فكر وثقافة

اللسان ظاهرة اجتماعية

  • تأليف : باول والد
  • ترجمة : نجم الدين محمود شعبان
  • تحرير : عائشة السلمي

سوف تبدؤون دراسة اللسانيات، وفي هذا العام عليكم بدراسة المبادئ الأساسية للّسانيات البنيوية ابتداءاً من أعمال فرديناند دو سوسور. فقد كان سوسور مؤسساً بكل تأكيد ، ذلك لأنه استطاع بناء نظام لهدف بحثه الحقيقي : اللسان . وكما تعلمون، من الضروري رصد الفوارق التي عرضها بين اللسان و اللغة والكلام حتى نفهم نهجه . وبدون الخوض في تفاصيل حول هذه الفوارق التي ستدرسونها لاحقاً ، أريد أن أذكركم بإيجاز، وسوف ترون في بقية المحاضرة، كيف كان هذا التقدم الذي أسسته اللسانيات الحديثة جزءاً من الحركة الفكرية، حيث كانت العلاقات بين اللسانيات وعلم الاجتماع ذات أهمية قصوى . فالغرض من هذه المحاضرة على وجه التحديد إعطائكم بعض عناصر هذه الحركة الفكرية التي أعقبت – أو من الممكن القول حضّرت – إعادة صياغة سوسور للّسانيات ، ولاسيما تعريف اللسان على أنه ظاهرة اجتماعية .

أعتقد أن نظرة سريعة على هذا الحدث، و تحديداً نشأة اقتراح سوسور على أن اللسان “وليس اللغة أو الكلام” هي ظاهرة اجتماعية ، سيسمح لكم برؤية ليس فقط الأهمية التاريخة لهذا الحدث الفكري بل سيعطكم أيضاً الأسس لممارستكم المستقبلية كلغويين أو كمعلمين يحفظون الروابط بين الأبحاث اللسانية واللسانيات الاجتماعية . وفي الواقع ، فإننا حين نُدرّس خبراء المستقبل تاريخ تخصصهم، فهذا ليس فقط من أجل احترامنا أو ما ندين به للعظماء القدامى ، ولكن لأن تاريخ كل العلوم لا يزال ينبض بالحياة في ممارستها .

فنحن نعلم أن اللسانيات قبل سوسور أرجعت كل التغيرات والتطورات اللسانية إلى نشاط الفرد ، كما تم اختزال اللغة ” أو اللسان الذي يُنظر إليه نظرياً على أنه مظهر اللغة الملموس ” إلى مجموعة من الأنشطة الفردية . كما تم اعتبار الفعل اللغوي الناتج عن القوانين النفسية والفسيولوجية (البيولوجية) شارحاً لنشاط الفرد . لقد غيّر سوسور بشكل جذري الإشكالية اللغوية . حيث إنه عرّف اللسان على أنه ظاهرة اجتماعية ، أي أنه فعل مستقل عن نشاط الفرد وأفعاله ، تُفرض عليه داخل المجتمع عن طريق ” الكتلة المتكلمة ” بنفس اللسان الذي يتكلم بها . فاللسان يبقى إلى ما بعد الفرد ، الذي لا يتبع قواعده بشكل مباشر . فهو لا يُورّث من الناحية البيولوجية بل ينتقل من خلال التعلم من جيل إلى جيل، وآليات الانتقال الاجتماعي هي التي تفسر تطوره . فاللسان لا يندرج  بعد الآن تحت قوانين علم النفس ، ذلك لأنه لا يمتلك الفرد (القدرات الفردية) كركيزة أساسية، بل الجماعة الإنسانية التي تتكلم به .

ومن أجل جعل هذا التعريف للسان ممكناً ، كان من الضروري على سوسور أن يميزه عن اللغة . حيث أن اللغة ستكون من هذا المنطلق، ” ظاهرة شاملة ” و نشاط متعدد الجوانب للتواصل البشري وتحت سيطرة اللسان . أما الكلام فهو ظاهرة فردية : حيث يُعتبر نموذجاً لنتيجةٍ تحددها جميع القوى التي تُمارس على الفرد في نشاطه . إذ يتنوع الكلام في أشكالٍ “تكثر أو تقل بشكل عَرَضي كما يقول سوسور” من الممكن ملاحظتها ودراستها على أنها ظاهرة لغوية يُظهرها اللسان . لكن اللسان ليس هو الكلام ، حيث إن اللسان ثابت ومستقر وقد كان لسوسور أن يقول أن اللسان هو اللغة بدون الكلام أو بعبارة أخرى أنه الجزء الاجتماعي المستقر للغة حيث يتجاوز اللحظة والفرد بشكل عَرَضي .

وقد كان تعريف اللسان على أنه ظاهرة اجتماعية ، في هذا الوقت وفي الوسط الفكري لسوسور، إشارة لعلم الاجتماع ، وبشكل أكثر تحديداً ما نراه في كثير من الأحيان على أنه شهادة ميلاد ذلك التخصص : تعريف ظاهرة اجتماعية من قبل إميل دوركايم (انظر كتاب ” قواعد المنهج في علم الاجتماع ” 1894). وانطلاقاً من هذه الخطوة ، شرع اللسانيون بانتقاد اللسانيات القديمة وتأسيس لسانيات عامة جديدة . وقد كان سوسور مَن أكمل هذه الحركة الفكرية ولكن بطريقة ألغت بشكل ما الروابط السببية بين العوامل الاجتماعية والحقائق اللسانية . و يُعد هذا الانجاز (الانجاز السوسوري) مكملاً للإنجاز الذي حققه ميليت بين اللسانيات والعوامل البيولوجية والنفسية التي تجعل الإنسان قادراً على التعبير، وعليه فقد سمح للسانيات التركيز على ما رآه سوسور( ومن قبله ميليت) هدف بحثه الحقيقي : اللسان في حد ذاته ولذاته.

