- إيرين ك. ويلسون[1]
- ترجمة محمد صديق أمون
- تحرير: سهام سايح
قبل سنتين، أقررتُ بأنّ العمل الأكاديميّ يُضرّ بصحتي، حقاً كان عليَّ ذلك، إذ لم يكن لدي خَيارٌ آخر.
انتقلتُ في 2012 من أستراليا إلى هولندا لتولي منصب المدير المؤسس في مركز بحثيّ. تطلبت هذه الوظيفة التحوّل عن السياسة والعلاقات الدوليّة، إلى كليّة اللاهوت والدراسات الدينيّة. ولقد عكفت على العمل سنوات خمساً، بحثاً، وتدريساً، وتحديثاً في المؤتمرات، ومساهمةً في وضع برامج تعليميّة وبحثيّة جديدةٍ، وتنظيماً للندوات والحلقات، ورسماً للخطط مع مؤسسات أوروبيّة فوق وطنيّة ووزراء أجانب. ولقد أمضيت الأمسيات، وعُطل نهاية الأسبوع، والإجازات في صياغة طلبات المِنَح، وتحبير فصول الكتب، والمقالات، إلى جانب تحضير أدلة المساقات، وتحرير المجلدات، وأعداد المجلات. وفي عام 2017، انتقلتُ مباشرةً من هذه الوظيفة إلى رئاسة القسم، وقد كان هذا، أدركتُ فيما بعد، قراراً خاطئاً.
كانت علامات ما هو آتٍ تلوح أمامي لفترة طويلة قبل أن أُقر في نهاية المطاف، فعلى مدى ستة أشهر لم أهنأ بنومٍ. ولأكثر من 12 شهراً، كنت أستيقظ في عتمة الليل، يغطيني العرق، مع خبطٍ في قلبي، ورجفة في يديّ، واصطكاك في أسناني، من غير وجود سبب ظاهرٍ. ومن ثَم غدوت عصبيّة، أنفجر في وجه الأصدقاء، والزملاء، والأعزاء. ومع أنّي كنت على علم بأنّي أبالغ في انفعالي لأمور غير ذات بالٍ، لكنّي كنت عاجزةً عن منع نفسي. لم أكن أجد متعة أو رضًى في أي شيء، أمّا الزملاء والرفاق فقد كانوا قلقين عليّ للغاية، لكنّهم أحسّوا أن ما بأيديهم حيلة.
ثم جاء أخيراً الاعتراف بأنني لست بخير في أثناء محادثة عارضة وعفوية مع عميدي، الذي أتاني يومها ليحدّثني عن ترتيب مساعدة إدارية إضافية لجميع رؤساء الأقسام. و طلب منّي، لتنظيم ذلك، وضعَ قائمةٍ بالمهمّات التي يجب على المساعدين توليها. وهذه القائمة القصيرة، التي ما كان ليأخذ منّي إعدادُها سوى عشر دقائق، والتي كانت ستجلب مزيدَ مساعدةٍ، كانت القشة القاصمة كما يقال.
عندها قلتُ:” هذا مُجرد أمرٍ آخر عليّ إنجازه”، بينما رحت أبكي، بلا سيطرة، مأخوذةً بالتوقعات والمتطلبات التعجيزيّة كما يبدو التي تفرضها الحياة الأكاديميّة.
إنني محظوظة لوجودي في بيئة عملٍ مساندةٍ، فقد تلقّيت على الفور العون الذي كنت أحتاجه لكي أرتاح وأتعافى من سنوات العمل حدّ الانهيار. لكن ثمّة كثيرون هم أبعد ما يكونون عن الحظ.
إنّ قصتي ليست فريدةً بالمرّة، فقد عانيت ضغط العمل الذي لا يعرف نهايةً في أستراليا وهولندا على السواء. كما عاناه أيضاً زملاءٌ في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفي أماكن أخرى. إنّ هذه الثقافة تُسلّط أذى بالغاً على صحة النّاس الجسدية والذهنيّة، من الطلاب حتى كبار الأساتذة. و تُثَبّط كثيراً من ألمع وأكثر المفكرين والباحثين نبوغاً عن احتراف العمل الأكاديميّ.
