- نعومي أوريسكس
- ترجمة: ندى الهذلول
- تحرير: سهام سايح
السابع والعشرون من يناير عام 1985، الذكرى الأربعون لتحرير مخيمات الاعتقال النازيّة، حيث ظهر الناجون من تجارب جوزيف منغيل على التوائم، حاملين الشموع، ووجوههم وأجسادهم مشوهة، ليبدأو حملة يناشدون فيها حكومات العالم بالقبض على رجل يدعى “ملك الموت”.
تدرب جوزيف منغيل على يد مناصر لأدولف هتلر، وكانت مواده المفضلة في الجامعة الطب وعلم الحيوان والفيزياء والفلسفة والعلوم الإنسانية، كما حصل على شهادة دكتوراه من جامعة ميونخ. وأصبح مسؤولاً عن تقرير من سيظل يعمل في المخيم ومن سيرسل إلى حجر الغاز في مدينة أوشفيتز. في مارس عام 1943، وفي هذه الأثناء أجرى في معمله تجارب على البشر لم يسبق لها مثيل في وحشيتها، وارتكب أبشع جرائم حرب في التاريخ. كانت تجاربه موجعة -حيث كان نادرًا ما يستخدم التخدير في البتر والبزل القطني وحقن التيفوس- كما أنّه كان يلوث جروح التوائم ليقارن بين ردات فعلهم. ويُزعم بأنّه قد قام بتشريح طفل عمره سنة وهو على قيد الحياة، وقام في إحدى تجاربه بحقن ستة وثلاثين طفلًا بأصباغ ملونة مختلفة لمعرفة ما إذا كان بإمكانه تغيير لون أعينهم؛ أصيب العديد منهم بالعمى فسممهم بالغاز بما أنّهم أصبحوا عديمي الفائدة بالنسبة له. وذكر طبيب يهودي كان سجينًا عنده بأنّه رأى مرة عينات من الأعين على طاولة: “كانت الأعين مرقمة ومصنّفة، كانت ألوانها صفراء باهتة إلى زرقاء زاهية وخضراء وبنفسجية”. كما ذكر شاهد آخر بأنه رأى جدارًا مغطى بالكامل بالعيون البشرية “كانت معلقة على الجدار وكأنها لوحة ما، ظننت بأني ميت وأنني بالفعل في الجحيم!”.
إنّ ما ألهم منغيل للقيام بهذه التجارب هو الحسُّ الأخلاقي الذي دفع الناس منذ قرون إلى السعي للحصول على النّسل الأفضل صحة؛ فقد كان البالغون في اسبرطة يفحصون حديثي الولادة للتأكد من عيش الطفل القوي فقط بينما يتركون الطفل الضعيف ليموت، ونص القانون الروماني على إعدام الأطفال المشوهين. ربما كانت أوشفيتز من أسوء الأمثلة الحديثة في ذاكرة العامة، ولكنها لم تكن البداية.
أصبح علم تحسين النّسل (اليوجينيا) حركة عالمية في بداية النصف الأول من القرن العشرين، حيث تأسست الجمعية الفرنسية لعلم تحسين النّسل عام 1912 بهدف البحث عن “علم مفيد لاستنساخ الجينات البشرية والمحافظة عليها وتعزيزها” ودراسة ” القضايا التي تأثر في الوضع الاقتصادي والقانوني والعُرفي على قيم الأجيال المتعاقبة وقدراتهم الجسدية والفكرية والأخلاقية”. وتأسست الجمعية اليابانية الكبرى لعلم تحسين النّسل عام 1917، وأصدر البرلمان الياباني عام 1940 برنامج علم تحسين النّسل؛ ولدى العديد من دول أمريكا اللاتينية أيضًا جمعيات مخصصة لدراسة علم النّسل.
