سليمان الناصر
يمكن القول إن خطاب الأستاذ وائل حلاق ليس جزءًا مباشرًا من حركة ما بعد الاستعمار بالمعنى التقليدي، رغم أنه يتقاطع معها في بعض القضايا النقدية، لا سيما في تفكيك الخطابات الاستعمارية حول الحداثة والقانون والسيادة، هذا التقاطع لا يحجب اختلافه عن العديد من منظري ما بعد الاستعمار في منهجه وأطروحاته الأساسية.
سأحاول إيجاز أوجه التشابه، أو قل: خطوط التقاطع، ثم أوجه الاختلاف ونقاط الافتراق.
أولا: التشابه والتقاطعات مع “خطاب ما بعد الاستعمار”:
1.الاستعمار مستمرا
- يشترك حلاق مع مفكري ما بعد الاستعمار مثل إدوارد سعيد وهومي بابا وغيرهما في نقد الاستعمار باعتباره مشروعًا لم ينتهِ، بل أعاد تشكيل العالم ما بعد الاستعماري عبر هياكل قانونية وسياسية مستمرة.
- في كتابه الدولة المستحيلة، يناقش كيف أن الدولة الحداثية، حتى في العالم الإسلامي، ما زالت تعمل ضمن إطار استعماري، مما يجعل التحرر الحقيقي صعبًا.
2.تقويض مفهوم الحداثة
- يرى الدكتور حلاق أن الحداثة الغربية، بما في ذلك مفاهيم القانون والسيادة والدولة، ليست مجرد تطورات محايدة، بل هي نتاج مشروع أوروبي استعماري فرض نموذجًا محددًا على بقية العالم، وهو في هذا، يقترب من مفكرين مثل أشيل مبيمبي وانريك دوسيل في مناقشة الحداثة الاستعمارية، لكن الأستاذ وائل حلاق يذهب أبعد من ذلك في تقديم بدائل قائمة على الشريعة الإسلامية، وهو ما يميزه عن أغلب منظري ما بعد الاستعمار.
3.نقد الاستشراق والمركزية الغربية
- يتلاقى حلاق مع إدوارد سعيد في بيان كيف أن الدراسات الغربية للإسلام غالبًا ما تعيد إنتاج صور مشوهة عن الشريعة والتقاليد الإسلامية، مما يخدم الخطابات الاستعمارية.
ثانيًا-الاختلاف والافتراق عن “ما بعد الاستعمار”
يختلف الأستاذ حلاق عن نقاد “ما بعد الاستعمار” في جوانب جوهرية متعددة تتعلق بالمنهج، والرؤية البديلة، والموقف من الحداثة، وطبيعة النقد الموجه للغرب:
- نقد الحداثة مقابل نقد الاستعمار
- لا يكتفي د. حلاق بنقد الاستعمار، بل يرى أن الحداثة الغربية في ذاتها مشروع غير قابل للإصلاح، لأنها قائمة على مبادئ فلسفية وسياسية لا يمكن التوفيق بينها وبين التقاليد الإسلامية أو أي نظام بديل حقيقي.
يرى حلاق أن الحداثة لا تتعارض مع الإسلام فحسب، بل تتنافى أيضًا مع ازدهار الإنسان، ومع التعامل مع البشر كغايات في ذواتهم لا كوسائل وأدوات، والفكرة الجوهرية هنا أن الحداثة، لا تنسجم مع مبادئ الإسلام، وهي كذلك تعجز عن التأسيس لعلاقة مستدامة مع البيئة، وعن حفظ كيان المجتمع والأسرة، فضلاً عن رعاية العلاقات الإنسانية في معناها العميق.
- نقاد ما بعد الاستعمار، مثل هومي بابا وسبيفاك، ينتقدون الاستعمار لكنهم غالبًا ما يقبلون الحداثة كأساس، ويحاولون إصلاحها من الداخل أو كشف تناقضاتها. حتى فانون، رغم نقده للحداثة الاستعمارية، لم يرفض الدولة القومية الحديثة كأداة للتحرر.
