- لويس ميماند
- ترجمة: الجوهرة العجاجي
- تحرير: آية بنت محمد الطنطاوي
هل لا زالت القدرة على حفظ الكثير من المعلومات أمرًا مُدهشًا؟
هل هناك ما يستدعي الحفظ من الأساس؟
إنَّ قُدرتكَ الخارقة في حفظِ الكثير من المعلومات قد لا تجعلك ضمن قائمة أصحاب المظهر المثير والجذاب، بل قد تكون ضمن قائمة العباقرة غريبِي الطِباع، أو ممن تطغى عليهم شِيم الذكاء الخارقة.
لكن الناس تشدهم قدرة البعض على سرد أسماء العواصم، أو تسميع الجدول الدوري للكيمياء، إنَّ الأمر أشبه بالتميُز في احترافِ القفز في كرة السلة، أو القدرة على عزف البيانو باستخدام عضو آخر، كالأذن مثلًا؛ مما يَعني القدرة على فعل شيء لا يستطيع فعله الشخص العادي.
هذا الاستعراض الفوقي للمهارات الذي ليس بالضرورة يتضمن إساءة لأحدٍ بعينهِ، لكنه يمنح المشاركين فيه شكلًا من أشكال التميُز والاستعلاء.
بالطبع لا يوجد طرق بديلة لاحتراف القفز في كرة السلة، لكنها ستظل موهبة قوية تستحق الإشادة، لكن ما الفائدة التي تعود علينا من حفظ عواصم البلاد، أو معرفة العدد الذري لمركب الهافنيوم؟
في حين أنَ أيًّا من تطبيقات المساعدة الذكية كـ (سِيرِي) على سبيلِ المثال، بإمكانها توفير المعلومة التي تبحث عنها في أقل من ثانية، يأخذنا هذا إلى تخيل مشهد معًا في عصر قبل العصر الرقمي؛ لنتخيل في حين أنت مستمتع بالجلوس مع أصدقاءك، ثم يبدأ النقاش بسؤال متى صدر كتاب (فينومينولوجيا الروح) لهيجل؟ فإن لم يكن بحوزتك كتاب موسوعة المعارف، فقد تضطر إلى زيارة قصيرة لأقرب مكتبة، والحصول على نسخة من كتاب (فينومينولوجيا الروح)، والذي قد تكون النسخة المتوفرة منه مسحوبة أصلًا، وربما قد تلجأ لطريقة بدائية جدًا كأن تتصل بقارئ نَهِم لكتب هيجل مثلًا لتحصل على سنة إصدار الكتاب! [وهو أمر نادر على كل حال]؛ أو أن تبحث على هاتفك الذكي لتعرف سنة الإصدار وهي ( 1807 كما ظهرت لي الآن) في أقل من ثانية.
إن معرفة الأسماء والتواريخ هي أقل ما قد تمنحه لك هذه الخدمة الذكية، فلنفترض على سبيل المثال أن لديك صديقًا أساء استخدام مصطلح “دهاء العقل” لهيجل وهو أمر مستفز بالنسبة لك؛ حتى وإنْ كنتُ ثملًا حينها فلن تكون مضطرًا إلى أن تكون في كاملِ إِفاقتك لتصويب خطأ ذلك الشخص، بل قد تسرد لك (سِيرِي) قائمة بمواقع على الإنترنت تشرح لك ذلك المصطلح، وأنت تحتسي زجاجة أخرى من النبيذ، وفي حالة أن مسار النقاش اتخذ شكلًا أكثر جدية فبِاستطاعتك البحث عن جميع بحوث هيجل على الإنترنت.
وبالطبع هناك الكثير من المعلومات الفورية المتوفرة على الإنترنت كطريقة شوي الذُّرة، أو تَسليكْ سَدادة حوض الاستحمام، وبالمجان دون الحاجة إلى دفع تكلفة عامل السباكة.
دعونا نؤجل الحديث لبعض الوقت عن مزايا هذه الحقيقة الرهيبة، والتأثير الخيالي للشبكة العنكبوتية، ونستطرد أكثرإلى الحديث عن الإنجاز العظيم الذي خَلَفَه هذا الاختراع، في أقل من عشرين سنة مَضتْ، أصبح الوصول إلى كَمْ هائل من المعرفة أمرًا سهلًا لكل أحد لديه جهاز متصل بالشبكة العنكبوتية، بل تتفوق محركات البحث بسرعتها على سرعة الدماغ، وتظهر نتائج أكثر دقة، وأيضًا يوجد الكثير من المعلومات المغلوطة بطبيعة الحال مثلما أننا نحتفظ بمعلومات مغلوطة أيضًا، والدليل أنني لقدْ ذكرتُ آنفًا العدد الذري لمركب الهافنيوم، فهل باستطاعتك أن تتذكر الرقم بدقة؟!
