- تأليف : ستيفين أسما Stephen T. Asma
- ترجمة : الخنساء التويجري
- تحرير : لطيفة الخريف
إنه لوقت معقد لتعريف الديانة، باعتبار أن وجودها يتضاءل في معظم نواحي الحياة الحداثية تقريبًا، ولا يقتصر ذلك على الملحدين والعباقرة فقط، بل على نطاق سكاني أوسع أيضا. حيث يمكننا تصوّر أن جيل الشباب القادم سيكون غالبيتهم لا منتمين دينيًا في الذاكرة القريبة.
ويمكن تفسير الاستياء الحاصل تجاه الأديان من خلال عدة أسباب، كفضح استغلال وامتهان القساوسة ورجال الدين المنتمين، والجهاد الواجب ضد الكفار، كذلك البراء والعداء الداخلي المسيحي ضد الثقافة العلمانية، فقاد ذلك السلوك والضغط الواقعان العديد لتبنّي ما قاله عالم الأحياء التطوري إدوارد أسبورن ويلسون “في سبيل التطور الإنساني، فإن أفضل ما يمكننا القيام به هو القضاء على نقطة الخلاف الكامنة بالمعتقدات الدينية وإنهاؤها”.
على أن المشكلة الحقيقية مع الديانة -وشكوكي التاريخية نحوها- فإني أرفض المشاركة بذلك التصور، بل أعترض لأننا مازلنا نحتاج الدين، ولعل أفضل بداية لطرح الأمر، يبدأ بقصة، ففي أحد الأيام، وبعد إلقائي محاضرة تستعرض هشاشة التوحيد، اقترب مني طالب خجول وسرد متوترًا ومترددًا قصته المفجعة، في طيّاتها حمل وفكك قناعاتي وافتراضاتي بشأن الدين، فنقل لي أنه قبل خمس سنوات، طٌعن أخوه المراهق والذي كان يكبره سنًا بوحشية حتى الموت، فقد هُجم عليه وشُوِّه وحتى الآن لم يُقبض على الجاني، وهذا أدى لتعرض والدته وأخته لصدمة شديدة، بل إن والدته عاشت إحباطًا كاد أن يدوم للأبد عدا أنها أدركت إمكانية رؤيتها لابنها يوم البعث وقد قرت عينها به سليمًا، هذه المعتقدات المساندة التي تلقتها من خلال الخوض في طقوس الكنيسة بعد مقتل ابنها ساهمت في إنقاذها من بؤسٍ حالك وشجعها لتصبح قادرة على تربية بقية أبنائها، طالبي وأخته.
لكن كل ذلك يبدو غير منطقي للملحد النموذجي، فيرفضه، فتلك المعتقدات التي أُخبرنا بها، تتطلب أدلة لا مجرد تطلعات، فبدون المعايير المنطقية كما في العلم، سنتخبط جميعًا في فوضى تقودنا إلى ظلمات ما قبل التنوير.
لا أنوي محاولة إنقاذ الدين على أنه أمر منطقي، بل أنه ليس كذلك أبدًا، ولكن لابد من ذكر أن كونه غير منطقي لا يعني بالضرورة أنه غير مقبول، أو عديم القيمة، أو دلالة على الجبن، بل لعل كونه غير منطقي، يعد مصدر قوته.
يتمكن عقل الإنسان من حل مختلف مشكلات أنظمة التشغيل: الدماغ الزاحف القديم (وظائف الحركة، غريزة القتال والطيران)، والدماغ الحوفي (العواطف) ومؤخرا تطور القشرة المخية الحديثة (منطقيًا). الدين يستفز الدماغ المنطقي لامتهانه التفكر السحري، ولا يتبنى أدلة، ولكنه يغذي الدماغ العاطفي لقدرته على تهدئة الخوف، واستجابته للتوق، وتعزيزه لمشاعر الولاء والانتماء.
بناءً على علماء الأعصاب البارزين مثل جاك پانكسيپ وأنطونيو داماسيو وكينت بيرج، والمحللين النفسيين العصبيين مثل مارك سولمز، فإن عقولنا تتحفز في الأصل من خلال أنظمة عاطفية رئيسية، كالخوف والغضب والشهوة والحب والحزن، هذه القوى متكيفة وتساعدنا للنجاة إذا تم التحكم بها غالبًا، ذلك في حالة أنها بُنيت بالقوة الكافية لتحقيق أهداف النجاة، لكنها ليست تلك القوة القاهرة التي قد تؤدي بنا إلى الاضطراب العصبي والسلوكيات العدائية.
