالدراسات الإنسانية، وتاريخ الفكر الإسلامي.
[1] معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، مؤسسة معجم الدوجة التاريخي للغة العربية (تاريخ الاقتباس: السبت، 24 يونيو -2023م).
[2] المنجد في اللغة والأعلام، لـ لويس معلوف، ط، الثامنة والأربعون، دار المشرق، بيروت-لبنان، 2014م، (ص504)، المعجم الوسيط، مجموعة مؤلفين- مجمع اللغة العربية، الطبعة الرابعة، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة – مصر، 1425هـ – 2004م، (ص 599).
[3] تفسير الطبري: جامع البيان، ط، دار هجر، ( (33/21.
[4] الـــبُعد الخفي، لـ إدوارد هول، ترجمة: لميس اليحيى، ط، الأولى، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان الأردن، 2007، (ص 20-21).
[5] العزلة والمجتمع، لـ نيقولاي برديائیف، (ص 90).
[6] ومن تلك الأخبار ما جاء في الحديث النبوي: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ- خَرَجَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ جُلُوسٌ، فَقَالَ: ” أَلا أُحَدِّثُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ مَنْزِلَةً؟ ” فَقَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: ” رَجُلٌ مُمْسِكٌ بِرَأْسِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يُقْتَلَ، أَفَأُخْبِرُكُمْ بِالَّذِي يَلِيهِ؟ ” قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: ” امْرُؤٌ مُعْتَزِلٌ فِي شِعْبٍ، يُقِيمُ الصَّلاةَ، وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَيَعْتَزِلُ شُرُورَ النَّاسِ، أَفَأُخْبِرُكُمْ بِشَرِّ النَّاسِ مَنْزِلَةً؟ ” قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: ” الَّذِي يُسْأَلُ بِاللهِ وَلا يُعْطِي بِهِ». المسند، لابن حنبل، حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه شعيب الأرنؤوط وآخرون، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1416هـ = 1995م – 1421هـ = 2001م (4/24)، رقم الحديث: (2116).
[7] العولمة والثقافة: تجربتنا الثقافية عبر الزمان والمكان، ترجمة: إيهاب محمد، سلسلة عالم المعرفة ع354، 2008م، (ص22) بنحوه.