وفي هذه المحاضرة، سأحاول تقديم لمحة عن المسيرة الفكرية الأولية التي قادتنا لسوسور ، فهذه المسيرة هي ما سمحت لعلم الاجتماع وعلم اللسانيات تحديد حقولهم الدراسية الخاصة . وسوف أسلط الضوء خاصة على ” نقطة الانطلاق “، على خطوط القوى التي تنبثق بشكل أولي من الرؤى المتبادلة لهذه التخصصات . وهذا ما استطعنا ، من ناحية أن نسميه في وقت لاحق (في الواقع قبل 30 عام من قبل “لابوف” ) بإشكالية اللسانيات الاجتماعية، أي تجمع وجهات نظر اللسانيين حول الخلفية الاجتماعية التي تفرض التباين والاختلاف للظواهر اللسانية . وبعبارة أخرى ، كيف يدمج اللغوي الأداء الاجتماعي في رؤيته للسان ؟ ومن ناحية أخرى، بالنسبة لعلماء الاجتماع ، سوف نرى مجال علم اجتماع اللغة الذي يشمل ترابط واعتماد متبادل بين حقيقتين غير قابلين للاختزال ، الظاهرة اللغوية والظاهرة الاجتماعية في السلوكيات الاجتماعية : وبعبارة أخرى ، كيف يستطيع عالم الاجتماع التعامل مع أثر الظواهر اللغوية في المجتمع ؟

يميل المرء للنظر إلى تعريف تخصص ما وعلاقاته بين التخصصات بالنظر إلى   ” موضوعاته “. وهكذا، للوهلة الأولى، سيسمح لنا تناول اللسان على أنه موضوع لسانيّ و تناول المجتمع على أنه موضوع اجتماعي بأن نستشف العلاقات بين التخصصات من خلال الإحالات المتبادلة : ما هو الاجتماعي في اللسان وما هو اللغوي في المجتمع . ففي علم الاجتماع ، من الممكن أن نفهم النظام التطبيقي للألسن وفقاً للمعاير الاجتماعية : فالشخص المتكلم يمتثل للعادات المتبعة داخل المجتمع تحت وطأة ” العقوبات ” ومعنى ( أو أسباب ) هذه العادات مستمدة من الظواهر الاجتماعية.[1]  من ناحية أخرى ، ففي علم اللسانيات، يتم توصيف هوية الألسن والقواعد النحوية وتنوع الاستخدامات والتغيرات اللسانية بالإشارة إلى الحاجة للممارسة الاجتماعية.[2] وسيكون الوصف اللغوي بحد ذاته ممارسة اجتماعية تتدخل في : توصيف اللسان ، شكل من أشكال الكلام ..إلخ، مما يجعلها متواجدة في المجتمع .

لكن حتى الآن، نحن لم نستعرض سوى الإشكالات و هذه الإشكالات لا تشكل مع ذلك نظاماً علمياً ، سواء كان اجتماعياً أو لغوياً . هذا العرض للمشاكل ( الذي بالطبع ليس “خطأ” ) يطرح في الحقيقة موضوع المادة خارج نهجها، كموضوع مطروح بالفعل كان يجب علينا ببساطة دراسته.

وهكذا سيكون اللسان موجوداً بالفعل ( نحن نتحدث بشكل جيد الفرنسية والعربية والإنجليزية ..إلخ ولكن في الواقع نحن نتحدثهم بأشكال مختلفة ) واللغوي موجود لوصف اللسان و وضع القواعد ، وبالطبع نحن نعيش في مجتمع يضع قيوداً على سلوكنا، وعالم الاجتماع موجود للتعامل مع هذا الأمر . المهارات موجودة ، وسيكون تبادلها ممكناً ، دون أن يهتم كل من ( اللغويين وعلماء الاجتماع ) بالكيفية التي يمكن للآخرين أن يصنعوا بها أدوات البحث.

في الواقع ، الأمور معقدة بعض الشيء . فمنذ بدايات علم الاجتماع واللسانيات الحديثة ، وقبل أن يعيد سوسير تعريف اللسان بارتباطه باللغة واللسان كموضوع مناسب للسانيات ( وبالتالي بشكل مستقل عن علم الاجتماع وعلم النفس )، تم إنشاء هذين التخصصين معاً . من خلال طرح اللغة واللسان كظاهرة اجتماعية ومن خلال النظر للظواهر الاجتماعية التي يتعامل معها علم الاجتماع ( وأيضاً التاريخ ، و الأنثروبولوجيا الاجتماعية.. إلخ ) باعتبارها – كما ذكر أنتوان مييه – ” الأسباب الفاعلة ” لتنوع الحقائق اللغوية ، شرعت اللسانيات ببناء موضوعها . وتبقى الحقيقة أنه من أجل إقامة العلاقات السببية بين الاجتماعية واللسانيات ، كان من الضروري لعلم الاجتماع أن يحدد أولاً هدفه بما يتجاوز الأدلة الفلسفية بأن الإنسان حيوان اجتماعي.

لفرض هذه الحقيقة ، وهي كوننا نعيش في مجتمع  كموضوع لعلم مستقل ، يجب اعتباره على أنه أصل لحقائق محددة واجتماعية : لا ينتج فقط عن مراقبة سلوك الأفراد في المجتمع ، ولكن أيضاً من اللوائح الجماعية التي تعد أكثر فأكثر من القيود العضوية ( البيولوجية ) والقوانين النفسية التي تحكم سلوك كل فرد بشكل واضح . وبالإضافة إلى ذلك، وبالنسبة للسان، فلكي يصبح موضوعاً في اللسانيات ، كان يجب عليه أن يصبح هو نفسه كائناً لغوياً بشكل صحيح ، وأن يخرج من إطار المحددات الخارجية، الغير لغوية ( الفلسفية، السياسية ، النفسية وحتى فسيولوجية..إلخ) للممارسة اللغوية للأفراد . وبعبارة أخرى ، كان من الضروري تحديد موضوع تخصصاتنا بما يتجاوز المنطق السليم وما وراء التفسيرات الطبيعية والنفسية : تفسير المجتمع بالحقائق الاجتماعية ، بصرف النظر عن الحقائق البيولوجية والنفسية التي تميز البشر بالتأكيد وتجعلهم مؤهلين للحياة الاجتماعية ، والتي بالرغم من ذلك لا تفسر المجتمع بمفردها ، و رؤية اللسان على أنه نظام لغوي مستقل عن الحقائق النفسية والفسيولوجية العالمية التي تنشؤه في الأساس . وقد تشكلت الروابط بين اللغويات وعلم الاجتماع في الأصل في هذه الأعمال التأسيسية التي سمحت لهذه التخصصات أن توجد بطريقة مستقلة ، ليس فقط كتخصصات جامعية أو رؤى تطبيقية ،ولكن أيضاً كمشاريع علمية حقيقية.