ادعائي هو أن الدين قادر على الوصول المباشر لهذه الحياة العاطفية من خلال وسائل لا يتمكن منها العلم بذاته، نعم، العلم قادر على اعطائنا المشاعر العاطفية من خلال التساؤل حول عظمة الطبيعة، لكن هناك أشكال عدة لمعاناة الإنسان يتجاوز استيعابها كل المسكنات العلمية، ضغوط المشاعر المختلفة تتطلب أنواع إنقاذ مختلفة كذلك، على عكس تكريم العلمانية السابق للدين بتقدير أخلاقيات وحضارة ومكانة الدين، أظن أننا بحاجة للدين لأنه أحد أشكال امتحان الطريق لإدارة العواطف.
بالطبع، هناك جانب مظلم للعواطف الروحية موثق جيدًا، حياة العواطف الدينية تميل للميلودرامية، الدين مازال يتعرض للمتاجرة بسهولة سواءً بسياق خيّر أو شرير، كما أنه يدفع البعض لتمرّس أوهام انتقام هرمون التستوستيرون وكذلك العنف، رغم أن هذا النوع من الحماسة المفرطة هو خطر لا يمكن إنكاره، لكن الدين في الحقيقة يساعد في مكافحة العائلة متوسطة الحال للاقتصاد في الأوقات العصيبة.
الطقوس الدينية مثلًا، تحيط الشخص المثكول بأهم مورد لدينا ألا وهو الناس الآخرين. يعد البشر اتكاليين على غيرهم بدرجة تفوق الثدييات، وليس ذلك فقط لكسب الموارد والمهارات، بل للحاجة إلى الشعور الجيد والذي يعد أهم من التفكير جيدًا في النجاة.
الممارسة الدينية تعد تفاعلًا اجتماعيًا بإمكانه تحسين الصحة النفسية، عندما تخسر شخصًا تحبه، الدين يوفر إطار علاجي من خلال طقوس دينية ومعتقدات تنتج الأوكسيتوسين، والمواد الأفيونية الداخلية، والدوبامين وتأثيرات إيجابية بإمكانها مساعدتك بالتعامل أو النجاة، المعتقدات تلعب دورًا، لكنها ليست الآليات الأولى لتحقيق قوة علاجية حقيقية، عوضًا عن ذلك، الممارسة الدينية (الطقوس، والأنشطة التعبدية، والترنيمات، و الدعاء والصلوات والقصص) تتحكم بعواطفنا، تقدم لنا الفرص لإبداء الاهتمام لبعضنا البعض في أحزاننا، تتيح لنا تخفيف كل الضغط والسلبية، أو إعطاءنا توجيها و مخرجا للغضب.
ملحدون مثل ريتشارد داوكنز وإي. أو. ويلسون وسام هاريس يقيمون الدين في مستوى القشرة الحديثة، فمعيارهم للتقييم هو الوسيلة العلمية العقلانية، أنا أتفق معهم أن الدين يفشل بشكلٍ بائس حينما يتعلق الأمر بجانب الصلاحية العقلانية، ولكن نحن في الجانب الخاطئ، بُنيَ الدماغ الزاحف القديم باختيارات طبيعية لمواجهة تحديات النجاة، لا عن طريق العقلانية، كذلك العواطف مثل الخوف والحب والغضب وحتى الأمل والحدس، تُختار لأنها تساعد على ازدهار الثدييات مبكرًا، وفي عدة أحوال، تقدم العواطف طرقا أسرع لمواجهة المشاكل أكثر من الإدراك التداولي.
لنا نحن البشر، المسألة المثيرة للاهتمام هي كيفية تفاعل نظام تشغيل الكائن القديم مع نظام التشغيل الجديد للمعرفة، كيف لعواطفنا وأفكارنا أن تكوّن مزيجًا يشكّل حالتنا العقلية وسلوكياتنا؟ قال عالم الأعصاب أنطونيو داماسيو بأن العواطف -حتى تلك التي تبدو معلومات نقية- تتلقى جوانب من معالجة التداول العقلاني. إذن، شيء ما مُعقد يحدث عندما تتذكر وتستحضر والدة طالبي ابنها المتوفى، وترسخه في صور دينية تساعدها على إبقائه.
لا يوجد مقدار من التفسيرات العلمية أو النظريات الاجتماعية السياسية بإمكانها مواساة أم الولد المطعون، بيل ناي رجل العلم ونيل دي قراس تايسون لن يكونا مساعدين، هل يجب عليهما أن يقررا إسقاط وشرح فسيولوجيا المعاناة وعلم الاجتماع الخاص بالجريمة؟ لكن التفكير السحري الذي يجعلها تعتقد أنها سترى ابنها المقتول مجددًا، محفوفةً بالأحضان والترنيمات بإمكانه الحفاظ عليها. إذا كان هذا الأمل المحاط بالعاطفة يعطيها الطاقة والحيوية لتستكمل اهتمامها ببقية أطفالها، فمن الممكن أن يقدم ذات الشيء للآخرين، ونستطيع رؤية استمرار الدين.
أولئك من هم منّا في العالم العلماني، من ينقدون ردود الأفعال العاطفية والاستراتيجيات بالامتناع، “لكن هل هو حقيقي؟” تُضيّع الغاية، معظم المعتقدات الدينية ليست حقيقية، ولكن هنا يكمن صلب الموضوع، الدماغ العاطفي لا يهتم، إنه لا يعمل على نطاق الحقيقة والزيف، فالعواطف لا تحمل صوابًا أو خطأ، حتى الخوف الرهيب داخل الحلم يبقى خوفًا رهيبًا، مما يعني أن معيار قياس نظرية سليمة لا يقاس بنفس معيار العواطف السليمة، بل على خلاف النظرية الصحيحة، والتي لابد أن تتطابق مع حقائق تجريبية، فإن العواطف الصحيحة هي التي تساهم في التوازن الكيميائي العصبي أو الحالات الأخرى الفعالة التي تساعد على تعزيز الازدهار البيولوجي.
ختامًا: نحن بحاجة إلى كلمة أو اثنتين حول التخدير، الإدانة العصرية للدين تبعت التوبيخ الماركسي الذي يزعم أن الدين عبارة عن تخدير مدار بشكل غير مباشر عن طريق سلطة دولية تسعى لشعوب تسهل السيطرة عليها، فتقبل الفقر والعجز السياسي آملين بجزاء خارق يفوق الطبيعة بعد وفاتهم، زعم ماركس “الدين هو متنفس المظلومين” و “القلب لعالم قاسٍ، والروح لأحوال لا إنسانية، هو تخدير للبشر”
ماركس وماو وحتى مالكوم إكس، مهدوا لهذا النقد ضد عادات الدين، والنقد هو آخر ما يود المؤمن أن يُدفع به إليه، أنا دفعته بنفسي عدة مرات، ظنًا أنه كان سلاحا حازما، وفي السنوات الأخيرة غيرت رأيي بشأن ذلك النقد.
أولًا، ينشط الدين كما يخدر، وبقدر ما يسكن أو يهدئ، فالدين أيضا يعزز ويقوي المؤمن، هذه الخاصية المحفزة للدين قد تكون خطورتها على حالة المؤمن النفسية أشد من تأثيرها المهدئ، وهو يحث على الأعمال الخيرية والإحسان المتصل بالإيثار .
ثانيًا، على أية حال، ما السيء بإعفاء الألم؟ إذا كانت وجه نظري للدين أنه مبدئيًا علاجي، أنا بالكاد أصاب بخيبة الأمل عندما أرى أن هذه المعالجة تقدم على هيئة مسكنات للألم. إذا كان الملحدون يعتقدون أنه يكفي لردع حجة المؤمن أنه لن يستطيع منع الآلام من حياته، إذن أنا أفترض أن الملحد لا يملك ملجأً لإدارة آلامه في حياته الخاصة، فأنا أحسد حظه الجيد.
لبقيتنا، هناك الأسبرين، والكحول، والدين والهوايات والعمل والحب والصداقة، في النهاية، مسكنات الألم مثل الإيندروفين، هي مكونات كيميائية فطرية في عقل الإنسان وجسده، وقد تطورت جزئيًا، من حين لآخر لتخفف وتريح الكائن الحي من البؤس، ولأستحضر جملة شهيرة قالها الفكاهي الألماني ڤيلهيم بوش “من يملك همومًا، يملك البراندي” (البراندي: شراب كحولي)
نحن بحاجة إلى تقدير واضح لدور المسكنات الثقافية، ليس كافيًا استبعاد الدين بناء على الأحكام الأخلاقية المتزمتة حول ضعف المتدينين، الدين هو أقوى ثقافة للاستجابة إلى حياة عاطفية عالمية تربطنا جميعًا.
المصدر : What Religion Gives Us (That Science Can’t)