الفلسفة

لماذا لم يكن عصر التنوير هو عصر العقل ؟

  • تأليف: هنري مارتن لويد
  • ترجمة: عبدالجليل عبداللطيف السحيمي
  • مراجعة: الغازي محمد
  • تحرير: البراء بن محمد

 

أصدر مجموعة من المفكرين -على جانبي المحيط الأطلسي- دعوة إلى حمل السلاح. فالقلعة المحاصرة التي يجب الدفاع عنها -بزعمهم- هي التي تحصن العلوم والحقائق والسياسة القائمة على الأدلة. يدين فرسان التقدم البيض هؤلاء – ومنهم على سبيل المثال عالم النفس ستيفن بينكر وعالم الأعصاب سام هاريس – التصاعد الواضح للعاطفة والخرافات في السياسة. و يخبروننا أن حجر الأساس للحداثة هو القدرة البشرية على كبح القوى المدمرة بكل هدوء، وأن كل ما نحتاجه الآن هو إعادة بعث التنوير.

ومن الغريب أن هذه الصورة الوردية لما يسمى “عصر العقلانية” تتشابه على نحو يثير الغرابة مع الصورة البسيطة التي قدمها منتقدوه، فالنظرة المزدرية لعصر التنوير، تبدأ من فلسفة هيجل مرورًا بالنظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، والتي شخصت مرضًا عضالًا في الفكر الغربي يماثل العلم الوضعي المنطقي، والاستغلال الرأسمالي، والسيطرة والتحكم بالطبيعة، وصولًا إلى النازية والهولوكوست كما عند ماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو.

وبحسب الاعتقاد القائل أن التنوير حركة عقلانية عارضت المشاعر؛ فإن المدافعين عنها ونقادها -والحال هذه- وجهان لعملة واحدة. وخطأهم في ذلك هو ما يجعل كليشيهات عصر العقل قوية للغاية.

وقد كانت العواطف – التي تتجسد في التأثيرات والرغبات والشهوات – من بوادر ظهور الفهم الحديث للعاطفة. ومن ناحية فلسفية، فقد نُظِر للمشاعر – منذ الرواقية القديمة – باعتبارها تهديدات للحرية. فالضعفاء يرزحون تحت وطأة عبوديتها؛ فيما يحاول الأقوياء فرض عقولهم وإرادتهم بالقوة، ليكونوا أحرارًا. وقد كانت مساهمة التنوير هي إضافة العلم إلى صورة العقل هذه، وإضافة الخرافات الدينية لمفهوم الاستعباد العاطفي.

ومع ذلك، فإن إدعاء أن التنوير كان حركة عقلانية ضد العاطفة، والعلم ضد الخرافات، والسياسة التقدمية ضد القبلية المحافظة؛ خطأ بين. فهذه الادعاءات لا تعكس بنية عصر التنوير التي أضفت على الإحساس والشعور والرغبة قيمة عليا لا تخطئها الملاحظة.

بدأت حركة التنوير بالثورة العلمية في منتصف القرن السابع عشر، وبلغت ذروتها مع بداية الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر. و كان هيجل – في أوائل القرن التاسع عشر – من أوائل من شن هجومًا على الحركة. وقال إن المفهوم العقلاني الذي يصوره إيمانويل كانط – فيلسوف التنوير بامتياز – قد أنتج مواطنين عزلوا ونهبوا وأبعدوا عن الطبيعة، فكانت عقلانية الإرهاب الفرنسي القاتلة هي النتيجة المنطقية لذلك. أما التنوير فقد كان ظاهرة متنوعة. إذ إن معظم مفاهيمه الفلسفية بعيدة عن الفلسفة الكانطية، ناهيك عن نسخة هيجل من كانط. والحق أن هيجل ورومانتيكيي القرن التاسع عشر، قد استدعوا – متأثرين – كما يعتقدون – بروح جديدة من الجمال والشعور – مفاهيم “عصر العقل” لتورية فهمهم الشخصي. فقد كان موضوعهم الكانطي بمثابة رجل قش، وكذلك العقلانية العقائدية لتنويرهم.

أما فرنسا، فقد كان فلاسفتها متحمسين حماسًا مدهشًا تجاه المشاعر، ومتشككين جدًا في الأمور التجريدية. وبدلاً من أن يكون العقل هو الوسيلة الوحيدة لمحاربة الخطأ والجهل، فقد أكد التنوير الفرنسي أهمية الإحساس. دعا العديد من مفكري التنوير إلى نسخة من العقلانية تتسم بتعدد الأصوات (polyvocal) وخفة الظل، وتكون مستمرة مع خصائص الإحساس والخيال والتجسيد.

وفي مناوئة لاستبطان الفلسفة التخمينية (speculative philosophy) – والتي كان رينيه ديكارت وأتباعه أبرز المستهدفين غالبًا – فقد انعتق الفلاسفة منها، وأبرزوا الجسد نقطة ارتباط عاطفي بالعالم. وقد يذهب بك الظن بعيدًا إلى حد القول بأن التنوير الفرنسي حاول إنتاج فلسفة بلا عقل.

وأما الفيلسوف إتيان بونوت دي كونديلاك – على سبيل المثال – فلم يكن من المنطقي -بالنسبة له- التحدث عن العقل باعتباره “موهبة”. فقد قال إن جميع جوانب الفكر الإنساني – أي القدرة على الانجذاب نحو الأحاسيس السارة والابتعاد عن الأحاسيس المؤلمة تحديدًا – نمت عن طريق حواسنا. وقد أدت هذه الدعوات إلى إثارة المشاعر والرغبات، ثم إلى تطور اللغات، وإلى ازدهار العقل بالكامل.

