أشواق إبراهيم الجرباء
ينظر علم اجتماع العاطفة على ان المجتمع هو الحاضن لعواطف البشر، بل ويساهم في تشكيل عواطف الناس وطريقة تفكيرهم وتوجيه مشاعرهم؛ فالمشاعر نشأت من المجتمع وتطورت فيه، وكان له دور في تكوينها وصناعتها وتوجيهها؛ وذلك خلال التنشئة الاجتماعية، القيم، العادات والتقاليد، التفاعل الاجتماعي، والاقتصاد ومن ثم, فالعواطف موضوع اجتماعي لا يقف عند الجانب النفسي والعضوي فقط.
فمنذ ولادة الانسان تبدأ تتشكل لديه العواطف والمشاعر بناء على النوع ذكر او انثى فترسم لنا التنشئة الاجتماعية، كيف يجب ان تشعر كذكر وكيف يجب ان تشعري كأنثى ومن ثم سيُتوقع منك كذكر الا تبكي أو تظهر مشاعر الحزن والألم، بينما يكون ذلك متوقعًا من الإناث على سبيل المثال. اذ انّ تشكيل عواطفنا لا يقف عند اخبارنا كيف نشعر فقط؛ بل أيضا ما لذي يجب ان نكون عليه وكيف ننظر لأنفسنا.
وبالتالي ستؤثر هذه العواطف التي تشكلت عبر سلسلة من العوامل على مختلف جوانب حياتنا اليومية، وتصبح أداة للاستغلال سواء على الصعيد الاجتماعي الاقتصادي، السياسي، أو الديني.
وذلك عن طريق ترسيخ وتلقين المعاني والقيم حولها، ورسم صور ذهنية لما يجب أن تكون عليه، وطريقة التعبير عنها؛ ومن ثم استغلالها لأغراض مختلفة.
فعلى الصعيد الاجتماعي تعد العواطف هي المحرك لقيام العلاقات الاجتماعية في المجتمع، ولها دور في الحفاظ على المكانة الاجتماعية للفرد وسمعته، وبالتالي يقوم باستغلالها لمصالح شخصية، او للحصول على مكاسب مادية.
ومن مظاهر استغلال العواطف, ما يمكن ملاحظة طبيا عندما تستغل مشاعر الخوف والقلق لدى المريض للقيام بعمل فحوصات وتحاليل إضافية من أجل الربح.
وسياسيًا ,تؤثر العواطف في توجيه قضايا الرأي العام، وطريقة تلقي المجتمع للأحداث والأخبار المختلفة، وانحياز المجتمع لقضايا دون أخرى.
ومهنيًا, فهناك مهن تقوم على أساس عاطفي مثل التسويق، خدمة العملاء، ومضيفات الطيران فهي تعتمد على مهارات مثل الاقناع، امتصاص غضب العميل، والمحافظة على الابتسامة فتصبح العواطف هنا عبارة عن مهارات متضمنة في شروط عقود التوظيف.
اذًا فالعواطف تُستغل لأغراض شتى بدءًا من علاقاتنا الاجتماعية، المهن، الاقتصاد، والإعلام؛ فيلعب كلًا منهم دور في توظيف العواطف لصالح مكاسب مادية كتحصيل أكبر قدر من الأرباح، أو معنوية كالسمعة والحفاظ على المكانة الاجتماعية، الا ان العامل الاقتصادي يشكل دورًا هامًا وجوهريًا في استغلال العواطف والذي بدوره ينعكس على الاستهلاك وشكل العلاقات الاجتماعية، ومن هنا برزت الرأسمالية العاطفية.
الرأسمالية العاطفية
إن أكثر ما يحرك عواطفنا ويستثيرها ويستغلها هو الجانب الاقتصادي؛ فهو يقوم باستغلال العواطف التي تم تشكيلها مُسبقاً؛ ومن ثم تحوليها لسلع قابلة للبيع والشراء.
وأول من ذكر مصطلح الرأسمالية العاطفية هي عالمة الاجتماع إيفا إيلوز في كتابها حميميّات باردة، والذي رسمت فيه معالم الرأسمالية العاطفية؛ فالرأسمالية العاطفية هي ثقافة تشكّل فيها الممارسات العاطفية والاقتصادية بعضها البعض، وتنعكس على طبيعة العلاقات الاجتماعية والسلوك الاستهلاكي، وبالتالي تؤثر في السلوك الاقتصادي.
فكم مرة ظهر لك إعلان يصور لك ان الحصول على المنتج الفلاني سيمنحك حياة أسرية سعيدة؟ وإعلان آخر يبدأ ب “يجب أن يكون لدى كل فتاة” ومنتج آخر لتصبحي أمًا مثالية. ومنتج يمكنك من التواصل مع محبيك، ان الإعلانات التجارية تقوم باستثارة عواطفنا ومشاعرنا بدرجة كبيرة فتصور لنا أن شراءنا لهذا المنتج أو غيره سيمنحنا السعادة، النجاح، الجمال، أو الجسد المثالي.
وعند دخولك الى مقهى بتصميم يشبه المنزل ويحرص على توفير أجواء لطيفة وعائلية لجذب الزبائن، أو يقوم بكتابة اسمك على الكوب، تعد ممارسات عاطفية يحرص عليها أصحاب المقاهي والمطاعم.
ومؤخراً يلعب المشاهير كذلك دوراً في استغلال العواطف. ان قوة “مشاهير التواصل الاجتماعي” هي في أساسها قوة تتضمن مكونات عاطفية، حيث تعتمد على عدد ما يحظى به المشهور من المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي، ويعرض يومياته ويشارك مشاعره وحياته الشخصية، الاستهلاك التفاخري، علاقة زوجية مثالية، ويقوم بافتعال مواقف مضحكة لجذب المتابعين، ومن ثم يشكل ذلك رأس مال اجتماعي الى رأس مال مادي من خلال الإعلانات والتغطيات وغيرها. ومن ثم يلعب دوراً في استغلال العواطف من خلال عرضه لحياته اليومية.
إن مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي أنفسهم أسهموا في تشكل الرأسمالية العاطفية، وأصبحوا أدوات لها، فسابقًا كانت الشركات العالمية تعتمد على معايير للجسد والجمال في اختيار الوجوه الإعلانية لها، أما الآن فهي تعتمد غالبًا على نسبة التأثير الجماهيري الذي يلعبه المشهور وبناء عليه يتم اختياره كوجه إعلاني، أي ان الكفة هنا أصبحت تميل للبعد العاطفي الذي يلعبه المشهور وليس بالضرورة معايير الجمال المُتبعة سابقًا.
لقد انعكست الرأسمالية العاطفية كذلك على شكل العلاقات الاجتماعية كالحب، الصداقة، والزواج، فأصبحت قائمة على سلسلة من التراتبيات الاقتصادية والاجتماعية؛ فعند النظر لهذه العلاقات نرى أنها مرت بتحولات قيمية واجتماعية عبر الزمن، ويمكننا رؤية ذلك من خلال التغير في شروطها ومعاييرها، وطريقة تعبيرنا عنها، ونظرتنا لها، حيث ترسم لنا الرأسمالية صورًا ذهنية لما يجب أن تكون عليه هذه العواطف، وربط السعادة والديمومة في العلاقات بمعدل الاستهلاك، وأبسط مثال على ذلك يجسده لنا يوم الحب Valentine’s Day والذي يوافق 14 فبراير من كل عام، والذي يتبادل فيه العشاق الورود والهدايا للتعبير عن الحب، حيث أظهرت الاحصائيات أن الامريكيون ينفقون 23،9 مليار لعام 2022 في يوم الحب بحسب (NRF).
ومن منظور علم الاجتماع العاطفة فيعرف بأنه العلم الذي يدرس العواطف الإنسانية بجميع مستوياتها من فرح، حزن، حب وكراهية، من منظور اجتماعي, يتضمن دراسة السياق الثقافي والاجتماعي والاقتصادي الذي تتشكل فيه العواطف, وما هي العوامل التي تتأثر بها وكيف تتشكل اجتماعيًا، كما يدرس التحولات التي تمرّ بها العواطف في دورة حياة الانسان وكيف تتطور وتتحول هذه المشاعر خلال مراحل حياته منذ الطفولة وحتى الشيخوخة، ويظهر ذلك في المهنة التي يزاولها، العلاقات التي يكوّنها، وتصوراته الشخصية عن مفاهيم مثل السعادة، النجاح، والحب والألم، والقرارات التي يتخذها في حياته، وحتى ردود فعله تجاه القضايا المختلفة.