ألصق علماء تحسين النّسل في أمريكا نزعات فطرية مزعجة لفئة معينة من السكان (مثل: الإيطاليون عنيفون، واليهود لصوص)، كما استنكروا أيضًا بيان المساواة الأمريكي واعتبروه خرافة، وكتب عنه ألفريد شولتز في كتابه “أصيل النسب أم الهجين” عام 1908، وقال: “الاعتراض الوحيد على البيان هو أنه لا يحتوي على ذرة واحدة من الحقيقة”. أصدرت اثنان وثلاثون ولاية مابين عام 1907 و1937 قوانين تنصُ على التعقيم الإجباري، وتحتوي العديد من الكتب التعليمية والقانونية فصولًا عن علم تحسين النّسل، وكذلك الكثير من كتب الجامعة والمدرسة الثانوية. ووفقًا لعميد كلية الطب بجامعة فيرجينيا “فإنّه يجب أن تتضمن المناهج الطبية المستقبلية مقررات تعليمية في علم تحسين النّسل الدقيق”.
لِمَ علينا أن نثق بالعلم؟
قد يجيب البعض: “لأنّه فعاّل”، ولكن تفتقر هذه الإجابة الشائعة إلى بعض الاعتبارات المهمة؛ على سبيل المثال استطاع مُربُّو الحيوانات تسمية وملاحظة صفات وخواص الكلاب والأحصنة قبل أن يفهم العلماء عملية الصفات الوراثية. ويذكرنا مؤرخ العلوم ألبرتو مارتينيز في القرن الثامن عشر في كتابه “أسرار العلوم” أن المجربين أمتعوا العامة وحيروهم بعروض الكهرباء الساكنة، كما قام المهندسون باستخدام الكهرباء لصنع الأجهزة، بالرغم من أنهم بالكاد يعرفون ماهيتها وكيفية عملها. وفي عام 2017 نشر باحثون استراليون دراسة تبيِّن أن صقور النار تحمل عصيان مشتعلة لنشر النار في الغابات كما لاحظ السكان الأصليون بالضبط، على الرغم من شكوك العلماء التي دارت حول أقوالهم في السابق؛ فمن الواضح أنه بإمكاننا الحصول على معلومات مفيدة و موثوقة دون الحاجة إلى العلم.
إذًا لِمَ علينا أن نثق بالعلم؟ كما تحاج نعومي أوريسكس أنّه بشكل عام عندما يتوصل العلماء إلى إجماع فإنه يكون مدعومًا بالأدلة؛ وهي متوقعة اعتراض الذين يشيرون إلى علم تحسين النّسل كمثال مضاد، وتضيف بأن علم تحسين النّسل مشابه لتصوير نظرية الطاقة المحدودة وتبريرها (والتي اعتزمت منع النساء من الدراسة لأنها ستعرض قدرتهن على الإنجاب للخطر) على أنها استنتاج منطقي لنظرية علمية، فلا يمكننا ببساطة تفسيره على أنه سوء استخدام أو تطبيق للعلم. إذًا هل هناك إجماع على علم تحسين النسل؟ الجواب باختصار “لا”.
أما الإجابة الطويلة فهي ليست بالبسيطة، بلا شك هناك العديد من العلماء المشهورين الذين فُتنوا بعلم تحسين النسل، ومنهم العالم ألبرت اينشتاين حيث احتقر زوجته واعتبرها “شخصًا أدنى منه جسديًا وأخلاقيًا”؛ فعانت زوجته من الاكتئاب والانهيار العصبي وألقى بدوره باللوم على جيناتها. وحينما أصبح ابنهم مضطربًا عقليًا وعاطفيًا نسب ذلك إلى “عيب وراثي شديد” في نسل زوجته. كما أشاد بتقليد اسبرطي قديم والذي يقول: “إن الإبقاء على شيء ما غير قابل للحياة بعد سنوات الخصوبة هو هدم للإنسانية المتحضرة”، وكتب لصديق له في عام 1917 مستدلًا بذلك التقليد: “إننا بحاجة ماسة إلى قيام الأطباء ببعض البحوث لنا”.
لكن تاريخ علم تحسين النسل معقد لأنه اشتمل على مجموعة كبيرة من المشاركين واستنار بالعديد من القيم. على سبيل المثال: دافع علماء تحسين النسل في اليابان عن حق المرأة في التعليم بسبب دورهن الحاسم كأمهات، وفي أمريكا شارك العديد من علماء تحسين النسل في حملات للقضاء على الأمراض الجنسية وحظر الكحول ومنح النساء حق التصويت، وأكد النازيّون في ألمانيا أن التبغ يهدد الصحة وروجُوا عدة حملات لمكافحة التدخين. لم يتفق علماء تحسين النسل دائمًا مع بعض، فقد احتج الكثير من الحضور في مؤتمر بسيط لعلماء تحسين النسل والذي عقد في باريس عام 1937 على التعقيم الإجباري. وعارضت وفود من الأرجنتين والبرازيل وإيطاليا والبرتغال وسويسرا النهج الأمريكي، وصرحوا: “لا نطمح في أن نكون أوصياء على الشعوب أو المشرّعين”، وقد أيدوا فكرة تحسين نوعية السكان، لكن على أن تُحقَّق من خلال تدابير أكثر تواضعًا وحكمة.
غالبًا ما نظن أنّ علم تحسين النّسل جزء من حركة محافظة ولكن تم دعمه أيضًا من قبل العديد من التقدميين، مثل جون ماينارد كينز حيث وصفه بأنه: “الفرع الأهم والأكثر أهمية، وأود أن أضيف له الفرع الأصيل لعلم الاجتماع الموجود”. وأكد عالم الاقتصاد الاشتراكي سيدني ويب بأنه: “لا يمكن لأي عالم تحسين نسل أن يكون مستقلًا إلا إن تخلى عن الأمر بيأس، لابد من تدخل الآخرين به دائمًا!”. وحذر فرانك ألبرت في كتابه “علاج جديد للاقتصاد” عام 1915، قائلًا: “أن هذا التقدم مُهدِد، ما لم يتم تعديل المؤسسات الاجتماعية؛ لتعكس هذه العملية التي تضاعف الناس الأشد فقرًا وتحد من وجود الأسر الأكثر قدرة”.
مع ذلك لم يتوافق جميع العلماء مع علم تحسين النسل، وقد أجرى على سبيل المثال عالم الاجتماع فرانز بواس بحثًا تجريبيًا لاختبار هذه الأفكار؛ حيث أخضع أكثر من 17 ألف عينة من الإصلاحيات والمصحات والمدارس الدينية والخاصة لتحليل الأنثروبومتري. وأظهرت نتائجه كما يقول “أن كل الأدلة في صالح المرونة الكبيرة في السِّمات البشرية”، وأشار حينما درس انتشار الأوربيين في جميع أنحاء العالم، واستكشافهم للأمريكيتين، وصعود ونزول إمبراطورياتهم إلى أن “الأحداث التاريخية كانت تبدو أكثر فعالية في سباقات الحضارة من إمكانيتها”. باختصار الشيء الوحيد الذي بإمكان علم تحسين النّسل إثباته هو: “مدى سهولة انقياد العقل البشري إلى الإيمان بالقيمة المطلقة للأفكار التي تُتداول في الثقافة المحيطة به”.
انتقد عدد من علماء الأحياء والوراثة علم تحسين النّسل، بينما تقبَّل معظمهم أنّ السِّمات تتأثر بالجينات والبيئة، إلا أنه لم يُعرف سوى القليل عن الدور الذي يلعبه كل عامل في التنمية البشرية. وكتب أحد المؤلفين: “في مواجهة لهذا الكم الهائل من الجهل، كيف يمكن لأي أحد أن يبرِّر اتخاذه لتعميمات شاملة بالإشارة إلى هذه العينات؟”. وقام عالما الأحياء رايموند بيرل وهربرت سبنسر جنيغيز بإلقاء خطب عامة ينتقدان فيها علم تحسين النّسل لأسباب أخلاقية، كما علّق بيرل بعد زيارته لمختبر الأخصائي كارل بيرسون بأنّه يفتقر إلى التدريب في علم الأحياء مما دفعه بالغالب إلى “اتخاذ موقف سخيف فيما يتعلق بالأمور الواضحة بيولوجيًا”.
كما أشار بعض علماء الوراثة إلى أنّه حتى لو أن الأمراض التي حددها علماء تحسين النّسل كانت موروثة، فإن سياسات علم تحسين النسل لا يمكنها علاجها. وفي حالة الأمراض المتنحية، على سبيل المثال: حين يظهر المرض فقط على الذين ورثوا نسختين من الجين المسؤول، قد ينشره العديد من الأشخاص المتغايرين للجين دون علمهم. حسب عالم الوراثة ريجينالد بونيت فإن الأمر سيستغرق 90 جيلًا لتقليص “ضعف العقل” من نسبة شخص من كل 100 شخص إلى شخص من كل 10 آلاف شخص. بعبارة أخرى فإن علماء تحسين النّسل بحاجة إلى أكثر من ألفي سنة لإحراز تقدم لحل المشكلة.
“كيف يمكِن تحسينُ سكان العالم؟“
هذا السؤال الذي طرحته خدمة العلوم في واشنطن على مجموعة من العلماء، ونشر العلماء جوابهم المشترك في 16 سبتمبر عام 1939؛ وذكروا أنّ السؤال أثار “مشكلات أكبر من المشكلات الجينية البحتة، لأنّ البيئة والوراثة يشكلان عوامل مكملة ومسيطرة لا مفر منها في رفاهية وصحة الإنسان، ويستحيل وجود تقدم حقيقي بدون وجود ظروف اقتصادية واجتماعية توفر فرصًا متساوية تقريبًا لجميع أفراد المجتمع”. تمّ توقيع هذه الورقة من قبل أربع وعشرين عالم وراثة، منهم هالدين وجوليان هكسلي وثيودوسيوس دوبزانكسي، والتي تحمل عنوانًا رسميًا بـ”علم الأحياء الاجتماعي وتحسِين السكان”، والتي عرفت فيما بعد ببيان علماء الوراثة.
تعرض أوريسكس خمسة أمثلة لتسليط الضوء على موضوع مشترك، وهو: عدم توافق آراء العلماء، أما المواضيع الأربعة الأخرى التي تدرسها هي: نظرية الطاقة المحدودة، والانجراف القاري، وموانع الحمل والاكتئاب، وخيط الأسنان. وقد اختارت التركيز على علم تحسين النّسل لأنه قد أُسيء استخدام هذه النقطة السوداء في تاريخ العلم لأغراض سياسية من كلا الجانبين؛ كإدعاء روس بوميري من منتدى سياسة الاحتباس الحراري (مركز لأبحاث إنكار تغير المناخ) أنّ علم تحسين النّسل مثال على ” كيف يؤدي الإجماع العلمي بالرأي إلى القتل الجماعي”؛ وأشارت أوريسكس أن هذه الإدعاءات في غير محلها حيث لم يكن هناك إجماع للعلماء في علم تحسين النّسل والانجراف القاري. انتقد علماء الاجتماع وعلماء الجينات الاشتراكيون وبعض علماء الجينات السائدة علم تحسين النسل، أما رفض الانجراف القاري كان شأنًا أمريكيًا واضحًا (رفض الأوربيون في الغالب إبداء رأي في الموضوع، وهو أمر آخر)، ولم يكن هناك إجماع حول نظرية الطاقة المحدودة أو حبوب منع الحمل أو خيط الأسنان، والنتيجة الأساسية من التحقيق التاريخي في هذه المواضيع هي أنّه في كل هذه الحالات كانت هناك معارضات مهمة ومستنيرة تجريبيًا داخل المجتمع العلمي.
يظهر لنا تاريخ العلم مرارًا أن العلماء في معظم الأوقات كانوا صادقين وموضوعيين في سعيهم للحقيقة، على نقيض المعتقدات الشائعة والروايات المبسطة. ولنأخذ قضية ديرابتومنيا على سبيل المثال؛ اخترعه الطبيب الأمريكي سامويل كارترايت في عام 1881، وشُخِص هذا المرض على أنه السبب في محاولة هروب بعض الزنوج من أسيادهم. وذكرت لنا انجلينا سايني في كتابها “الأعلى” بأن تصنيف كارترايت للأمراض كان “متأصل بوضوح برغبته في إبقاء العبيد مستعبدين، للحفاظ على الوضع الراهن في جنوب أمريكا”. كان الطبيب كارترايت طبيبًا متميزًا، لكن لا يعني هذا بأن الجميع قد أخذ فكرته على محمل الجد؛ فقد اشتكى العديد من الأطباء من أدلته الواهنة التي قدمها، ولم يتم اعتبار ديرابتومنيا قط مرضًا ذا تشخيص قياسي في الطب النفسي الأمريكي. وقال كاتب معاصر مجهول الهوية في مجلة بافالو الطبية ساخرًا منه: “أن الاستقراء الحذر والدقة المنطقية قد أدت به إلى الاعتقاد بأن ديرابتومنيا قد نتجت عن تزامن جسد المريض مع الشمال المغناطيسي”.
ولم تنكر أوريسكس بأنّ العلماء قد يكونون على خطأ، ولكنها اختلفت في أن العلماء كأفراد غالبًا ما يرتكبون الأخطاء حينما يتجاهلون تفاصيل معينة في الأدلة؛ ولم تذكر تلك القضية إلا أنها تناسب هذه المواضيع، وتتعلق بإزالة المثلية الجنسية من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية، حيث تحدّى الناشطون فكرة أنّ المثلية الجنسية مرض عقلي بدعم من الأطباء النفسيين (والذين كان أغلبهم مثليين وينتمون إلى مجموعة غير رسمية تدعى قاي با)، وقدموا تقارير كينزي والتي أشارت إلى أن انتشار المثلية أعلى مما كانوا يعتقدونه سابقًا. وأظهرت دراسة أجرتها عالمة النفس إيفلين هوكر قارنت فيها ذكاء المثليين والسوييّن، وتبين أن المثلية الجنسية لا علاقة لها بالاضطرابات النفسية، صدمت اللجنة بالنتيجة ولم يسمع الكثير بهذه الدراسات أبدًا، حينها وافقت لجنة التسميات عند عقدها لندوتها التالية على إزالة المثلية الجنسية من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية.
لماذا لم يكونوا على درَاية بهذه الدراسات ذات الصلة؟
يُذكّرنا أحد علماء النفس أنّه في ذلك الوقت كان من الصعب جمع المعلومات والعثور على الأدبيات الطبية ذات الصلة، حيث عليك أن تجول في كل المكتبات، ونسخ المقالات من المجلات، وتفحص الكتب وإعادتها ثانية إلى المكتبة، والاستغراق في قراءتهم قبل إعادة كتابتهم كمسودة أولى بآلة الكتابة أو باليد أحيانًا؛ كان الأمر شاقًا للغاية للوصول إلى المطلوب. أما الآن يمكن إنجاز جميع هذه الأمور ببضع نقرات فقط على الحاسب الآلي، والوصول إلى جميع المصادر نفسها والعثور على أكثر منها، أصبح من السهل توسيع نطاق المعرفة في الأوساط الأكاديمية هذه الأيام أكثر مما كان عليه في الماضي.
كان التأليف المشترك نادرًا في الماضي، ففي عام 1900 تم تأليف حوالي 7% فقط من أبحاث العلوم الطبيعية، وأصبحت حوالي 60% بحلول عام 1960، وبحلول عام 2000 أصبح متوسط عدد المؤلفين للورقة البحثية في العلوم الطبية سبعة باحثين. أصبح الآن التأليف المشترك النمط الدارج في العديد من العلوم بدلًا من الفردي، بالتالي فإن احتمالية حدوث هذه الأخطاء في يومنا هذا أقل.
نظرًا لأساس الدراسات يتبيّن لنا أن الفِرق الأكثر تنوعًا تميل إلى تحقيق نتائج أفضل، سواءً في المقاييس النوعية مثل الإبداع، والمقاييس الكمية المتعلقة بالأداء. وتفترض أوريسكس أن تنوع القيم والأساليب والأدلة والعلماء هو شرط مسبق للوصول إلى اتفاق جماعي راسخ، إلا أنّها لم تكن أول من اقترح هذا؛ فقد حاجّ بوز ميلر بأن المجتمع المتنوع قد يطرح أسئلة جديدة، ويحدد القيود، ويشير إلى تفسيرات بديلة للبيانات الموجودة، ويكشف تفاصيل جديدة في الأدلة والبحوث، مما يسهِّل التوصل إلى إجماع قائم على الأدلة. لطالما اعتبر تنوع الأساليب والأدلة ضروريًا، وفي الحقيقة هذه إحدى السّمات التي تميِّز العلم الحقيقي من العلوم الزائفة، كما زعم ماريو منذ وقت طويل بأن العلوم الحقيقية مترابطة دائمًا وغالبًا ما تتداخل مجالات دراساتهم ببعض، بينما لا تزال معظم العلوم الزائفة مفصولة عن المجالات الأخرى.
الثقة بالإجماع العلمي لا يمكن أن تكون ثقة عمياء، فالإجماع العلمي لا يخبرنا بما علينا فعله بل يشير فقط إلى ما لا يمكننا تجاهله؛ فالثقة هذه الأيام سلعة نادرة. ولنأخذ بعين الاعتبار الوباء الحالي، ذكر استبيان حديث أن 70% من الديموقراطيين قالوا أنّهم يثقون في منظمة الصحة العالمية، على نقيض 25% فقط من الجمهوريين، و86% منهم وضعوا ثقة أكثر بالرئيس ترامب. ويعدُّ هذا علامة واضحة لتضييق إدارة ترامب، حيث أشارت الوكالات العلمية مثل وكالة حماية البيئة، وخدمة المنتزهات الوطنية، وخدمة الأسماك والحياة البرية الأمريكية إلى الضغط السياسي على أنه أكبر عائق لاتخاذ قرار قائم على العلم. أعلن الرئيس البرازيلي يير بولسونارو في العام الماضي عن تجميد 42% من الأموال المخصصة لوزارة العلم والاتصالات في البلاد، وحذرت ستة جمعيات علمية من أنّ “إعادة بناء القدرات العلمية و الابتكارية في البلاد سيستغرق عدة عقود”. قام الرئيس المكسيكي اليساري أندريس مانويل لوبيز أوبرادور بخفض ميزانية العلوم في البلاد، وعيّن رجلًا بلا تدريب طبي أو وبائي رئيسًا لمؤسسة الصحة والرفاهية.
وبالمثل فإنه من غير المألوف سماع أن اللوائح المصممة لحماية صحة الإنسان والبيئة مكلِّفة للغاية بحيث لا يمكن تنفيذها، على الرغم من أنّها بالعادة تُكلِّف أقل من المتوقع، وفوائدها تفوق تكاليفها. مثلما كان متوقعًا بأن يُكلف برنامج الأمطار الحمضية الأمريكي 2.4 إلى 5 مليار دولار في السنة، لكن كلفتها الحقيقية كانت أقل من مليار دولار. كما كان يُتوقع أن يكلف بروتوكول مونتريال 65 مليار دولار في السنة بحلول عام 2020، إلا أن الفوائد تجاوزت التكاليف بعامل يزيد عن 30:1. البيئة والوباء مصدر قلق متصلين ببعض، فكما قلّل الكثير من أهمية المخاطر التي يشكلها تغير المناخ، فقد قللوا أيضًا من مخاطر فيروس كورونا؛ فإنكار خطورة فيروس كورونا يتداخل مع إنكار تغير المناخ.
إذًا ما القضايا التي عليها إجماع علمي؟
هناك الكثير من الأدلة التي تثبت أن التبغ يسبب سرطان الرئة، وأنه لا يوجد حد لخطر استهلاك الكحول، وأن فلورة الماء آمنة وضرورية، وأن الجليفوسات (المكون النشط لمعظم مبيدات الأعشاب الشائعة) لا يشكل خطرًا على صحة الإنسان. وهناك إجماع علمي على أنّه كان هناك تغير مناخي حقيقي من فعل الإنسان، وأن فيروس كورونا أشد فتكًا من الإنفلونزا العادية.
اقرأ ايضاً: لماذا لا توجد طرق أخرى للمعرفة سوى العلم