إِن التغيير الجذري الذي أحدثته تقنية المعرفة الفورية هي التفاوت في المحتوى، فلمْ يَعُدْ هناك احتكار للمعرفة فبعد أن كانت بعض المعارف يمتلكهَا المختصُون، اليوم أصبحت في متناول الجميع، فبإمكانك الحصول على كتاب (مكر المنطق) بنفس السهولة التي تحصل فيها على تاريخ نشر الكتاب، أو البحث عن طريقة شوي الذُّرَة.
فَلمْ تَعُدْ المعرفة مقصورة على فئة معينة من الناس، بل الجميع أصبح من الخواص الآن، فهل هذا أمر يدعو للقلق؟، هل غَيَّرَ هذا من القيمة الاقتصادية والمجتمعية للمعرفة؟، هل تسبب هذا في الاستغناء عن العلماء وأصحاب المهن الحرفية وجعل الخبرة شيئًا من الماضي؟
كل هذه الأسئلة تأخذنا إلى بداية ظهور الإنترنت كان هذا النوع من الأسئلة متمحور حول (الويكيبيديا)، سيكمُل الموقع عامه العشرين في 15 من يناير، وستُنشر عدد من مقالات العلماء كنوع من التكريم تحت عنوان (الويكيبيديا)، وعشرون قصة من ثورة غير مكتملة.
استطلع المؤلفون الكثير من جوانب عالم (الويكيبيديا) والتي لم تكُن تخلو من النقد دائمًا، لكنهم أجمعوا على أن (الويكيبيديا) هي من أقوى المشاريع الناجحة في عصر الإنترنت، هذا المشروع القائم على مبدأ بسيط جدًا “بإمكان أي شخص التعديل على المنشور”، مِمَا عَززَ مفهوم الأمانة العلمية إلى حدٍ ما، وجعلها مصدرًا للمعلومة المُحدثة، وقابلة للتوسع والاستفاضة بشكل لامحدود، بما في ذلك الارتباطات التشعبية والمصادر الإضافية المتعددة، كتب أندرو لي مادحًا عن تاريخ (الويكيبيديا) مقالًا نُشِرَ في عام 2009 تحت عنوان “ثورة الويكيبيديا: كيف استطاع مجموعة من المجهولين تكوين أكبر موسوعة في العالم”.
انطلق موقع (الويكيبيديا) بسرعة فائقة، ونُشِرَ فيه ألف مقالة خلال شهر واحد، وهو رقم يستحيل تحقيقه ضمن أدوات التحرير الصحفية التقليدية، لاحقًا حققت ما يُقارب مئتي ألف مقالة مِمَا جعلها تجتاز الموسوعات التقليدية بمراحل، ولدى موقع (الويكيبيديا) اليوم -وفقًا للويكيبيديا- أكثر من خمس وخمسين مليون مقالة مكتوبة بمائة وثلاث عشرة لغةً، وفي عام 2020 أصبحت (الويكيبيديا) ثاني أكثر المواقع زيارة بعد (اليوتيوب) في الولايات المتحدة بمعدل 1.03 مليون زيارة شهريًا-، وبفارق أكثر من400 مليون زيارة عن موقع (تويتر) الذي يحتل المرتبة الثالثة في معدل الزيارات.
أيضًا كان أول إصدار لموسوعة (بريتانيكا) في عام ،1768 وكانت تمثل لقرون عديدة المعيار الأول في هذا التصنيف ولديها 65 ألف مقالة في طبعتها الأخيرة، ومنذ عام 2012 أصبحت إصداراتها الجديدة متاحة فقط عبر الإنترنت في حين إنها حاليًا تحتل المرتبة الأربعين في معدل الزيارات الشهرية بمعدل 32 مليون زيارة.
في البداية كانت فكرة إنشاء مقالة موثوقة عن هيجل والتي لم تُكتَب أو تُحرَر عن طريق شخص موثوق، هي فكرة قابلة للتشكيك في مصداقيتها، كما يتعامل المعلمون مع (الويكيبيديا) كدليل تعليمي كموقع (Sparknote)، وأيضًا كمصدر سهل لحل الواجبات لبعض الدارسين، ومزيج بين محبي التفاهة والعصاميين، لكن نقطة التحول كانت عندما نشرت مجلة (Nature) في عام 2005 دراسة أجراها أكاديميون تهدف إلى مقارنة اثنان وأربعين مقالة علمية أخذَت من (الويكيبيديا) ومن (الموسوعة الحرة)، ووجدوا أن معدل الأخطاء في (الويكيبيديا) يُعَادِل أربعة أخطاء مقابل ثلاثة في (الموسوعة الحرة).