ومن ثم تُصبح هذه العواطف أداة يمكن استغلالها بطرق مختلفة, ولأغراض شتى, منها ما هو مالي بغرض الربح, او اجتماعي او ديني او سياسي.
ويدرس علم اجتماع العاطفة موضوعات عديدة منها: الجندر، الأمومة، العنصرية، والعرق من منظور اجتماعي.
وتعرّف العاطفة في موسوعة علم الاجتماع بأنها “انفعال. وينطوي استخدام المصطلح في علم الاجتماع بصفة عامة على القول بأن فعلا ما يمارس أو يؤدى بغرض الاشباع الانفعالي. “(مارشال، جوردن،2000: 857).
فمنذ السبعينات، أصبح علم اجتماع العواطف مجالاً رئيسياً للبحث داخل علم الاجتماع؛ وتزايد اهتمام العلماء به، وكُثفت حوله الدراسات والبحوث؛ وذلك لمدى أهميته للفرد والمجتمع ككل باعتبار أن المجتمع يتحرك بالعواطف.
وتعتبر آرلي رسل هوشيلد مؤسس لعلم اجتماع العاطفة؛ فهي أول من استخدم هذا المصطلح عام 1975م. ولها إسهامات عديدة في العلم؛ فقد تناولت موضوع العواطف الإنسانية7 بمنظور واسع، وجاءت دراستها تطويرًا للنظرية التفاعلية الرمزية ولتطوير أفكار جوفمان، وسي رايت ميلز، وفرويد، الا ان كلًا منهم اقتصر على جانب محدود من العواطف؛ بينما سعت آرلي لتقديم رؤية جديدة متكاملة لعلم اجتماع العاطفة وهو ما لم يقم به عالم اجتماع من قبل.
ومن أهم اعمالها دراسة العمل العاطفي والذي تعني به العمل الذي يترتب على جهد عاطفي، قواعد الشعور، وتسويق المشاعر. ولها عدة مؤلفات منها: القلب المنظم، الإتجار بالحياة الحميمية.
فالعواطف اذًا تأخذ دورة حياة كاملة في حياة الانسان، كما اننا نتحرك بالعواطف في جميع أمور حياتنا بدءًا من طريقة نظرتنا لأنفسنا وللأشياء، الى طريقة تفاعلنا معها، وهذه العواطف تنشأ وتتشكل بعوامل اجتماعية واقتصادية ودينية كذلك، وبالتالي تؤثر على طبيعة علاقتنا الاجتماعية، وسلوكنا الاستهلاكي، وذلك يُطلعنا على مدى أهمية الكشف عن عواطفنا ومعرفة ماهيتها.. هل هي مشاعرنا حقًا نحو الأشياء أم انها مشاعر حورتها العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية نحو قيم وأهداف معينة؟ وكيف أصبحت العواطف من مشاعر كامنة الى أدوات تأثير استغلتها مصالح الرأسمالية؟
إن وعينا بالقوانين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تحرك العواطف وتنسجها وتقوم بتسليعها يجعلنا ننظر لعواطفنا بشكل مختلف، ويجعلنا أكثر قدرة على فهمها والتحكم بها ومحاولة الحد من استغلالها.
وأخيرا يعد علم اجتماع العاطفة مجالًا واسعاً ومتعدد الاتجاهات وزاخر بالمفاهيم التي تختص بالعواطف في حياتنا اليومية، وما ورد ما هو الا جزء بسيط لما يهتم به هذا العلم، ولا تزال البحوث والدراسات فيه قائمة على اكتشافات جديدة تتعلق بسلوكياتنا الاجتماعية، وكيف تكون العاطفة أداة للرأسمالية ودراسة دورة حياة العواطف في حياة الإنسان.
المراجع
– مارشال، جوردن، موسوعة علم الاجتماع، الجوهري محمد، الطبعة الأولى، المجلس الأعلى للثقافة، بيروت،2000، ص857