علم الاجتماع مع دوركهايم ، كان قادراً على تأكيد نفسه من خلال قطع الروابط مع علم النفس ( بما في ذلك الجماعية ) ومن خلال طرح الواقع الاجتماعي كهدف محدد له . وعليه فإن ما يميز الواقع الاجتماعي بالنسبة لـدوركهايم هو أنه موجود في البداية بشكل مستقل عن كل فرد من الأفراد الذين يحدد سلوكهم في المجتمع :

عندما أقوم بمهامي كأخ أو كزوج أو كمواطن … أقوم بواجبات محددة ، بغض النظر عن أفعالي ، في القانون والأخلاق … فالمؤمن يجد معتقدات وممارسات حياته الدينية جاهزة عند ولادته ؛ فإذا كانت موجودة من قبله فذلك لأنها موجودة خارجه . ونظام العلامات الذي أستخدمها للتعبير عن أفكاري ، ونظام العملات … الممارسات المتبعة في مهنتي…إلخ تعمل خارج الاستخدامات التي أقوم بها

ومن ناحية أخرى ، فإن الواقع الاجتماعي يفرض نفسه على الجميع ” بالقوة الإلزامية والإكراه “. ومع ذلك ، الأمر لا يتعلق فقط بالقواعد الأخلاقية :

يحتوي الضمير العام على أي فعل يسيء [ للحقائق الاجتماعية ] من خلال المراقبة التي يمارسها على سلوك المواطنين و [ بواسطة ] العقوبات الخاصة بها . وفي حالات أخرى ، تكون القيود أقل عنفاً… فإذا لم أبالي بالعادات المتبعة أثناء ارتدائي الملابس… أو عندما أضحك… أو المسافة التي أحافظ عليها مع الآخرين… فالآثار نفسها… فأنا لست مضطراً للتحدث بالفرنسية مع أصدقائي .. ولكن من المستحيل بالنسبة لي أن أفعل خلاف ذلك… ( إذا ) أنا استطيع التحرر من هذه القواعد وانتهاكها بنجاح ، ولكن هذا لن يكون أبداً إلا بأن أضطر للقتال ضدها .

لذا، فإن الفعل الاجتماعي يمثل ترتيباً لظواهر محددة تقيد الفرد في المجتمع وتقاومه ، والتي ستكون موضوعاً في علم الاجتماع فقط : الظواهر الاجتماعية هذه هي في الواقع، الظواهر التي تتكون من طرق التصرف والتفكير والشعور، الخارجة عن إرادة الفرد، والتي تتمتع بقوة إكراه تفرضها على الفرد… كما لا يمكن الخلط بينها وبين الظواهر العضوية ( ” طبيعة ” الكائن البيولوجي ) لأنها تتكون من ممثلات وأفعال ، أو مع الظواهر النفسية ، التي لا توجد إلا في الوعي الفردي .. ونظراً لعدم وجود الفرد في أي أساس من أسسها ، لا يمكن أن يكونوا إلا في المجتمع، إما المجتمع السياسي ككل ، وإما بعض المجموعات الجزئية الموجودة فيه .

ومن هذا المنظور السوسيولوجي ، نحن نرى أن اللسان ( ” نظام الإشارات الذي استخدمه للتعبير عن أفكاري ” انظر أيضاً مثال اللغة الفرنسية، حيث إنني غير ” مضطر ” للحديث بها في فرنسا ، غير أني لا أستطيع فعل غير ذلك ) يظهر من خلال هذه التعريفات كظاهرة اجتماعية . كما أن هذا التعريف للسان يتم تناوله وإعادة صياغته ليس فقط في علم الاجتماع ( بواسطة مارسيل موس على سبيل المثال[3] وبواسطة الباحثين المهتمين بمجموعات محددة داخل المجتمع ، مثل أرنولد فان جينيب ) ولكن أيضا من قبل اللغويين ، على سبيل المثال أنطوان ميليت ، الذي كتب : اللسان موجود بشكل مستقل عن جميع الأفراد الذين يتكلمون به.. فهو ليس له حقيقة خارج عن مجموع هؤلاء الأفراد.. ولكن لا يعتمد على أي فرد منهم لتغييره .. وأي شذوذ فردي في استخدامه يؤدي إلى رد فعل .. الذي في كثير من الأحيان لا يكون إلا سخرية .. ولكن في الدول المتحضرة الحديثة ، الأمر يصل إلى الاستبعاد من الوظائف الحكومية ، عن طريق امتحانات ، لأولئك الذين لا يعرفون كيفية الاستخدام الجيد المقبول في جماعة اجتماعية معينة .(1905)

إن ما يمكن أن ندركه ضمنياً من هذا التعريف الذي يصرفنا إلى تعريفات دوركهايم للظاهرة الاجتماعية ، هو أنه ليس فقط الطبيعة الفريدة للسان والعقوبة الاجتماعية هي ما تجعله يعمل ، ولكن أيضاً التعددية الافتراضية للظواهر الاجتماعية و التنوع اللغوي المجتمعي : ” الاستخدام الجيد ” و التحديثات اللغوية التي يمكن ” قبولها ” داخل ” جماعات اجتماعية ” مختلفة و بالتالي ، لخدمة أغراض اجتماعية متنوعة . وإن هذا التنوع في الجماعات والأغراض يشتمل على نظام اجتماعي بالنسبة لعالم الاجتماع ، الذي يدرس الألسن ( بصيغة الجمع )، سواء كانت ” ألسن “،” لهجات ” أو طرق خاصة للكلام ، خاصة جماعات اجتماعية مختلفة ، ” كألسن خاصة “، فهو أمام لسان مشترك . أما بالنسبة إلى لغوي مثل ميليت ، الذي يهدف إلى الظواهر اللغوية والمنشغل بالبناء النظري للسانيات العامة ، فإن هذه الجماعات الاجتماعية ، بل وبشكل أعم ، تنوع المجموعات التي ينتمي إليها متحدثو نفس اللسان ( بصيغة المفرد )، سيكونون ” السبب الفعال ” للاختلاف والتغير اللغوي .