واستخلصوا أن (الويكيبيديا) مُقارِب جدًا إلى (الموسوعة الحرة) فيما يخص تحري الدقة في المُدخلات العلمية، ومنذ ذلك الحين أصبحت (الويكيبيديا) وِجهَة مُعتمدة من قِبَلِ المُعلمين.
وقد يكون السر وراء تمسك بعض المتواجدين في الإعلام الرقمي بـ (الويكيبيديا)؛ هو أنه لا زال يحتفظ بروح البدايات المبكرة لعصر الإنترنت التي كانت تُعرَف بروح الجماعة للمخترقين، والتي تعتمد على تطوير مصادر البرمجيات المفتوحة والمجانية، وتتيح لأي أحد صلاحية الدخول والتحكم، ويَعُدُ هذا النوع من المصادر المفتوح مدعومًا من نظام التشغيل(Linux) ، والذي تم إصداره عام 1991، والكثير من البرمجيات نشأت في ذلك الوقت في ظل تلك الروح الجماعية التي كانت حينها مُتصدِرَة، وكانت تبدو الرؤية نقية بوضوح فكانت تسير على نهج تصاعدي دون أن يتبناها رئيس أو أن يكون لها حوافز مادية، فيما عدا شعور الإنجاز للمشاركة في إثراء محتوى مفيد.
وإلى اليوم لا أحد يتلقى أجرًا من (الويكيبيديا)، ويُمكن لأي أحد أن يُحَرِر المدخلات وفق اشتراطات محدودة (إذا تجاوزنا أدوات التحرير التي أُضِيفَت مؤخرًا).
في سوق (الويكيبيديا) جميع الحقوق غير محفوظة ومشاعة للاستخدام، بمعنى أنه للجميع الحقوق في نشرها وتوزيعها والتعديل عليها دون إذن أحد، ولا أحد يستطيع ادعاء حقوق الملكية، فلا يوجد قيود صارمة وفورية لإنشاء أو تحرير المقالات في (الويكيبيديا)؛ مِمَا ساهم في زيادة فئة المخترقين، الذين هم الغالب يتحسسون مِمَن يُملِي عليهم المهام، وفي الوقت نفسه لديهم اهتمامات في تطوير المواقع.
كتب (لاري سانجر) شريك (جيمي ويلز) المؤسس للويكيبيديا في بداية تأسيس الموقع: “إذا كنت من الذين يصابون بالتوتر من القيود والقوانين فمن الأفضل أن تتجاهل الأمر وتمضي إلى شأنك”.
تَعُدُ (الويكيبيديا) من المواقع القليلة المعروفة غير الربحية، وبصفحات غير مخصصة، ولا شيء يخضع للرسوم أو حتى لتسجيل الدخول، علمًا بأنه تظهر أحيانًا رسائل منبثقة تدعو للمساهمة في التبرع – ففي عامي 2017، 2018 وصلت قيمة التبرعات لقرابة مائة مليون دولار لصالح مؤسسة الويكيبيديا غير الربحية-، لكن رغم ذلك لا أحد يبيع لك شيئًا على (الويكيبيديا)، وكل من أراد البحث عن بيير أو عن ولاية داكوتا الجنوبية فإنه فستظهر له نفس الصفحة التي تظهر للجميع، ولا توجد عناوين خاطفة تستقطب فئات معينة، ولا إعلانات تروج لتسليك البواليع، أو لكتب الفلاسفة الألمان.
بالطبع لدى (الويكيبيديا) بعض المبادئ الأساسية التي تفرضها على المشاركين، ومنها: المحافظة على تبني وجهة نظر حيادية، كل ما يُنشر يجب أن يكون قابلًا للتحقق، ويُستحسن أن يكون مُذيلًا باقتباسات، وقد يكون هذا سر نجاح (الويكيبيديا) ووقوفه مع العلماء؛ أنه لا يسمح بنشر البحوث بنسختها الأصلية، مما يعني أن (الويكيبيديا) في مضمونها عبارة عن ملف تجميعات لمعلومات موجودة في الأصل لكن يتم جمعها عادةً من خلال مصادر مرتبطة، لكن دون أن يتم الحكم عليها أو تحليلها أو وضعها ضمن سياقات محددة.
على عكس ما يتم تطبيقه على البحوث العلمية فجميع المصادر تخضع إلى تقييم مُتكامل، وإلى مراجعة من قِبَل لجان علمية، ولايتم تجاهل الإشارة لأي مصدر سواء كان من المجلات أو من المدونات، إضافةً إلى أن جودة الكتابة للمقالات في (الويكيبيديا) لا تَعير أهمية للأسلوب الفني المُسلي للقراءة.
ومن ثَمّ هناك بعض الاشتراطات القليلة عند إنشاء الصفحات، فالمعايير هناك وُضعت في أدنى مستوياتها، بالطبع لا يمكنك إضافة وصفة جدتك الخاصة لصنع البط بالبرتقال، ولكنك ستجد مقالات يتحدث عنها، فهناك 472 محطة مترو أنفاق في مدينة نيويورك، ولكل محطة لها صفحة خاصة على (الويكيبيديا)، وهناك الكثير من المقالات المنشورة أشبه بمكب نفايات للروابط ولبعض الحقائق والمعلومات، ومع ذلك فإن هذا ما يجعل الكثير من المعلمين والعلماء لازالوا على صلة وثيقة بالموقع، فليست المعرفة وحدها هي البيانات، بل هو ما تستطيع فعله بهذه البيانات، فعند البحث على سبيل المثال على كتاب (دهاء العقل) فستحصل على معلومات مرتبطة بهيجل أيضًا.
ماذا عن الأشخاص الذين يستطيعون تسميع الجدول الدوري، أو الذين يحفظون المئات من القصائد، أو الذين يُكررون أسماء عواصم الولايات بسرعة شديدة؟، هل مازالت الذاكرة قوية بتلك الأهمية؟، ربما نجد الإجابة لدى أشهر برنامج مسابقات تلفزيوني جيوباردي “Jeopardy”، وهو الأكثر مشاهدة في الأسابيع الأولى من عام 2020 ، وهو مبني على قدرات البشر الخارقة في حفظ المعلومات، والتي تكاد تكون فكرة مُقنعة بأن تحصل على لقب مهووس بحفظ المعلومات.
إن برنامج ”Jeopardy” والذي يقدمه (أليكس تريبيك)، وتُوفِيَ تقريبًا في سن الثمانين عامًا، لكن البرنامج أقدم منه بكثير، كان أول عرض لهذا البرنامج في عام 1964، وكان يقدمه آنذاك (آرت فليمنغ)، واستمر حتى عام 1975، ويَعُدُ هذا النوع من البرامج -أي برامج المسابقات- من أقدم أنواع البرامج التي عُرِضَت على التلفاز كغيرها من أوائل البرامج، مثل برنامح الصابون والأوبرا، ونشرات الأخبار، والعروض المنوعة، وبرامح الألعاب التي تذاع من خلال الراديو، وتَعُدُ قنوات البث المحلية الثلاث CBS, ABC, NBC قنوات إذاعية في بداية نشأتها، وهذا النوع من القنوات مألوف لدى المبرمجين، وحظيت البرامج التي على شاكلة برنامج “Jeopardy” بشعبية واسعة في بدايات عرضها، ولا زالت حتى يومنا هذا.
في عام 1955 في الموسم الـ 52 لهذا البرنامج ارتفعت أعداد المشاهدة بسبب طرح سؤال بقيمة “64.000 دولار” والذي يُؤهل المتسابقين لفرصة الفوز عند الإجابة على أسئلة من فئات متعددة، بعد ذلك اهتزت سمعة برامج المسابقات، على خلفية فضيحة أحد المتسابقين، وهو (تشارلز فان دورين)، والذي سبق له المشاركة في برنامج آخر يدعى (Twenty-One)، وكان قد حظي ذلك المتسابق بشعبية بالغة، وتصدر صورة غلاف مجلة الـ (TIME)، وأُشِيعَ بأنه على علمٍ مُسبقٍ بالإجابات على كامل أسئلة المسابقة، وتَبيَنَ بعد ذلك أن أغلب برامج المسابقات كانت مسابقات وهمية، وتم تَلقِي الخبر على أنه فضيحة، وأُقِيمَت على أثرهِ جلسات استماع في الكونجرس، وتم تعديل قانون الاتصالات، وإضافة فقرة “المساعدة السرية” في برامج المسابقات، وأُدرِجَت ضمن الجرائم الفيدرالية.
إِذن لِمنْ تَصبُ المصلحة في هذه المسابقة؟، الجواب في الغالب تصبُ في مصلحة القنوات، وذلك حين يتقدم المتسابق على خط متسارع بين المراحل فإن أعداد المشاهدة تتزايد، وبذلك ينضمُ الكثيرون للمشاهدة كل أسبوع، ليروا إذ كان المتسابق سيصمدُ إلى النهاية أم لا، فَفي الخمسينات الميلادية لم يكن هناك سوى ثلاث برامج متاحة للمشاهدة في فترة وجيزة، ولذلك كانت أعداد المشاهدين هائلة، ووصلت أعداد المشاهدة في سؤال “64.000 دولار” إلى 55 مليون مشاهدة بما يُقارب ثلث السكان، وهو يُعَادِل نسبة الحضور لكأس “السوبر بول” كل أسبوع، فبلا شك أن المبلغ الذي تحقق من وراء (فان دورين) كان ضخمًا.