في حقيقة الحال، يُعامل اشتراط الأكاديميا الالتزام التامّ على أنّه أمر بديهي مفروغ منه، وتُسفر الأمثلة من العديد من الاختصاصات المختلفة عن نفس الضغوطات التي تساهم في ثقافة العمل شديدة القسوة هذه:
- الحث المستمر على النشر.
- ازدياد عدم الاستقرار، وعدم الأمان في الوظائف الأكاديميّة. فقد أمضيت السنوات السبع الأولى من مسيرتي الأكاديميّة في تعاقدات مؤقتة، بعد تجربة في الدكتوراه طويلة ومؤلمة. وقد عاش كثيرٌ من الزملاء فترات أطول في التقلقل الوظيفيّ.
- مطالبتَنا بأن نكون أبطال الأكاديميا الخارقين القادرين على فعل كل شيء، من التدريس حتى التسويق، مع ضعف، إن لم يكن انعدام، التدريب على أي شيء عدا العمل البحثيّ.
- الضغط المسلّط على العائلات، والعلاقات بسبب اضطرار أحد الشريكين للعيش في مدينةٍ، أو بلدٍ، أو قارةٍ أخرى من أجل تحصيل فرصة عمل مقنعة ومستقرة بعض الشيء. (غالباً مع تبعاتٍ أشدّ تأثيراً على النساء)
- تتابعُ معاملات دورات المنح، والتي يوافق موعد انتهائها نهاية فترات الإجازة، ما يدفع الباحثين لقضاء إجازاتهم في صياغة المقترحات بدلاً من أن يستريحوا فعلاً.
كلُّ هذه الضغوطات يعرفها معظم الباحثين، مع هذا ليس ثمة شك في كونها مُمنهجة، كذلك لا تلوح بادرة أي انفراج في أيّ وقت قريب.
في هولندا، تبعاً لتوصيات لجنة فان راين، سيوجه التمويل إلى الجامعات التقنيّة عوضاً عن الجامعات البحثية العامة، خافضاً سعة التوظيف، ومفسداً جودة التعليم. وتأتي إعادة التوزيع هذه جنباً إلى جنب مع خفض التكاليف المنتظر في 2020 في القطاع التعليمي الهولنديّ بما يقارب 150 مليون يورو (130 مليون جنيه إسترليني). على المستوى القاريّ، لا تتضمن المفوضيّة الأوروبية الجديدة مفوّضاً للبحث والتعليم، حيث أُدرجت هذه المجالات تحت المسمى الأوسع “الابتكار والشباب”. وفي مسودة ميزانية الاتحاد الأوروبي لعام 2020، اُقتطع أكثر من 400 مليون يورو من برنامج Horizon 2020، الأمر الذي أدى إلى فقدان المجلس البحثي الأوروبيّ وحده لـ 200 مليون يورو تقريباً من ميزانيّته السنوية. في نفس الوقت، أعلنت الحكومة هناك في وطني الأمّ أستراليا عن اقتطاع أكثر من 350 مليون دولار أستراليّ (188 مليون جنيه إسترليني) من ميزانية البحث الجامعي على مدى السنوات الثلاث القادمة.
وسط جو العُسرة الماليّة، وعدم الأمان الوظيفيّ هذا الآخذ في الانتشار، لا عجب من أنّ الباحثين المبتدئين، وأولئك الذي قطعوا شوطاً، يكِدون كدّاً من أجل تحصيل فرصة البقاء في مضمار المنافسة لا غير. بينما يقرر العديد من العلماء الاستسلام، والتنحي جانباً بالكليّة، وهذا حقيق بأن يبعث القلق فينا، فإن في إفقار البحث والتعليم دمار مجتمعاتنا، ووهن ديمقراطياتنا.
بالطبع تَلزم تغييرات هَيكلية ضخمة لمعالجة هذه العوائق. لكنّي، في نفس الوقت، أتساءل إذا ما كنّا نحن أيضاً مشاركين بطريقة ما في فرض هذه الضغوطات. حيث تحوف الأكاديميا الأبّهة والغموض، وهي شغفٌ ورسالة، أكثر مما هي مهنة، لكن إضفاء شيء من القداسة عليها، يساهم في تدعيم ثقافات العمل الضارة هذه. فإن لم تكن مستعداً لتكريس لياليك، وعطلك الأسبوعية، وإجازاتك للبحث والكتابة، فربما عليك إذن أن تعيد التفكير فيما إن كنت تصلح حقاً لأن تكون أكاديمياً. هذه الديناميات الثقافيّة الثاوية داخل الأكاديميا هي التي يُمكن تغييرها بالقليل الذي في أيدينا.
لقد أمضيت وقتاً طويلاً أفكّر في كيفيّة إدارة هذه الضغوطات بينما كنت أستأنف العمل بدوام كامل. وهذه مسألة أصبحتْ مؤخراً أشد إلحاحاً، بما أني قَبلت منصب نائب عميد الكليّة، ومشرف التعليم. حيث إن إحدى أهم أولوياتي هي تجنّب إعادة إنتاج القناعات والسلوكيّات التي أمرضتني في أوّل الأمر. لكن المسألة ليس سهلة، فهذه القناعات والسلوكيّات راسخة بشدّة. ويمكن للتضييق الماليّ على الجامعات أن يجعل إجراء أي تغيير أمراً مستحيلاً.
لكن مع هذا، المسألة أحياناً لا تتعلق بما هو ممكن، بل بمن نَكون، وبما نريد أن نكونه، وبالذي نريد لجامعاتنا أن تكون عليه، متشبثين بالأمور التي نُقدّرها حتّى (وعلى الأخصّ) عندما تكون مهددة أو غائبة تماماً. أريد أن أعود إلى داري كل يوم وأنا عالمةٌ بأنّني، بغض النّظر عن النتيجة، قد فعلت ما بوسعي لتوفير بيئة يشعر فيها النّاس بأنهم آمنون، ومَحميّون، ومقدَّرون. فبرأيي هذا وحده يستطيع تحسين جودة البحث والتعليم عندنا.
لا أزعُم أنّ لدي حلولاً لكيفية فعل هذا من دون إصلاحات تنظيميّة أكثر شمولاً، لكن هناك خطوات أحاول اتباعها حيثما كان لديّ شيء من تَحكّم وتأثير:
1) قاوم ثقافة العمل المُتواصل 24/7: إنّي أحاول قدر الإمكان ألّا أعمل في الأمسيات، أو في عطل نهاية الأسبوع. وإذا اضطررت لذلك لسبب ما، فإني آخذ إجازة خلال الأسبوع لتعويض ما فات. وأنا أشجع زملائي، وطلابي، ليفعلوا هذا، فإنّ للاستراحة والسّكينة أهميّةً في التحصيل الجيّد للعلم تساوي أهميّة أوقات العمل الفعليّة.
2) تَعهد الاختلاف وارفع من شأنه: أودّ أن أرى دورات حساسيّة الاختلاف، والانحياز الضمنيّ مبذولةً داخل جامعتي، وبالطبع داخل القطاع بأكمله. لكن حتى في هذا الآن، يمكننا، عند توظيف النّاس أو ترقيتهم، على سبيل المثال، أن نتحقق من كوننا نأخذ بعين الاعتبار الصورة كاملةً. كيف تكون حياة هؤلاء النّاس خارج العمل؟ وأي مسؤوليات تجثم على عَاتقهم؟ وأي مجريات، بما في ذلك البِنى والسلوكيّات التمييزيّة، التي من الممكن أن تكون قد أثّرت على قدرتهم على الكتابة، وتقديم طلبات المنح، وتسلُّم زمام المناصب القياديّة المتطلّبة؟
3) ناد بمزيد من الأمان، والاستقرار في عقود الوظائف: تلقت مؤخراً إحدى زميلاتي، التي أَمضت عدة سنوات في عقود مؤقتة، عرض وظيفة دائمة. عند تقديمهم العرض، اعترف مسؤولو الكليّة بأنّ التمويل مُؤمَّن لأول سنتين ونصف لا غير. لكنّهم ارتأوا أن تقديم الوظيفة لها كان” التصرف الأخلاقي الأمثل”، وأنّهم سيبحثون كيفيّة تغطية هذا العجز. لقد آثروا فعل ما هو أصلح للشخص، لا للميزانيّة.
4) دع النّاس يختارون أولوياتهم: سواءً في البحث، أو التدريس، أو الارتباطات الاجتماعية، تجنّب، قدر المستطاع، الإصرار على أن يُدرّسَ النّاسُ مواضيع لا يعلمون عنها أيّ شيء، أو أن يتقدموا للمنح قبل أن يكونوا مستعدين. ثمّة بالطبع أحيانٌ نكون فيها كلنا مضطرين لفعل أمور لا نرغب بفعلها. لكن يليق بهذه الجهود، والتضحيات أن تكون موضع اعترافٍ، وتقدير، وتعويض بشكل من الأشكال، لا أن تكون مُتوقعة، مفروغاً من أمرها.
5) ادعم الشفافيّة والحوار المفتوح: يمكن لعملية اتخاذ القرارات في التعليم العالي أن تكون مبهمةً، وإقصائية. وبينما يكون هذا مقصوداً لتجنيب الموظفين المخاوف حيال النزعات السياسيّة والاقتصاديّة الأوسع، فإنه قد يُشعرهم بأنهم مُجرّدون من السُلطة. أمّا إشراك جميع الموظفين في النّقاشات حول تحدّيات الحاضر والمستقبل، فإنّه يولّد طاقةً، وجماعيّة، وتضامناً للعمل معاً في سبيل معالجتها.
6) شارك بأنشطة سياسيّة لدعم الأكاديميا والقضايا الاجتماعية والسياسيّة الأخرى. فالأكاديميا قد تشعر بأنّها بيئة معزولة. أمّا الالتحاق بجماعات النشاط، أو مجرد ارتداء رموز التضامن في العمل، فيمكن أن يذكّرنا بأننا جزء من مجتمع المعرفة العالميّ، وبأننا ملتزمون بمقاومة ضغوطات العمل غير المعقولة، بينما نصون جودة التعليم والبحث. أحد هذه الرموز مثلاً هو red felt square، الذي ظهر لأول مرةٍ خلال تظاهرة طلابيّة ضد زيادة رسوم التعليم في مونتريال، والذي غدا منذئذٍ عنصراً أساسيّاً في مناهضة تخفيضات التمويل، وتأقيت عقود القوة العاملة، وتزايد أعباء الشغل، وعمليات التسويق في الأكاديميا الهولنديّة.
7) كَوّن العلاقات وادعم شبكات الزملاء: إنني محظوظة لوجودي بين مجموعة مدهشة من الزملاء المساندين. فنحن نناقش مسائل البحث والتدريس، ونتشارك مصاعب الحياة، ونخوض في الأمور التي تَهمّنا حقاً.
8) اطلب المساعدة. إنّي أستفيد من شبكات الدعم هذه حينما أكون في مأزق، وأساعد الآخرين عندما يمرّون بظروف مشابهة. نحن في حاجة إلى إزالة هذه الحواجز التي تمنع النّاس من الاعتراف بأنّهم ليسوا بخيرٍ، ومن السؤال عن أحوال بعضنا البعض، ومن تلقي المساعدة عند الحاجة.
9) تخصيص وقتٍ للاعتناء بأنفسنا وعائلاتنا. إنني أحاول التمرُّن يوميّاً، واتباع نظام غذائي صحيّ، والنّوم بشكل كافٍ. وأحاول أن أُمضي بانتظام وقتاً خاصّاً مع زوجي، كما شرعت في دروس الغناء. فنحن نحتاج إلى ترتيب وقتٍ للنّاس وللأمور التي نعزّها، والتي تمنحنا البهجة.
كلُّ هذه إجراءاتٌ صغيرة، ليست دوماً سهلة التحقيق. لكن مع هذا، هي كفيلة بصنع تغيير حقيقيّ، وبتمهيد الطريق للتغيرات التنظيميّة التي ننتظرها. فهي في النهاية تعمل في تلك الأماكن، والمساحات الصغيرة حيث تجري أعمالنا وحياتنا. إنّها الأماكن حيث نستطيع التغيير، والتي فيها، باعتقادي، يمكن أن تحدثَ أهمّ وأخطر التغييرات.
[1] أستاذة مساعدة في السياسة والدّين في كلية اللاهوت والدراسات الدينيّة في جامعة خرونيغن.