إن عالم اجتماع ، مثل فان جينيب[4]، سيصف الوظائف التعددية ” للألسن الخاصة ” في المجتمع كتأثير لغوي للتنوع الاجتماعي للمجتماعات الإنسانية . وفي مقال نُشر عام 1908 ، طور هذا الباحث نظرية ” للألسن الخاصة ” لتفسير التنوع اللغوي للمجتمعات المعقدة ، حيث ” الجماعات الجزئية ( التي يتكون المجتمع منها )” كما يقول دوركهايم ، والتي تحدد نفسها في أنشطتها الخاصة عن طريق استخدام

 ” الألسن ” أو الممارسات اللغوية المحددة : ألسن خاصة أو ألسن مقيدة بمصطلحات فان جينيب . وعليه فإن طبيعة هذه الألسن الخاصة ( العامية ، الألسن المختلفة للسان المشترك ، اللسان الكلاسيكي للدين ، إلخ ) تنبع من العلاقات بين المجموعات الجزئية في المجتمع وعلاقتها بالمجتمع ككل . وبالنسبة لعالم الاجتماع ، إن الأمر يتعلق، إذاً  بالبحث في كل مجتمع عام، عن المجتماعات الخاصة وتحديد الحالة التي يشغلونها فيما بينهم كجزء من المجتمع و موقعهم اتجاه المجتمع المشترك للآخر . وعليه فإن هذا هو الظرف الذي سيحدد السمة الخفية والخاصة بشكل أو بآخر لكل لسان محدد .

وبالنسبة لـفان جينيب ، فإن خصوصية المجموعات في المجتمع يُنظر إليها داخل ديناميكياتها : التي تعتبر معبر بين المجتمع العام والمجتمع الخاص الذي يُحدّث الهويّات الجزئية داخل الحياة الاجتماعية ( الدينية ، المهنية ، العرقية ، الإقليمية..إلخ ) في مواجهة الهوية المشتركة . ولذلك لا يتم النظر إلى الألسن الخاصة من خلال ارتباطها العضوي بالاحتاياجات الخاصة ، ولكن من خلال حقيقة أن لهم طابع جمعي وأن وظفتهم تضمن الانتقال بين الأوضاع المختلفة التي من الممكن أن تشغل أعضاء من المجتمع بوصفهما أعضاء فيه و أعضاء من داخل ” المجتمعات الخاصة “. ” فالألسن الخاصة ” هي ظواهر اجتماعية ليس للفرد ، بصفته فرد ، أي سلطان عليها ( أو فقط من خلال التغلب على مقاومة الوسط الاجتماعي ) وهي تُفرض عليه بالإكراه ( الضغط الاجتماعي ) المتعلق بالاحتياجات الجماعية للمجموعات و للأنشطة الاجتماعية .

يصف فان جينيف الفئات الاجتماعية المحددة، ” المجتماعات الخاصة “، بعلاقتها بالإندماج / الانفصال مع المجتمع العام ، حيث يلعب اللسان الخاص دوراً رئيساً : فهو علامة وأداة في تلك العلاقة ، علامة لهوية المجموعة و أداة لغوية لأنشطتها . وهكذا يتناول فان جينيف ثلاث مجالات : الألسن الخاصة الاحترافية ( بما في ذلك العامية )، الألسن المقدسة ، اللهجات . وسوف يرى بعد ذلك هذا التخصص اللغوي للفئات الاجتماعية وأهدافها كأحد القوى المحركة للتغيير اللغوي والاجتماعي . وفي الواقع ، إن دمج تنوع ” المجتمعات الخاصة ” داخل ” المجتمع العام ” هو الذي يحدد مكانهم في ” اللسان العام ” وفي ” الألسن الخاصة “، ويرى فان جينيف في هذا المبدأ نفسه للظهور التاريخي للوحدات السياسية مثل الشعب والدولة :

وقد تسائل ، ألا تفترض كل لهجة سمة للسان خاص مقابل الألسن الأخرى ، بالرغم من غياب لسان عام صحيح ، لسان خاص متفق عليه بوعي كعامل حيوي لصيانة ولاستقلال المجموعة المتكلمة بهذه اللهجة ؟ ستكون هذه السمة هي الشكل الأولي للتطور الذي يصل إلى شكله النهائي بلغاتنا ” الوطنية ” في أوروبا .

والإشارة إلى ” الألسن المحلية ” على أنها نتيجة ، يطرح اللسان المشترك كملكية نفس الفكرة لشعب ما . فإذا انتهى الأمر بفرض اللغة الوطنية على الجميع ، فإنها توفر نقطة ارتكاز لإدماج المجموعات و ” ألسنتهم الخاصة ” في البيئة حيث يتم تحديدهم : سيكونون ” مجتمعات خاصة ” في ” المجتمع العام ” الذي يفترض أن تمثله الأمة من هذا المنظور بلغتها الوطنية الناشئة.

علم الاجتماع اللغوي عندئذ يأخذ بعين الاعتبار الطبيعة اللغوية للألسن الخاصة

 ( هل يتم التحدث بها بشكل أكثر أو أقل تحديداً ، هل هي مشفرة ، هل هي غير مقروءة بالنسبة للشخص العادي ، أو بألسن مختلفة تماماً مثل اللاتينية في أوربا المسيحية ، هل هي لسان خاص بالدين بالإضافة إلى الأنشطة الفكرية والقانونية لعدة قرون ،،،إلخ ؟ ) كعامل للهوية و” السرية “، وبشكل أعم ، كعامل للغايات الاجتماعية للمجموعات التي توظفه و التي تحتل مكان داخل المجتمع ، داخل الدولة . ولذلك يرى فان جينيب وراء هذا التكامل ، محرك التاريخ الذي هو الاتحاد اللغوي . ولقد ضبط هذا الاتحاد الاستخدامات اللغوية المتباينة و في لهجات معينة ،

” الألسن الخاصة مقابل جميع الألسن الأخرى “، وأيضاً الألسن الخاصة مقابل لسان محلي . كما إن هذا الاتحاد يحقق التطور نحو ما كنا نراه في بداية القرن الماضي كدولة حديثة ، القدرة على تجميع الشعوب والتكتلات الاجتماعية مع الهويات والممارسات التي ربما تكون متعددة ، لكن التحدث بلسان مشترك : لسان موحد لثقافتهم وحكوماتهم في المجال السياسي للدولة .