- البدائل المقترحة: الشريعة مقابل الهجنة والتفكيك
- حلاق يقدم الشريعة الإسلامية كنظام قانوني وأخلاقي متكامل يمكن أن يكون بديلًا عن الدولة الحديثة. يرى أن الإسلام لا يحتاج إلى تحديث أو تطويع ضمن الحداثة، بل إن الحداثة نفسها يجب أن تخضع للمساءلة.
- نقاد ما بعد الاستعمار، مثل بابا وسعيد، لا يقدمون نموذجًا بديلًا متكاملًا، بل يركزون على تفكيك الخطاب الغربي وبيان التناقضات داخله، ويميلون إلى رؤية الهوية والثقافة ككيانات هجينة ومتغيرة.
يمكن القول هنا إن حلاق مناهض للعلمانية، في حين أن إدوارد سعيد وآخرين ينتمون إلى التيار الليبرالي الأنواري (العلماني). كما أن حلاق يعارض الليبرالية نفسها.
- الموقف من الدولة الحديثة والسيادة
- حلاق يعتبر الدولة الحداثية غير متوافقة مع الإسلام، ويرى أن مفهوم السيادة الحديث قائم على العنف والسلطة المركزية التي تتناقض مع الشريعة الإسلامية كنظام قانوني وأخلاقي ولامركزي قائم على المجتمع.
- نقاد ما بعد الاستعمار لا يرفضون الدولة الحديثة بحد ذاتها، بل ينتقدون علاقتها بالاستعمار وإعادة إنتاجها للهياكل القمعية. فانون، على سبيل المثال، رأى في الدولة وسيلة للتحرر لكنها بحاجة إلى ثورة ثقافية حتى لا تصبح امتدادًا للاستعمار.
- استخدام أدوات الفكر الغربي
- حلاق ينتقد الحداثة الغربية من موقع خارجي، ولا يعتمد بشكل أساسي على الأدوات الفلسفية الغربية، بل يحاول استمداد رؤيته من الشريعة الإسلامية والتقاليد الفكرية الإسلامية ( رغم استفادته من فلسفة فوكو وشميت وأمثالهم وإن كان يقوّّمها ويوضح حدودها فقد أشار في قصور الاستشراق الى حدود نقد فوكو).
يمكن القول إن حلاق يوظف النظرية الغربية في كثير من الأحيان لأنها تتيح له الوصول إلى القارئ الغربي، الذي قد لا يتفاعل مع الأثر النظري لفكر المفكرين المسلمين الذين تناولوا مسائل مشابهة، يمكن للغزالي -مثلا- أن يحل محل فوكو في تناول حلاق لمفاهيم مثل تشكل الذات وتقنيات النفس، لكن بما أن أحد أهداف حلاق هو مخاطبة الجمهور الغربي، فإن هذا الجمهور يتجاوب مع فوكو أكثر من تجاوبه مع الغزالي. غير أن هناك نقطة أكثر أهمية: وهي أن حلاق يستخدم النظرية الغربية بوصفها أداةً للنقد الذاتي (كما عند ماكنتاير، وتشارلز تايلور، وفوكو، وباتريك دنين) لتوجيه نقد جوهري إلى الحداثة. وهذا النهج يُشبه ما فعله ابن تيمية حين استخدم المنطق اليوناني ذاته لمهاجمته.
- نقاد ما بعد الاستعمار يستخدمون بشكل مكثف نظريات غربية مثل الماركسية، والتحليل النفسي، والتفكيكية، والحداثة النقدية لفوكو ودريدا. فإدوارد سعيد، مثلًا، اعتمد على فوكو في تحليل الاستشراق، وهومي بابا على دريدا في فكرة الهجنة، مما جعل بعض النقاد يرون أنهم يعملون داخل الإطار الفلسفي الغربي بدلًا من تجاوزه.
- العلاقة مع الدين
- حلاق يرى أن الإسلام ليس مجرد تراث ثقافي، بل نظام شامل يقدم بديلًا حضاريًا وأخلاقيًا عن الحداثة الغربية، إذ يمكن القول إن حلاق لا ينظر إلى الشريعة بوصفها نظامًا قانونيًا فحسب، بل يعتبرها أيضًا نمطًا للحياة وثقافةً شاملة. فهي، في نظره، تتجاوز كونها مجرد منظومة قانونية.
- نقاد ما بعد الاستعمار غالبًا ما يتعاملون مع الدين كمكون ثقافي أو كأداة سياسية دون اعتباره إطارًا شاملاً للحياة والمجتمع. حتى في نقدهم للاستعمار، لا يركزون على استعادة التقاليد الدينية كبديل، بل يميلون إلى مقاربات علمانية.
فعلى أن حلاق يشترك مع تيار ما بعد الاستعمار في العديد من الأفكار، إلا أنه لا يشاركه في رؤيته الميتافيزيقية. فحلاق يؤمن بأنه لا يمكن الوصول إلى حل حقيقي لأزمتنا — التي تتمثل في الحداثة — ما لم يتجاوز الإنسان ذاته. إذ لا يمكن للإنسان أن يكون مرجعيةً مطلقةً لنفسه، ولا سلطةً نهائية لها.
- المركزية الأوروبية: إصلاح أم تجاوز؟
- حلاق يرى أن نقد المركزية الأوروبية لا ينبغي أن يقتصر على تفكيك الاستعمار، بل يجب أن يتجاوز الحداثة الغربية بالكامل، لأنها قامت على فلسفة لا تصلح للعالم الإسلامي.
- نقاد ما بعد الاستعمار ينتقدون المركزية الأوروبية لكنهم يعملون داخل منظومة الفكر الغربي، ويحاولون توسيعها لتشمل روايات المهمشين، بدلاً من البحث عن نموذج بديل كليًا.
- لغة الخطاب وأسلوب التحليل
- حلاق يميل إلى أسلوب فلسفي أكاديمي تحليلي، لكنه يربط رؤيته دائمًا بمشروع بديل واضح (الشريعة مقابل الدولة الحديثة).
- نقاد ما بعد الاستعمار، مثل سبيفاك، يستخدمون لغة نقدية معقدة تمزج بين التفكيكية والتحليل الخطابي، مما يجعل نصوصهم أحيانًا غامضة وغير مباشرة، دون تقديم حلول واضحة.
الخلاصة
إذن نستجمع القول بإن الفرق الجوهري بين وائل حلاق ونقاد ما بعد الاستعمار يكمن في أن حلاق لا يكتفي بنقد الاستعمار، مضى في نقد الحداثة، والدولة الحداثية -خلافا لكثر من نقاد مابعد الاستعمار- بل أكثر من ذلك سعى إلى تقديم نموذج بديل مستمد من الشريعة الإسلامية، بينما يظل معظم نقاد ما بعد الاستعمار يعملون داخل الإطار النقدي للحداثة الغربية، دون تقديم تصور واضح لما قد يكون بديلًا عنها، خطاب ما بعد الاستعمار يؤمن بأنه يمكن إصلاح السفينة الغارقة من داخلها، أما وائل حلاق فيرى أن السفينة نفسها بُنيت على خلل، وأن النجاة لا تكون إلا بالعودة إلى الشاطئ وبناء شيء آخر بالكامل.
إن إبستمولوجيا حلاق تختلف في جوهرها عن تلك التي يتبناها مفكرو ما بعد الاستعمار، ذلك أن رؤيته المعرفية تقوم على أسس ليست فقط مناهضة لليبرالية والعلمانية، وإنما أيضا تستند إلى جذور دينية أعمق.