وليتجنب الوقوع في فخ التعبير الزائف، ويحافظ على أقل قدر ممكن من التجربة الحسية، فقد كان كونديلاك من محبي اللغات “البدائية”. إذ يفضلها على تلك التي تعتمد على الأفكار المجردة. وبحسب كونديلاك، فإن العقلانية الصحيحة تُلزم المجتمعات بتطوير طرق أكثر “طبيعية” للتواصل. وهذا يعني أن العقلانية متعددة بالضرورة: فهي تتنوع من مكان إلى آخر، بدلاً من أن تكون عالمية غير متمايزة.

وأحد أبرز الشخصيات  في التنوير الفرنسي كان دينيس ديدرو والذي عُرف على نطاق واسع بأنه محرر الموسوعة الطموحة للغاية “إنسايكلوبيدي” (1751-72). فالعديد مما حوته الموسوعة من مقالات هدّامة و تهكمية كان قد كتبها بنفسه – وهي خطة لتجنب الرقابة الفرنسية. لم يكتب ديديرو فلسفته في شكل أطروحات مجردة. فإلى جانب فولتير وجان جاك روسو وماركيز دي ساد، كان ديدرو سيد الرواية الفلسفية (وكذلك الخيال التجريبي والإباحي ، والهجاء والنقد الفني). وقد كتب ديدرو قصة قصيرة بعنوان “هذه ليست قصة” وذلك قبل قرن ونصف من كتابة “رينيه ماغريت” René Magritte الخط الأيقوني “هذا ليس غليونا” تحت لوحته المسماة “غدر الصورة” 1928-1929.

كان ديدرو يؤمن بجدوى العقل في السعي وراء الحقيقة، لكنه تحمس بشدة تجاه المشاعر، وخاصة عند تعلقها بالأخلاق والجماليات. ومع وجود العديد من الشخصيات الرئيسة في التنوير الاسكتلندي، مثل ديفيد هيوم، فقد كان يعتقد أن الأخلاق ترتكز على التجربة الحسية لا المنطقية. وزعم أن الحكم الأخلاقي متوافقٌ بارتباط وثيق مع الأحكام الجمالية – على وجه يعسر التمييز بينهما –.

ونحن نحكم على جمال اللوحة أو المناظر الطبيعية أو وجه من نحب تمامًا كما نحكم على أخلاقية الشخصية في الرواية أو المسرحية أو حياتنا – أي أننا نحكم على الخير والجميل مباشرةً ودون الحاجة إلى العقل –. وبالنسبة إلى ديدرو، فإن التخلص من العواطف لا ينتج إلا عملًا بغيضًا. ومن لا يملك القدرة على التأثر، إما بسبب عدم العواطف أو عدم الحواس، فإنه سيكون بشع الأخلاق.

وعلى الرغم من ذلك، فإنه لم يلزم من إحتفاء التنوير بالمشاعر والاحاسيس رفضُ العلم. وعلى العكس تمامًا، فقد عدَّ أكثر الأشخاص شعورًا – أي الذي يتمتع بأكبر قدر من الإحساس والشعور– أحد الناظرين نظرًا إلى الطبيعة. وأبلغ مثال على ذلك هو الطبيب الذي كان ينسجم مع الإيقاعات الجسدية للمرضى وأعراضهم الخاصة.  وبالمقابل، فقد كان منشئ المنهج الشكي هو عدو التقدم العلمي – أي الفيزيائي الديكارتي الذي رأى الجسد مجرد آلة، أو أولئك الذين تعلموا الطب من خلال قراءة أرسطو لا من خلال مراقبة المرضى –.

ومن ثم فلم يكن شك العقل الفلسفي رفضًا للعقلانية بحد ذاتها؛ إذ إنه ليس إلا رفض العقل معزولًا عن الحواس مفصولًا عن الجسد المحموم. وعلى هذا النحو فقد كانت الفلسفة في الواقع أكثر انسجامًا مع الرومانتيكيين كما لا يحلو لكثير من المتأخرين تصديقه.

جدير بالذكر أنه دائمًا ما يعد التعميم على الحركات الفكرية أمرًا خطيرًا. فقد كان للتنوير سمات قومية مميزة، بالإضافة إلى أنها لم تكن متجانسة في أمة واحدة. وقد لجأ بعض المفكرين الى الفصل الصارم بين العقل والعواطف، وفضلوا البداهة العقلية على الإحساس. وكان من أشهر هؤلاء ” كانط”. وقد انعزل بذلك عن العديد من القضايا الرئيسة – إن لم يكن معظمها – في عصره. ولم تكن العقلانية في فرنسا، على وجه الخصوص، معارضة للمشاعر ولكنها كانت مبنية عليها ومتواصلة معها. و كانت الحركة الرومانتيكية إلى حد كبير استمرارًا لموضوعات التنوير، ولم تكن بمعزل وانقطاع عنها.

وإذا ما أردنا أن نعالج الانقسامات في اللحظة التاريخية المعاصرة ، فعلينا أن نتخلى عن وهم أن العقل كان هو الوحيد على الإطلاق. فالحاضر يستدعي النقد، لكنه لن يكون مفيدًا إذا كان يستند إلى خرافة عن ماض مجيد ونزيه لم يكن كذلك أبدًا.

المصدر: aeon

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى