- ستيڤ بولسون*
- ترجمة: العنود العتيبي
- تحرير: بلال الخصاونة
تُعَدّ “مرونة” الدماغ أحد أعظم الاكتشافات في العلم الحديث، ولكن عالم الأعصاب “ديڤيد إيلغمان” يعتقد أن هذه الكلمة مُضلِّلة. فبِنية الدماغ الشّكليّة تَستمرّ في التطور على عكس البلاستيك، والذي يوضع في قوالبَ ليتشكل بعدها بأشكالٍ معينة ويحتفظ بها. ولكن “إيلغمان” لا يمكنه تحاشي هذه الكلمة، وكما قال:” إن جميع الدارسين يستخدمون مصطلح المرونة، لذا فأنا استخدمه مراتٍ قليلة”. كما أن “إيلغمان” استبعد تشبيهات الدماغ بالحواسيب؛ واعترف بمصطلح “حيّ – livewired”[1] (وهو أيضًا عنوان كتابه الجديد) حتى أنه يشير إلى عدم إمكانيّة فصل معدات الدماغ وبرمجياته عمليًا.
ويُعرَف “إيلغمان” بكونه صاحب طاقةٍ مذهلة، فهو أستاذٌ مساعدٌ في جامعة ستانفورد وروائيٌ أيضًا، بالإضافة إلى كونه مذيعًا تلفزيونيًا لبرنامج “الدماغ” والذي يُعرض على خدمة الإذاعة العامة، ومستشارٌ علمي لبرنامج “Westworld” (غرب العالم) الذي يُعرض على HBO. وهو الآن الرئيس التنفيذي لشركة “سيليكون فالي”، والتي تُطَوِّر أدواتٍ ترسل البيانات إلى الدماغ حتى يتمكن الناس من “الرؤية” و “السماع” من خلال جلدهم.
وقد تحدثتُ مع “إيلغمان” عن كيفية تَنافس الخلايا العصبية مع بعضها البعض، وما إذا كان من الممكن أن يتملك البشر خبراتٍ وتجاربَ حِسّية جديدة كليًا، وأيضًا عن أسباب إيمانه بمقولة “أنت من تُشكل عقلك”.
ووفقًا لقراي ماتيرس، فقد قال “ديڤيد إيلغمان”: “لا توجد أية شكوك حول مقولة أنك أنت من تُشكل عقلك، فكل الأشياء التي تحدث في حياتك مخزنةٌ داخل عقلك، إضافةً إلى تاريخك، وما أصبحت عليه، والأشياء التي رأيتها.”
لقد قلتَ بأننا بالكاد بدأنا نفهم مرونة أدمغتنا، فهل حقًا يتغيّر تشكيلها كل يوم؟
يُعاد تشكيل دماغك في كل لحظةٍ من لحظات حياتك. فأنت تملك ٨٦ مليار خلية عصبية إضافةً إلى نسبةٍ من اتصالات الكوادرليون بينهنّ. وتُغيّر هذه الآفاق الشاسعة من الاتصالات قوّتها باستمرار، لتقطع وتعيد الاتصال في أماكن أُخرى؛ ولهذا السبب تصبح شخصًا مختلفًا نوعًا ما عما كنت عليه قبل أسبوع أو حتى سنة، وعندما عَرَفتَ أن اسمي هو “ديڤيد” فقد حدث تغَيُّر في البنية الشكلية لدماغك، وهذا ما يعنيه أن تتذكر شيئًا.
هل هي مجرد تغيرات صغيرة أو أن إعادة تشكيل الدماغ الأساسية والمؤثرة قد تحدث خلال أسبوع؟
كلاهما صحيح، لقد حدثت العديد من التغيرات للناس أجمع خلال وباء كورونا. فقد وجدنا أنفسنا مُجبرين فجأةً على التخلي عن عاداتنا اليومية ومضطرين لأن نعيد التفكير في العديد من الأشياء وأن نفكر خارج الصندوق. يَبني الدماغُ نموذجًا داخليًا للعالم حتى يتمكن من التنبؤ بما سيحدث تاليًا، ولكن فجأةً أصبحت جميع تنبؤاتنا مشوشةً تمامًا. والأمر الإيجابي الوحيد العائد من الحَجْر هو زيادة مرونة أدمغتنا بسبب هذه التجربة. ولمن لم يصابوا بالوباء مِنا، فإن أدمغتنا تُعد مستفيدةً من وباء كوفيد ١٩؛ لأننا نتمكن من تحدي أنفسنا بأمورٍ جديدة، ويُعد هذا من أهم الأمور للدماغ.
هنالك دراسةٌ أُجريت لعدة عقود مع راهباتٍ قد عِشنَ في دَيرٍ طول حياتهن واتفقن على التبرع بأدمغتهن عند وفاتهن. وحينما شُرحت جُثثهنّ، اكتشف الباحثون أن نسبةً من أولئك الراهبات مصاباتٌ بمرض الزهايمر، ولكن لم يعرف أحد بذلك حين كُنّ لا يزلن على قيد الحياة. ويعود السبب لأنهن كُنّ يتحدين ذواتهن باستمرار. فقد كن يملكن مسؤولياتٍ وأعمالًا، وتعاملن مع بعضهن البعض طوال الوقت، وأكبر التحديات التي يواجها الدماغ بشكلٍ إيجابي هي الأشخاص الآخرون. فحتى اليوم الذي تُوفّين فيه، كن ما يزلن نشيطاتٍ إدراكيًا. وعلى الرغم من حقيقة أن أدمغتهن كانت تتآكل شيئًا فشيئًا بسبب المرض، إلا أنهن كن يُشكّلن إدراكاتٍ جديدة في أدمغتهن باستمرار.
كتبت عن معركةٍ مستمرة تدور داخل أدمغتنا بين مجموعاتٍ مختلفة من الخلايا العصبية، تتقاتل على من سيسيطر على أجزاء معينة من الدماغ.
هنالك منافسةٌ تشمل جميع المستويات، وتمتد حتى الخلايا العصبية الفردية. فحينما تتنزه خلال غابةٍ ما، ستبدو لك بأنها جميلة وساكنة. والأمر ذاته يحدث في الدماغ؛ فجميع الأشجار والشجيرات تتنافس للحصول على ضوء الشمس. فنجد بعض الشجيرات تنمو منخفضةً أكثر، ولكنها تكون أعرض من غيرها، بينما البعض الآخر يصب طاقاته أجمع حتى ينمو بطولٍ أكبر ويفرد أوراقه ليحصل على ضوء الشمس. وهذا بالضبط ما يحدث مع الخلايا العصبية، فحينما تنظر إلى الناقل العصبي عندما تبصق خليةٌ عصبيةٌ ما المواد الكيميائية التي تُرسل إشارةً إلى الخلية العصبية التالية، فهذا بسبب الخلفية العدوانية للخلايا العصبية التي تقاتل بعضها البعض. وإذا نظرت إلى الأمر بذات وجهة النظر، سترى أنه يفسر العديد من الأمور. فحين لا يُستخدم أي جزءٍ من الدماغ خلال أي وقت، حينها تستولي عليه أجزاءٌ أخرى من الدماغ بسرعةٍ كبيرة.
اذكر مثالًا على المنافسة التي تجري في الدماغ؟
نحن دائمًا ما نفكر بشأن الحاسة في الجزء الخلفي من الدماغ، وهي الحاسة التي ترى فيها جميع الأشياء، كطبقةٍ مرئية. ولكن لو أُصبت بالعمى، أو حتى إن قمنا بوضع عصابةٍ على عينيك وشبثناك نحو شاشةٍ ما لمدة من الوقت، سنلاحظ أن حواسك الأخرى كاللمس والسمع ستبدأ بالتأثر أيضًا. ولكن حينما نتحدث عن شخصٍ أعمى منذ نعومة أظافره، فهو يستخدم تلك الحاسة لأمورٍ مختلفةٍ تمامًا؛ كاللمس والسمع وتذكر الكلمات وغيرها. لذا فنحن علينا أن نُغيّر فكرتنا عن تسمية هذه الحواس المرتبطة بالدماغ، مثل ” هذا الجزء من الدماغ يستخدم للرؤية”.
لذا فأنت تقول إن الدماغ يجمع هذه المعلومات وبعدئذٍ يعيد تنظيمها؟
الأمر الساحر بشأن الدماغ هو أنه لا يهتم من أين تأتي هذه المعلومة، وهذا لأن جميع الأشياء داخل الدماغ تتمثل بشكل إشارات كهربائية صغيرة تدور في الأرجاء. وكل خلية عصبية في رأسك تومض من عشرة مرات إلى مئات المرات خلال الثانية الواحدة، ولا يستطيع الدماغ تمييز ما إذا كانت المعلومة صادرة من الفوتونات أو من موجات انضغاط الهواء التي التقطتها أُذُنك أو من خليط من الجزيئات التي اُلتُقِطَت من الأنف والفم. فإن الدماغ فقط يعرف كيفية إنشاء حلقات من ردود الفعل لإرسال الأوامر إلى العضلات التي تُغيّر المدخلات بطُرُقٍ معينة، وهذه الطريقة التي تتعلم بها أمورًا عن العالم.
لديك افتراضٌ مذهلٌ أن السبب في أننا نحلم هو حماية الصور البصرية لدينا. لذا فأنت تقول أننا قد نفقد قدرتنا على الرؤية إن لم نحلم؟
بالضبط، فنحن لدينا طاقة كهربائية كافية للإضاءة الآن، ولكننا لم نملك أيًا من هذا خلال زمن التطور.[2] كنت تعيش في ظلامٍ دامس، وحواس السمع واللمس لديك كانت سليمةً تمامًا حتى في الظلام، ولكن رؤيتك كانت مسلوبة. ونظرًا لسرعة الاستحواذ فإن هذا يعني أن الطبقة المرئية ستستحوذ بفعل قوة دوران الأرض فحسب. فقبل سنواتٍ عديدة، عملت مع طالبي دون فوجن على نموذجٍ يُظهر أن الأحلام هي وسيلة لحماية الطبقة المرئية والحفاظ عليها في كل ليلة. وهذا يحدث وفقًا لدورة عمل معينة، فبعد كل ٩٠ دقيقة تبدأ الخلايا العصبية المتواجدة في منتصف دماغك بالظهور لتنشط بعدها الطبقة المرئية لديك. إنه نشاطٌ عشوائيٌ تقريبًا، ولكن يبدو أنه مجرد تنشيط دفاعي كما لو أن هذه الخلايا العصبية تقول “حسنًا لقد حل الليل وأنت نائم، ولكن علينا أن نبقي هذا الشيء نشطًا حتى لا يستحوذ عليه جيرانه”.
هذه نظرة غير رومانسية أبدًا عن الأحلام! فبدلًا عن اعتبار الأحلام كنافذة مفتوحة نحو أرواحنا واللاوعي، فأنت تقول إنها موجودة فقط كي تبقي الطبقة المرئية نشطة؟
أحيانًا أتطَلَع أنا أيضًا إلى بعض الرومانسية، ولكن في الغالب أتشوّق إلى الحقيقة فقط. لقد نظرنا إلى ٢٥ فصيلة من الثدييات حيث كان هنالك معلوماتٌ عن مدى مرونة أدمغتها، وكم يحظون بحركة العين السريعة في الليل. وهناك ترابطٌ مثالي بين هذين الأمرَين، فحينما تنظر إلى مدى مرونة كل فصيلة وكمية أحلام النوم التي يحظون بها، ستجد أنه كلما زادت المرونة ستزيد حاجتك إلى نومِ حركةِ العين السريعة. وبالمناسبة، فإن نومَ حركةِ العين السريعة يحدث أكثر للرُّضّع لأنه في ذلك العمر تكون أدمغتهم مرنة للغاية وتحتاج إلى الدفاع عن الطبقة المرئية أكثر.
إذن، إن كان هنالك كوكبٌ آخر لا يدور كل يوم: من دون أن يكون نصف يومه غارقًا في ظلامٍ دامس، فإن المخلوقات التي تعيش على هذا الكوكب لن تحلم أبدًا؟
قد نُعد نحن الحالمون فصيلةً نادرة في الكون، فإذا كنت على كوكبٍ كان دائمًا يعيش في الضوء أو العكس كان غارقًا دومًا بالظلام، فلن تحتاج لأن تقلق بهذا الشأن أبدًا. وإن كنت تعيش على كوكبٍ يدور بسرعةٍ كافية لأن يتحوّل الظلام إلى ليل أو العكس خلال تسعين دقيقة فحسب؛ ماكنت لتحلم أنت أيضًا.
هنالك العديد من القصص الملفتة لأشخاص فقدوا نصف أدمغتهم، والسبب يعود إما لكونهم ولدوا بدونه أو أنه تم استئصاله جراحيًا. وعلى الرغم من هذا فإنهم يعيشون حياةً طبيعية، فكيف يُعقل هذا الأمر؟
طالما أن إزالة جزءٍ واحد من الدماغ قد حدثت قبل أن يصبح عمر المرء سبع سنواتٍ تقريبًا، فسيكون الطفل على ما يرام. لقد تحدثت مع العديد من الشباب الذين خضعوا لعملية استئصال الكرة المخية حينما كانوا أصغر سنًا، ويمكنني إخبارك بأنك لن تستطيع ملاحظة هذا الأمر ابدًا. باستثناء أن يكون لديهم عرجٌ خفيف في كثيرٍ من الأحيان في الجهة التي أزيل ذلك الجزء من الدماغ منها، ولكنهم من الناحية الإدراكية بخيرٍ تمامًا. وما نستطيع استنتاجه من هذا هو أنه حتى وإن اختفى نصف الدماغ، فلا يزال الجزء الآخر قادرًا على معرفة كيف يعمل.
هنالك أيضًا أمثلة مذهلة على مرونة الدماغ في عالم الحيوانات، فعلى سبيل المثال، توجد كلبة قد تعلمت السير على ساقيها الخلفيتين لأنها ولدت بدون ساقين أماميه.
الكلبة التي تُدعى “فايث” تستطيع المشي على ساقيها الخلفيتين تمامًا كالبشر. لماذا؟ السبب يعود لأنها بحاجة إلى الوصول إلى كلٍّ من طعامها ووالدتها، لذا فقد اكتشفت كيف تستطيع التحرك بجسد كلب لا يملك ساقين أماميتين. وهذا يخبرنا أن أدمغة الكلاب ليست مبرمجةً وراثيًا لتعليم الكلاب طريقة المشي، فيمكنهم المشي بالطريقة الأنسب لهم. وحينما تنظر خلال المملكة الحيوانية ستجد مجموعةً متنوعة ومثيرة للدهشة من أنواع الأجساد، وأطوال العظام، والجهاز العضلي، والأجنحة، والمخالب، والحناجر. والطبيعة الأم ليست بحاجةٍ إلى إعادة تصميم الدماغ في كل مرة، فعلى العكس من ذلك جُل ما عليها فعله هو العبث ببعض المواد الوراثية؛ فإذا قمت بتشغيل المادة الوراثية لمدة أطول أو أقصر مما كان عليها أن تستمر، ستحصل على خطط لنوع جسدٍ مختلف تمامًا.
كيف يمكن لأدمغة البشر أن تتشكل مجددًا للتعويض عن حاسةٍ مفقودة؟
هذا السؤال هو ما جعلني مهتمًا جدًا بفكرة ما إن كنا قادرين على إضافة حواس جديدة للبشر. أتستطيع أن تُغذّي نوعًا من تيارات المعلومات التي يحصل الدماغ منها على معلوماتٍ جديدة بشأن أمرٍ مفيد في العالم؟ فإن هذا ما يُدعى بالاستبدال الحسي. وقد بدأنا بالقيام بهذه التجربة مع أشخاصٍ صُمٍّ في مختبري، صممنا سترةً مغطاة بمحركاتٍ اهتزازية كالهزاز الموجود في هاتفك الخلوي. وتلتقط هذه السترة الأصوات لتحولها إلى أنماطٍ من الاهتزازات. وتتراوح المحركات من محركات ذات تردد منخفض إلى تلك ذوات التردد العالي، وهو الترتيب ذاته الموجود في أذنك الداخلية، لذلك فنحن نأخذ ما يوجد في أذُنك الداخلية لننقله على جلد الجسم. وقد اتضح أنه يمكن للصُم فهم ما يحدث في العالم السمعي من خلال حصولهم على المعلومات التي توفرها أنماط الاهتزازات على جلدهم. فأنت لن تستخدم جلدك في أي شيء، ولكن هذه المادة الحاسوبية هي التي تمكنك من إرسال العديد من المعلومات من خلالها فقط.
لماذا تُعد الجلود جيدةً جدًا في المعالجة؟
لأنها صُممت لتكون ذات استشعارٍ عالٍ جدًا في حال هبطت عليك ذبابةٌ ما أو إن كان هنالك شيءٌ ما يزحف عليك، إضافةً إلى كونها تملك سعةً نطاقية ممتازة مما يسمح لك بنقل العديد من المعلومات من خلالها. ويعمل الجميع على معرفة كيفية نقل معلوماتٍ أكثر إلى عينيّ الشخص من خلال استخدام نظارات تحمل شاشات تتبع أو من خلال ارتداء سماعة صغيرة لنقل معلومات إضافية مثلًا. ولكنك تحتاج إلى كُلٍ من عينيك وأُذُنيك لأشياءَ أُخرى، وجِلدك هو القناة المتاحة لهذا كُليًا.
إنه لشيءٌ جميل أن يملك شخصٌ أصم هذا النوع من الأجهزة، ولكن سيكون هنالك العديد من الاحتمالات لتعزيز تجربتنا الحسية أيضًا.. حتى وإن كنا نملك حواسَّ ممتازة جدًا فلا يزال هنالك فرصة لأن تكون حواسنا أفضل، أو مختلفةً أكثر.
الشيء الآخر الذي أصبحت مهتمًا بشأنه هو التوسع الحسي، فهل يمكنك أن توسع ما تراه من خلال الأشعة تحت الحمراء أو الأشعة فوق البنفسجية؟ في أول ليلةٍ قام أحد منهدسيّ بربطي بسوار الأشعة تحت الحمراء، وكنت أتجوّل في الأرجاء بين منزلين بينما كان الظلام دامسًا وفجأةً شعرت بوخزاتٍ تشبه الطنين على معصمي. فأخذت أفكر ما كان هذا؟ لماذا أشعر بهذه الأشعة؟ لذا قمت بتتبع معصمي مباشرةً إلى إحدى كاميرات المراقبة الليلية، والتي كانت محاطةً تمامًا بالأشعة تحت الحمراء؛ والتي تكون عادةً غير مرئيةٍ تمامًا بالنسبة لنا. ولكن يمكنك أن تسير بجانب سيارةٍ ما وأن تعرف أنها توقفت الآن فحسب والسبب أن المحرك مازال ساخنًا، تتوالى إليك جميع هذه المعلومات بشأن الحرارة من العالم، وهذا شيءٌ جديدٌ ومذهل نستفيد منه.
وما بعد التوسع الحسي، ماذا لو أضفنا حاسةً جديدةً تمامًا؟ ماذا لو كان بإمكانك أن تشعر بتجربة إدراكية مباشرة لسوق الأسهم أو بينات موقع تويتر أو الطائرة بدون طيار التي تحلق بها لذا فيصبح بإمكانك الشعور بالرمي على جلدك وكذلك الانحراف والالتفاف وحتى التوجيه؟ لو أصبحت تشعر كما لو أنك مددت جلدك وصولًا إلى الطائرة بدون الطيار في السماء.. نحن نملك الآن العديد من التجارب القائمة حيث نتقصى فيها ما يحدث في حال كان لديك حاسة جديدة تمامًا. أيمكن لدماغك أن يملك تجربةً جديدة بهذا الشأن؟
هل تعتقد أننا سنتمكن يومًا من رسم خريطة تحمل جميع الاتصالات العصبية في دماغ شخصٍ ما وأن نعرف أي نوعٍ من الأشخاص هو ذلك الشخص؟
ربما، ولكن من المحال أن يحدث هذا في وقتنا الحالي، سواءً من الناحية الجيدة أو السيئة. ولكن من الناحية النظرية فإن جميع التجارب التي قد خُضتَها تُرسم في خريطة وتُخزّن داخل دماغك، وهذه ليست فقط قوة الاتصالات بين الخلايا العصبية، فهي تصبح أعمق من ذلك بكثير داخل الخلايا؛ فمن التوزيع الدقيق للقنوات والتسلسلات الكيميائية الحيوية الدقيقة وحتى نواة الخلية التي تتشكل فيها المواد الوراثية. فجميع هذه الأشياء تمثل تاريخك في العالم.. ونظريًا فربما سنتمكن من قراءة عقل شخصٍ ما بعد ٣٠٠ سنة.
هنالك رد فعل عكسي لفكرة أن كل الأشياء في العقل تُختزل لعلم الدماغ، وأطلق بعض الأشخاص على هذا الأمر مسمى “نيورومانيا” أو حتى “نيوروتراش”. فما هو رأيك اتجاه هذا النقد؟
هذا النقد ليس له أساس من الصحة على الاطلاق، وهنالك عدد لا بأس به من النواقل العصبية “النيوروتراش”. وكما تعلم، حينما يقوم شخصٌ ما بإجراء دراسة تصويرية ويقول “انظروا فقد أضاءت هذه الفقاعات الثلاثة، لذلك نحن وجدنا الأساس العصبي للامتنان أو للكرم مثلًا” فهذا لا يُعد علمًا سليمًا. لذا فإن هنالك عددًا لا بأس به من النواقل العصبية حولنا، ولكن لا يوجد أية شكوك حول فكرة أنك أنت من تشكل عقلك؛ فكل الأشياء التي تحدث في حياتك مخزنة في داخل عقلك إضافةً إلى تاريخك وما أصبحت أنت عليه وما قد رأيته في حياتك.
وإليك بمثال، كان هنالك موجوعةٌ من الأشخاص المصابين بمرض الشلل الارتعاشي والذين تحولوا إلى مقامرين مدمنين، واستغرق الأمر بعض الأطباء الأذكياء ليدركوا أن ذلك كان بسبب الأدوية التي كانوا يتناولونها. فقد رفع الدواء مستوى الدوبامين مما ساعد مشاكل الحركة لديهم، ولكنه حَوَلهم في ذات الوقت إلى مقامرين مدمنين أيضًا. فحينما تُعدّل على النواقل العصبية لديك فهي تُغيّر طريقة تصرفك ومتسويات كرهك للمخاطرة، لذا فإنهم ليسوا هم من اختاروا أن يصبحوا مقامرين، ولكن حينما يتغيّر عقلك فأنت تتغيّر أيضًا.
ولكن إن اتّبعت هذا المنطق فسيبدو الأمر كما لو أنه يجعل العديد من الأسئلة الفلسفية القديمة ليست ذات صلة، كالإرادة الحُرة أو أُصُول التجربة الروحية أو طبيعة الذات.. إنها فقط مجموعةٌ من الخلايا العصبية التي تُطلق في داخل الدماغ.
أعتقد أن هنالك خيارًا ثالثًا يجعلنا نتمكن من فهم هذه الأمور دون أن نقول إنها مجرد مجموعةٍ من الخلايا العصبية.. فكل خلية موجودة في دماغك يكون تعقيدها كتعقيد ولاية ويسكونسن. وكل خلية في دماغك تملك الشريط الوراثي للبشر في داخلها، وهي تنقل ملايين البروتينات في تسلسلاتٍ كيميائية حيوية معقدة للغاية. وكل خلية عصبية في رأسك معقدة جدًا وأنت بالفعل تملك ٨٦ مليار خليةٍ منها.. لذا فحينما تقول إنك مجرد مجموعةٍ من الخلايا العصبية فقط، فنحن بهذا نُسدل الستار على كل هذه الأمور؛ وأنت في الواقع تُعد كونًا بأكمله حينما نتحدث عن الحياة الموجودة بداخلك.
ولكن هل جميع تلك التجارب الذاتية هي اختزال لوظائف الدماغ؟
بالطبع، فيمكنك أن تتعاطى المخدرات وبالتالي ستعيش تجارب مختلفةً تمامًا، أو يمكن أن تكون مصابًا بالهلوسة وهذا يعود إلى إصابتك بتلفٍ في الدماغ. فنحن على يقين بأن هذا له علاقة بالدماغ، ولكننا لا نملك نظرية عظيمة عن ماهية التجربة الواعية؛ مثل رائحة القرفة بالنسبة لك أو جمال منظر غروب الشمس.
فيبدو أن الوعي ينبع من الدماغ، ولكن ما يزال هناك احتمالية لوجود أمرٍ آخر، وقد ذكرت هذا الأمر في كتابي ‘Incognito’.[3] تخيّل أنك بوشمان من صحراء كالاهاري وقد وجدت مذياعًا في وسط تلك الصحراء، وبالطبع فأنت لم ترَ شيئًا مثل هذا من قبل قط. وبعدها لاحظت أنه حينما تهتز العصا أعلاه تبدأ بسماع أصواتٍ قادمة من هذا المذياع، وإذا قمت بتحريك أحد المسامير خلف هذا المذياع ستُلاحظ أن الأصوات تشوشت فجأة، وبالطبع ستدرك هذا حينما تغيّر أيًا من الأسلاك. وبما أنه مذياعٌ ماديّ، فقد تستنتج أن هذا الترتيب المعيّن للأسلاك هو ما يسبب الأصوات، ولكنك لن تدرك حتى أن هنالك مُدنًا بعيدة تملك أبراجًا للراديو؛ سبب ذلك أنه ليس لديك أية طريقةٍ لتشعر بتلك الإشعاعات الكهرومغناطيسية أو أن تلمسها أو أن تشك بوجودها حتى، ولكن الأصوات مازالت تأتي من هناك.
لذا فربما ليس كل شيءٍ ينبع من الدماغ، ونحن قد نتناغم مع وعينا في مكانٍ آخر.
لا أقترح هذه الحالة، ولكن ما أقوله هو أن هنالك احتمالية في علم الأعصاب وعلينا أن نضعها في الحسبان.
إن كان هنالك سؤالٌ واحد لم يُجب عنه بشأن الدماغ، ولكنك تتوق لمعرفة إجابته، ماذا سيكون هذا السؤال؟
سيكون هذا السؤال المتعلق بالوعي بصورةٍ أساسية، لماذا نشعر بشعورٍ ما لمجرد كوننا أحياء؟ يمكننا أن نشيّد آلاتٍ متطورة للغاية، ولكنني لا أشك بأن جهاز الكومبيوتر المحمول الخاص بي يملك تجربةً ذاتية داخلية.. وعلى الرغم من هذا نستطيع القول بأننا نملك هذه التجربة نوعًا ما، وهذا يُعد صحيحًا حينما يكون مَصب اهتمامنا ما يعنيه أن تكون إنسانًا. فالأمر لا يتوقف على كوننا لا نملك نظريةً جيدة تخص هذا الشأن، بل إننا لا نعرف حتى كيف ستبدو عليه النظرية الجيدة.
- ستيف بوسلون: هو المنتج التنفيذي لبرنامج ‘To the Best of Our Knowledge’، برنامجٌ يذُاع على الإذاعة العامة لولاية ويسكونسن، وهو مؤلف كتاب ‘Atoms and Eden: Conversations on Religion and Science’.
[1] – الكلمة مكونة من مقطعين: live والذي يعني حي، والثاني wire(d) والذي يشير إلى الوصلات العصبية في الدماغ، والمعنى المقصود أن الدماغ حي ونشط وديناميكي، وليس ثابتًا. -الإشراف.
[2] – هذه وجهة نظر الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع. -الإشراف.
[3] – للمزيد حول هذه النقطة انظر المقالات المنشورة تحت وسم الوعي. -الإشراف.