نجد في اللغوي ميليت نفس الاهتمام ونفس الرؤية للتطور التاريخي الذي يتجه نحو توحيد الشعب ، عندما يفترض أن :

فيما عدا الحوادث التاريخية ، تميل حدود الألسن المختلفة إلى التزامن مع حدود الجماعات الاجتماعية التي نسميها بالدول ، حيث أصبح غياب وحدة اللغة علامة على أن الدولة حديثة ، مثل بلجيكا ، أو أنها تشكلت بشكل مصطنع ، مثل النمسا ( في 1905، كان من الواضح الحجم الهائل للأعراق المختلفة في النمسا والمجر ).  وبنفس الطريقة ، يستنتج في نص آخر :

الحقيقة السائدة في تاريخ الألسن ، نشوء وتمدد هذه الألسن المشتركة ، والتي هي نتاج لوحدة الحضارة ، في مجالات واسعة وبدرجات متفاوتة . وهكذا يظهر السمة الاجتماعية البارزة لتطور الألسن . ( استشهد به ستيفانيني 1979)

وقد كان هذا هو المضمون الرئيسي لكتابه عام 1919 حول الألسن في أوربا الجديدة ، فقد كان تدخلاً لغوياً في المناقشات السياسية حول معاهدات ( فرساي ) التي أنهت الصراع وأعادت رسم حدود دول أوروبا في نهاية الحرب العالمية الأولى . وقد كان ينادي في هذا الكتاب للتوحيد السياسي حول الألسن الحضارية . بالإضافة إلى رؤية سياسية ركز فيها حجته حول الألسن الأدبية الكبرى كمعيار للوحدة السياسية ، كما أنه قدم رؤية للتطور اللغوي السليم للألسن التي تؤدي بعد ذلك لألسن قادرة على أداء تلك الوظائف . ويميل هذا التطور إلى تحرير الألسن المتطورة والممتدة سياسياً التي من المحتمل أن تصبح ألسن وطنية ” جيدة “، مكونة من بعض التعقيدات النحوية المرتبطة بالتعبير الملموس للتجربة الإنسانية لتذهب نحو منطق أكثر تجريداً ولكن أكثر عالمية . كما يتضح مفهوم هذا الخط من التطور ، الذي تناوله ميليت في العديد من كتاباته المختلفة ، على سبيل المثال من خلال اختفاء المبارزات بين الألسن الهندوأوروبية ، ومن خلال انتقاد الأسلوب النحوي

( الذي هو واحد من أقل الأنواع النحوية منطقية والغير متوقعة ) الذي يميل إلى الاختزال داخل الألسن الحديثة للحضارة التي تتحكم فيها العقلانية ، وانتقاد اللغة الألمانية بسبب تعقيداتها في بناء الجملة والتصريف..إلخ .

 لن نناقش هنا مفهوم تطور الألسن المبني على هذه الحجج ، والذي يمكننا اليوم أن نعتبره قد عفى عليه الزمن .  ولكن حديثنا يتعلق برؤية الحقائق اللغوية التي يعتبرها ميليت حقائق تحددها الأسباب الاجتماعية ( التاريخية هنا ). إننا نرى وجهة النظر الاجتماعية والتاريخية حول الوحدة اللغوية ، التي شاركها ميليت مع فان جينيب وبعض المفكرين الآخرين في حقبته ، تتضاعف هنا كوجهة نظر ما نستطيع أن نطلق عليه اليوم باللسانيات الاجتماعية : من خلال البحث في هذا التاريخ السياسي والثقافي للألسن ، والعوامل المشروطة لتغيره وتطور سماته اللغوية الرسمية . و بقلب منظور ما يمكن تسميته اليوم بعلم اجتماع اللغة ( أو الألسن و وظائفها داخل المجتمع ) الذي كان يمارسه فان جينيب ، يقدم اللغوين مثل ميليت علم اللسانيات الاجتماعية ، حيث إن هذا العلم لا يسلط الضوء على النظام الاجتماعي وحالة الظواهر الاجتماعية – المرتبطة باللغة – في هذا النظام ( حيث ستكون هذه مهمة علماء الاجتماع )، ولكن يتعلق بتحليل اختلافات وتغيرات الظواهر اللغوية معتمداً على المجتمع .

وفي مقاله له حول ” كيف تغير الكلمات المعنى ” (1904)، حدد ميليت إدراج هذا العلم اللساني ( الاجتماعي ) داخل حقل العلوم الاجتماعية في نفس الوقت الذي حدد فيه خصائصه قائلاً :

إذا كان الوسط الذي تتطور فيه اللغة هو الوسط الاجتماعي ، وإذا كان هدف اللغة هو إتاحة العلاقات الاجتماعية ، وإذا لم تحفظ اللغة إلا من خلال هذه العلاقات ، وأخيراً إذا كانت حدود الألسن تميل إلى التزامن مع حدود الفئات الاجتماعية ، فمن الواضح أن الأسباب التي تعتمد على الظواهر اللغوية يجب أن يكون لها طبيعة اجتماعية ، وأن النظر فقط في الظواهر الاجتماعية هو الذي سيمكّن من استبدال فحص الظواهر الإجمالية بتحديد القضايا في اللسانيات ، أي فحص الأشياء والأفعال…(232)

إذا كانت الظواهر اللغوية بالنسبة لـميليت تعتمد على أسباب الطبيعة الاجتماعية ، فإن الحقيقة أنها تحافظ على خصائصها اللغوية في هذا الاطار الاجتماعي : وفي الواقع ،

للظواهر اللغوية خاصية مميزة و … الأسباب الفعالة ( اجتماعياً ، للعمليات التي تؤدي إلى التغيرات اللغوية ) لا تتحرك بمفردها ، بل تدخل فقط في وسط مجموعات من الظواهر ذات الطبيعة الخاصة والتي تكون ظواهر لغوية (235).

إن تصنيف هذه الظواهر اللغوية كما تصورها ميليت يفصح عن المفهوم السوسوري عن القيمة : حقيقية أن معنى الكلمات يتحدد في ضوء الكلمات الأخرى ( فبالنسبة لسوسور، إن قيمة دلالة في اللسان ستكون عدم وجود الآخرين ). وبالنسبة لـميليت ، فإننا نرى هذا المبدأ يعمل في تحليله لتاريخ التغيرات في معاني الكلمات . فهو يوضح على سبيل المثال ، الكلمات الفرنسية أب و أم، هم ” استمرار للكلمات الهندية الأوربية التي تعني أب و أم ” ومن هنا أتى المعنى في الفرنسية ، وبجانب العلاقات الاجتماعية ، كذلك ”  فسيولوجي الأمومة والأبوة ” والتي تم تعميمها في بعض اللهجات المحلية على الحيوانات ( تعني إذاً ذكر و أنثى ). وإذا أخذنا في الاعتبار الكلمات المتكافئة التي انشقت من الألسن القديمة ( وبالأخص اللاتينية )، سنلاحظ أن في استخداماتهم الحديثة ، لم تعد كلمات أب و أم مرتبطة بنفس العلاقة مع الكلمات الأخرى للسان ( كما لم تعد لها نفس القيمة كما يقول سوسور ). وفي الواقع ، يكمن التغير اللغوي هنا في التغير الاقتصادي لعلاقات المعنى داخل اللسان : في اللاتينية ، يتم الإشارة للعلاقة الفسيولوجية بزوج آخر من الكلمات التي تعني فقط علاقات البنوة في جوانبها الاجتماعية والقانونية والدينية داخل العائلة الأبوية الهندوأوربية . يظهر هذا الشكل من أشكال العائلة الذي اختفى ، والتغير في ما تمثله الكلمة ، أي تغير علاقة الناس بالأشياء التي تمثلها الكلمات ، كـسبب فعال ، اجتماعياً ، لاختلاف ولتغير الروابط بين كلمات اللسان . و وفقاً لـميليت ، فإن هذه التغيرات ليست فقط مشكلة علم فقه اللغة ، بل إنها حقيقة أن اللسان ينبض بالحياة .

إن هذه التغيرات في ماتمثله الكلمات يصبح بالتالي أسباباً فعالة للتغيرات اللغوية في تطور الألسن ، مع مرور الوقت ( على مر الزمان ) و يمكننا فهم آلياتها الملموسة عن طريق فصل مراحل انتقالها :

إذاً … كان البالغين يستخدمون كلمة بطريقة معينة ، فإن المعنى المستعمل سيجذب انتباه الأطفال ، والمعنى القديم الذي لايزال يهيمن على عقول البالغين ، سيتلاشى في الجيل الجديد .

والآن ، بجانب تغير علاقات الناس بالأشياء – المتصورة في المسار الزمني – المحفزة للتطور اللغوي ، السبب الآخر الفعال للطبيعة الاجتماعية لتنوع الظواهر اللغوية هو التمايز الاجتماعي لمتحدثين نفس اللسان الذي يمكننا أن نتصوره في الوقت الحاضر ( بتزامن ). وهنا أيضاً ، يؤكد ميليت باستمرار على أن هذا

” السبب الفعال ” ( نفس السبب الذي ينتج ” الألسن الخاصة ” لدى فان جينيب ) يؤثر على الظاهرة اللغوية ، داخل البيئة اللغوية للكلمات . فعلى سبيل المثال ، إذا كانت تميل مجموعة اجتماعية محددة لقول كلمة ” بشكل رهيب ” مكان الكلمة الشائعة ” جداً ” فإن هذا الاستعمال الخاص لديه فرصة كبير لكي يصبح معمماً على كلمات مترادفة مثل ” بفظاعة ” ..إلخ . إن المبدأ اللغوي الاجتماعي الناتج عن ذلك : ” أن كل مجموعة بشرية تستخدم المصادر العامة للسان بطريقة محددة “، وفي الحقيقة أن هذه الطرق المحددة للاستخدام المرتبطة بالأسباب الاجتماعية يتم النظر إليها على أنها مصدر للتغيير والاختلاف داخل نظام اللسان . وقد تم الاعلان عن هذا المبدأ منذ 1904 ( تاريخ كتابة المقالة حول ” كيف تغير الكلمات المعنى “)، مبدأ القاعدة المتغيرة في علم اللغة الاجتماعي للابوف.

تعد البنية الموازية لموضوع اللسانيات وعلم الاجتماع جزءاً من نفس الحركة ولكن يختلفان داخل نفس الحقل الفكري : الحقل الذي يطرح الظاهرة الاجتماعية كترتيب لظواهر محددة ، اجتماعية فقط ، يكمن تفسيرها داخل المجتمع البشري الذي يؤخذ في الاعتبار لذاته ، لأنه كما قال دوركهايم ، كما استشهدنا به من قبل :

لا يمكن الخلط بينها وبين الظواهر العضوية (” طبيعة ” الكائن البيولوجي ) لأنها تتكون من ممثلات و أفعال ، أو مع الظواهر النفسية ، التي لا توجد إلا في الوعي الفردي .. ونظراً لعدم وجود الفرد في أي أساس من أسسها ، لا يمكن أن يكونوا إلا في المجتمع

اللغة و/ أو اللسان هما من بين تلك الظواهر الاجتماعية التي يشير إليها ميليت عندما يقول ، بشكل متكرر :

إن سمات المظهر الخارجي للفرد و سمات الإكراه التي حدد بها دوركهايم الظاهرة الاجتماعية تظهر داخل اللغة مع الدليل الأخير .

لذلك ، وفقاً لـميليت ، في إطار علم الاجتماع ، يجب أن يتشكل علم اللسانيات داخل العلوم الحديثة بالتأكيد على استقلاليته . وكما استطاع علم الاجتماع من تحرير نفسه من الظواهر العضوية والنفسية الملموسة وطرح الظاهرة الاجتماعية كظاهرة اجتماعية على وجه التحديد ، فإن علم اللسانيات مدار البحث ( في جميع الدراسات الاجتماعية ) كان يستطيع اتباع نفس المسار . بالتأكيد ، كان من الضروري التركيز على تعريف الحالات الفسيولوجية للنطق والحالات النفسية للغة البشرية من أجل تحديد الحقيقة اللغوية ، بشكل ملموس . ولكن ، مرة أخرى ، بالنسبة لـ ميليت ، فإن اللسانيات لا تصل إلى ” العمليات التي من خلالها يتم الحفاظ على الألسن ” وتطويرها ” وبالتالي فإن الأسباب الحقيقية للظواهر اللسان ( الأسباب الفعالة ) هي ، بالنسبة له ، كما رأينا ، عوامل اجتماعية .

قد أصبحت اللسانيات علماً مستقلاً ، رغم اندماجها في ” جميع الدراسات الاجتماعية “، إلا أنه يجب على اللسانيات العامة أن تؤكد نفسها كعلم الظواهر اللسانية ، وبشكل عام، العلم الذي يدرس ” الألسن لذاتها ” وليس فقط في إطار التطبيقات التي لا يمكنها استنفاد غرضه . وسوف أستشهد هنا ، لكي أختم هذه النقطة ، بحجة ميليت الذي يضع الهدف اللساني في مستوى أكثر تجريداً ، وأكثر عمومية من حدودها الموروثة من الأهداف العملية للتطبيقاتها السابقة :

لا يتم عادة دراسة الألسن لذاتها ، ففي كل مرة تعلمناها فيها ، كان ذلك من أجل التلاوة الصحيحة للطقوس الدينية ، أو لذكاء النصوص الدينية أو القانونية القديمة ، أو لسماع اللغات الأجنبية ، أو أخيراً للتحدث أو الكتابة بشكل صحيح للسان مجموعة اجتماعية كيبرة ، التي أصبحت مختلفة عن اللسان اليومي.. نحن ندرس فقط اللغات التي لا نتكلم بها بشكل طبيعي ، و لكي نمارسها . لقد كان الهدف الأساسي للدراسة اللسانية في كل مكان هو الممارسة ، وقد دفعنا هذا إلى الاستنتاج ، ليس في العمليات التي يتم من خلالها الحفاظ على الألسن وتطويرها ، ولكن في الظواهر الملموسة : النطق ، الكلمات ، الأشكال النحوية وترتيب الجمل .

ولذلك يدعو ميليت إلى تغير الغرض نفسه للعلم الذي يدرسه ، من أجل وضع ” العمليات التي يتم من خلالها الحفاظ على الألسن وتطويرها ” في المركز ولما سيكون هدف للسانيات سوسور : تعلم الألسن التي نتكلمها ” بشكل طبيعي ” لذاتها أو التي نتناولها من الخارج . وسترى في دراستك أن هذا الهدف سيتحقق من خلال نظرية سوسور ، التي تمكنت من جعل اللسانيات مستقلة ذاتياً ، ليس فقط بتعلقها بعلم النفس والمحددات العضوية ولكن أيضاً بتعلقها ” بالأسباب الاجتماعية الفعالة ” للظواهر اللسانية ، عن طريق إدراج العمليات والمسببات داخل إطار مفهوم اللسان ، كظاهرة اجتماعية بالتأكيد ، ولكن اللسانيات البنيوية ستدرس بنيتها الداخلة .

إن الثمن الذي يجب دفعه لما قدمه سوسور ( للسانيات البنيوية ) سيكون كبيراً ، إذا أخذنا في الاعتبار العلاقة بين اللسانيات وعلم الاجتماع . إن الاختلاف يكمن في أن اللسان ظاهرة اجتماعية بينما اللغة والكلام ليسا كذلك[5]، إن سوسور سيُنشأ شروطاً من أجل دراستها بحد ذاتها ، ولكن منقطعة عن أسبابها الاجتماعية الفعالة ، وباختصار ، عن الحقل المتنوع لمجال اللغة :  فالظاهرة اللغوية لن تكون بعد ذلك ظاهرة لغوية اجتماعية كما أراد ميليت . فبالتأكيد ، بالنسبة لسوسور ، ” اللسان موجود في المجتمع في شكل بصمات مودعة في كل دماغ ، ( ولكن ) في حين أنها مشتركة لدى الجميع ، إلا أنها لا تخضع لإرادة المودعين “. فهو يصور اللسان بقاموس تم توزيع نسخ مطابقة منه بين الجميع ، ولكن لا يستخدم الجميع هذا القاموس ، ولا يجعلنا الضغط الاجتماعي نستخدمه بالضرورة ، ولكن هيكله الداخلي هو الذي سيكون هدف الدراسة اللغوية . فقد يظل كيفية الشعور بالمعنى الاجتماعي سؤالًا مشروعاً ، لكنه مرفوض داخل اللسانيات ، فهو داخل ” علم  دلالة الألفاظ ” الذي لا يزال يتعين إنشاؤه . فاللسانيات ستكون علم اللسان وحسب : ” اللسانيات لديها هدف وحيد وحقيقي وهو اللسان المتناول في ذاته ولذاته ” ( آخر جملة لسوسور في محاضرته ).

إن النهج اللغوي الاجتماعي لميليت ، الذي يركز على آثار الأسباب الاجتماعية على الاتحاد والتنوع و التغيرات والاختلافات للظواهر اللغوية ، يجد نفسه مرفوضاً في علم اللسانيات الذي يقطع روابطه بعلم الاجتماع . وأما بالنسبة لنهج علماء الاجتماع تجاه الآثار الاجتماعية للتنوع اللغوي، فباختصار، فإن علم الاجتماع اللغوي ومفهوم اللسان الخاص بعلمائه سيتم فصله من الآن وصاعداً عن المفهوم الخاص باللغويين البنيويين. وفي الحقيقة ، فقد أصبح مفهوم اللسان أكثر مهنية ، وبوجه الخصوص ، قد أصبح مستقلاً عن تأثير الحدود الاجتماعية والسياسية للمجموعات التي تتحدث بالألسن . وفي الوقت الراهن ، ” لا يوجد، مبدئياً ، معيار خارجي لمعرفة ما يندرج تحت نفس النظام ( اللسان )، فاللسانيات .. هي منظور يتناول النظام من الداخل بافتراضٍ مسبق بوجوده ” (عالم الاجتماع ، بيير إشراد 1993:5). إن الحدود التي يعتمد عليها اللغوي ليست واضحة ( اجتماعياً ). وهذا ما يسمح له بتناوله كنظام يصفه بأنه ” لسان ” وكذلك لهجات ، أو ممارسات معينية على الصعيد الإقليمي ، أو ما نراه كممارسات عابرة للحدود الوطنية ومتعددة اللغات إذا اخذنا الحدود الاجتماعية والسياسية كأساس[6].  وكما رأينا ، على النقيض ، أنه بالنسبة لـميليت ، أن الحدود ليست مشكلة : ” تميل حدود الألسن المختلفة للتزامن مع حدود المجموعات الاجتماعية التي نسميها دول “.

إننا لا نستطيع القول بأن ما قدمه سوسور قوبل بدون مشاكل . حيث حافظت العديد من تيارات البحث على أنواع مختلفة من العلاقات بين الظواهر اللغوية وعواملها الاجتماعية في ممارساتها ونظرياتها . والأهم من كل ذلك ، أنه سيتم تجديد الروابط بين اللسانيات وعلم الاجتماع لاحقاً على أسس أخرى ، من قبل أوريل وينريش و ويليام لابوف وغيرهم ، مستفيدين ، لاسيما في التنوع اللغوي الاجتماعي لـ”لابوف” ، بالإنجازات السوسورية ، وعندما يدخل هذا المنهج البحثي مرة أخرى في النظام المتنوع بين استخدام مجموعات اجتماعية مختلفة و بين أساليب أخرى ، حينها سيكون أمراً مختلفا بالفعل .


[1] إذا تكلمت معكم الآن هنا باللغة الفرنسية فهذا ناتج عن تقليد مجتمعي ( نعرفه أنا وأنتم ) يحدد سلوكي المجتمعي في هذا الظرف. قد أحاول التحدث معكم بلسان آخر ، ولكن سأُعرّض نفسي حينئذ ” للعقوبات ” (آثار غير مرغوب فيها): لن تفهموني أو إذا تمكنت من التحدث إليكم بالعربية التونسية سوف تفكرون أن الوقت غير مناسب و أنه ليس من المناسب أن أكون أنا من يفعل ذلك. ولذلك سوف أفشل في مهمتي: فـ”القانون” ومعيار اختيار اللسان داخل الممارسة المجتمعية من شأنه أن يقاوم جهودي لإعادة تعريفه من خلال اختياري اللغوي. وعليه فإن العادات المجتمعية للغات و المعايير التي تنظمها وتشرحها ستكون موضوع البحث لعالم الاجتماع.

[2] لقد تكلمنا كثيراً ، في وقت سابق وبشكل محدد ، عن ظاهرة اللغة العربية ، التي تُدعى ازدواجية اللهجة . حيث يمكن للمرء، وفقاً لضروريات الممارسة الاجتماعية، اعتبار الاستخدامات الشعبية والاستخدامات الشائعة علمياً ودينياً إما كلغات مختلفة وإما متعلقات لنفس اللغة. عند وصف اللغة إذاً ، يجب استيعاب هذا الاختلاف لهوية اللغة (اللغات) واستخداماتها، كما يجب استخدام هذا الاختلاف في العمل اللساني.

[3]  ” اللغة هي ظاهرة اجتماعية أولية .. موجودة .. خارج عن الأفراد .. تظهر وتختفي وتختلف وتنمو وتتغير مع النظام الاجتماعي” 1901، اقتباس من ستيفانيني 1979.

[4] من المرجح أن يكون اليوم عالم أنثروبولوجيا، فهو مؤلف كتاب شهير، ” طقوس العبور ” (1905) الذي يصف فيه العلامات الاجتماعية

 ” الطقوس ” للانتقال بين الأحوال والهويات المحددة داخل الحياة الاجتماعية : طقوس الفصل والتكامل .

[5] في محاضراته عن اللسانيات العامة التي نشرها لها طلابه عام 1916، بدأ سوسور بإزالة الغموض عن استخدام مفاهيم اللسان و اللغة بإشراك مفهوم الكلام . الظاهرة الاجتماعية ، بالنسبة لسوسور ، ليست اللغة التي تعتبر نشاط متعدد الاشكال وقدرة بشرية وظاهرة أنثروبولوجية شاملة تربط الناس بالتواصل الاجتماعي . اللغة ليست إلا معطى أولي بطريقة أو بأخرى ، دون مستوى الظاهرة الاجتماعية ، والقدرة البشرية تسمح بإنشاءها ، ومكانها المعرفي شبيه للظواهر العضوية والنفسية بالنسبة لـ دوركهايم ، فهي بعيدة تماماً عن الظاهرة الاجتماعية . وكما يقول سوسير ، هناك عاملان في هذه الظاهرة الكلية يسمحان للغة بالوجود : اللسان والكلام ، وخلال هذه الروابط ، اللسان هو الذي يمثل الظاهرة الاجتماعية . هو مستقل عن المتحدث الفردي ولكن ضروري بالنسبة له . فاللسان لا يقتصر على الأشياء العضوية : فهو ليس مادة يمكن للمرء أن يرثها بيولوجياً ، ولكن نظام من الأشكال ينتقل من جيل إلى جيل ، تتصرف فيه القوى الاجتماعية مع الوقت ( انظر أعلاه ، مبدأ فصل مراحل تطور اللسان لـ ميليت ). واللسان لا يندرج تحت الحالة النفسية ، فهو لا يمتلك الفرد كركزية بل المجتمع ، ” كتلة ناطقة “. وأخيراً ، العامل الآخر للغة , الكلام , وهو إنجاز فردي ، (” يتغير أكثر أو أقل بشكل عرضي ” كما يقول سوسور ) ولكن هو الشئ الوحيد الملاحظ الذي يمكننا بتحليله تتبع نظام اللسان بما يتجاوز المصادفة أو الفردية عبر التحليل اللغوي ، والذي هو الهدف منه .

[6] إحدى مزايا هذه الاستقلالية في تعريف اللسان بعلاقته بالحدود المقبولة اجتماعياً ، هي القدرة على التعامل مع ألسن الأقليات ، التي بدون كتابة ..إلخ كألسن مستقله ، وبصفة عامة ، القدرة على التعامل مع الألسن باستقلالية عن تسلسلها الهرمي داخل الأيديولوجيات السياسية للدولة ، والتي كان يعتمد عليها ميليت .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى