العلم

الطبيعة في مقابل التنشئة

مناقشة حول الضجيج الحيوي

  • جوردانا سيبيلوفتش
  • ترجمة: باين منيف
  • تحرير: أسامة خالد العمرات

عادةً ما يعتبر العلماء النمط الظاهري للخلية أو للكائن الحي -السمات التي تعبّر عن شكله، وعن سلوكه وفسيولوجيا الأعضاء لديها- أنّها مجموعة معقدة من العوامل الوراثيّة والبيئيّة، أو “الطبيعة” و “التّنشئة”، وقد تم تخصيص قدر كبير من الأبحاث لتحديد إسهام ما سبق ذكره، لإثبات ذلك، على سبيل المثال، كيف يمكن لطفرات معيّنة أن تحدّد شكل أحد الأطراف أو تحدّد بداية مرض ما.

يقول أرجون راج، عالم أحياء الأنظمة في جامعة بنسلفانيا: “هذا بالتأكيد نموذج قويّ للغاية” يقول أيضاً: “لقد تعلّمنا قدراً هائلاً من ذلك، وبمنتهى السهولة يمكننا سرد قصة عن ذلك”.

كل شيء غير مرتبط بالسيطرة الجينية يميل إلى أنْ يُعزى الى عوامل بيئيّة مختلفة، تتراوح ما بين التغذية إلى الإجهاد إلى التفاعلات الاجتماعية الخاصّة، إنّه خط فكري “يقترح أنّه لا بد أن يكون هناك شيء خارج الكائن الحي”. قال هذا كيفن ميتشيل عالم الوراثة والأعصاب في كلية ترينيتي في دبلن.

لكنّ الدليل يعزز من أنّ هذا ليس صحيحاً تماماً، التوائم البشرية المتطابقة التي تتشارك نفس الجينوم وتتشارك السّكن أيضاً لا يتصرفون أو يتشابهون بالضبط تماماً، الطفرة التي تُحدِث خللاً عند أحدهما ربما لا تُحدِث شيئاً عند الاخر. حتى أنّ التوائم لديهم بصمة أصبع مختلفة.

نفس الشيء ينطبق على مجموعات البكتيريا، والسمك المستنسخ والسلالات الأصلية للذباب والفئران، بعض مسببات الأمراض أو الخلايا السرطانيّة تطور مقاومة للأدوية، في حين أنّ خلاياها الشّقيقة المتطابقة وراثياً تموت. أشقاء جراد البحر الرّخامي[1] الذين نشؤوا في مختبر، حيث يتم الحفاظ عليهم في بيئة ثابتة، لا ينتهي بهم الأمر بألوانٍ أو أشكالٍ أو تصرفاتٍ مختلفة فقط، فاختلافاتهم مهمة أيضاً بما يكفي لهم لإنشاء تسلسل هرمي اجتماعي بالكامل.

حتى داخل الكائن الحي المستقل، تظهر تباينات بين كل من الجانبين: الأيسر والأيمن للوجه، والجسد والدماغ. لقد بيّنت الأبحاث بوضوح مطلق أنّه لا يمكن شطب هذه الاختلافات على أنّها تأثيرات بيئية غير مبررة.

ما سبب الضجيج (الاهتزازات والتقلبات العشوائية) التي تميز أيّ عملية بيولوجية؟

يقول عالم الأحياء التطوري في جامعة زيورخ أندرياس واجنر: “الضجيج أمر محتوم، إنّه أمر لازم للحياة”.

أوضح كيفن ميتشيل بأنّ ما يجعل الضجيج أمراً محتوماً ولا مفر منه؛ هو أنّ أيّ كائن حيّ معقّد للغاية، بحيث لا يمكن للجينات أن تحدده بشكل شامل وفريد​، وكيفية بنائه بالضبط. وصلات الدماغ وحدها يجب أن تنشأ بتعليمات قليلة نسبياً.

يقول ميتشيل: “الجينوم ليس مخططاً، إنّه لا يشفّر بعض النتائج بالتحديد. هو فقط يشفّر بعض القواعد البيوكيميائية، وبعض الخوارزميات الخلوية التي ينظّم بها الجنين النامي نفسه”.

ترتدّ الجزيئات وتتفاعل في الخلية، وترتبط وتتفكّك وتنتشر بشكل عشوائي. في حين أنّ العمليات التي تصنع البروتينات وتشغل الجينات وتوقفها تخضع إلى “عدم الاستقرار الجزيئي في النظام” كما يسميه ميتشيل، الأمر الذي يقودنا إلى درجة ما من العشوائية في معرفة عدد جزيئات البروتين المصنوعة، وكيف تجتمع وتتركب، وكيف تؤدي وظائفها وتساعد الخلايا على اتخاذ القرارات.

كنتيجة، طبيعي تماماً هذا التطور، فالعملية المعقدة التي تحوّل خلية مفردة الى كائن حي بأكمله، سيكون -كما قال ميتشيل- “فوضوياً بعض الشيء”.

لكنّ الضجيج التنمويّ[2] غالباً ما يتمّ تجاهله على أنّه ليس أكثر من شيء يخفي كيف يجب على الأنظمة البيولوجية أن تعمل بشكل مثالي، فلم يتم معاملته على أنه مصدر للإبداع البيولوجي في حد ذاته، وهو بالتأكيد لا يبدو كشيء يمكنه أن يكْمن وراء الاختلافات الرئيسية في السّمات التي لا تقلّ أهميّة عن السلوك أو الشخصيّة.

حتى عندما أراد العلماء التركيز على تأثيرات هذا الضجيج، وجدوا أنفسهم يصطدمون بجدار: بحكم التعريف، الضجيج ليس منطقياً أو يمكن التنبؤ به، وكنتيجة لهذا، يكاد يكون من الصعب جداً عزله وقياسه.

يقول باسم حسن، اختصاصي البيولوجيا العصبية في معهد باريس للدماغ: “إنّه (العامل) الأكثر صعوبة للسيطرة عليه في الواقع، والتحكم به”،

“يمكنك اللعب مع الجينوم، يمكنك اللعب مع البيئة، يمكن اللعب مع علم وظائف الأعضاء، يمكنك تنشيط خلايا معينة وترك غيرها… لكن من الصعب جداً معالجة التغيرات” وإثبات أنّها سبب الاختلافات.

ميتشيل يوافق ويقول: “بحكم طبيعتها، من الصعب جداً التعامل مع الأشياء العشوائية”.

لكن هذا بدأ يتغير. أدوات دراسة سلوك الخلايا المفردة، بما في ذلك التعبير الجيني لديها، وإنتاج البروتين وقرارات المصير التنموي؛ أصبحت متقدمة بما يكفي لتسمح للعلماء بطرح الأسئلة عن الأسباب الأكثر دقة للتنوع، ووجدوا أنّ الضجيج التنموي يلعب دوراً لم يعد بالإمكان التغاضي عنه. إنّه ليس فقط تأثيراً- لا مفر منه- يجب على الأنظمة الحية تحمله؛ بل هو شيء طورته هذه الأنظمة للاستفادة منه، وتحويله إلى محرك ضروري للتطور المناسب للأفراد، وربما حتى للتطور على نطاق أوسع.

 

قوس قزح من العشوائية

جاءت نقطة التحول عام 2002. وبدأت بالبكتيريا وقوس قزح.

مايكل الويتز، أستاذ علم الأحياء والهندسة البيولوجية في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، أراد هو وزملاؤه اختبار تنوع خلايا البكتيريا الإشريكية القولونية (E. coli) التي تنمو في نفس البيئة، فأدرجوا نسختين من الجين في داخل البكتيريا؛ أحداهما تشفّر بروتين فلوري سماوي، والأخرى تشفّر بروتين فلوري اصفر، وبما أنّهم قاموا بهندسة الجينات ليتم تنظيمها بشكل متطابق، فقد توقّعوا رؤية الخلايا تنتج كلاً من البروتينات بكميات متساوية، بدلاً من ذلك، داخل كل خلية على حدة، تم التعبير عن الجينات السماوية والصفراء بشكل غير متساوٍ، وهذه النسب تختلف بشكل كبير من خلية الي خلية، فبعض الخلايا تتوهّج بالأصفر أكثر من السماوي، وبعضها تتوهّج بالسماوي أكثر من الأصفر، البقية كانت أكثر من مزيج، ويبدو أنّ كل هذا حدث على نحو عشوائي. أدرك ألويتز وزملاؤه أنّ قوس قزحٍ هذا كان نتيجة واضحة للضجيج المتأصّل داخل عملية التعبير الجيني. لقد رأوا أخيراً تأثيرات “عدم الاستقرار الجزيئي”.

منذ ذلك الحين، درس العلماء الدور الذي يلعبه الضجيج الداخلي في العمليات الخلوية الأخرى، حيث أنّه بالإمكان رؤية كيفية ظهور مجموعة من الخلايا المتطابقة لسلالات متخصصة مختلفة؛ في كيفية استجابة بعض -وليس كل- مجموعة من الخلايا لإشارة معينة؛ وفي كيفية حصول الأنسجة النامية على نمط. تستفيد الخلايا من الضجيج لخلق التباين الضروري في سلوكها وحالتها البيولوجية.

ولكن هذا على مستوى الخلية، يمكن أن تكون هذه الاختلافات تميل إلى التوازن عبر العديد من مثل هذه الخلايا، بالكشف عمّا إذا كان بإمكان الضجيج أن يؤثر بالفعل على الكائنات الحية ذات المستوى الأعلى -التي تتكاثر عبر التطوّر للتأثير على كيفية ظهور حيوان بالغ- لذلك كانت قصةً مختلفة.

على سبيل المثال، قد يتطلب الأمر أنظمة تجريبية متخصصة للغاية، تتكون من العديد من الأفراد من نفس الجينوم، ترعرعت بعناية في نفس الظروف البيئية. إلى حد ما، تم ذلك، وجد الباحثون أنّ الذباب الأصيل المتطابق وراثياً في المختبر يبرز أفضليّة فريدة عند الاستجابة لمهمة ملاحية، والأسماك المستنسخة تظهر سلوكيات متنوعة، مثل تلك التي لوحظت في الأسماك المتغيرة وراثياً، بينما أنّ تغيير بيئة الأسماك يحظى بتأثير ضئيل.             لكن هذه النتائج حتى الآن لا تثبت أنّ الضجيج أثناء الأحداث التنموية تسبّب في هذه الاختلافات المحددة. قال ميتشيل: “المقلق في الأمر، عندما تقول إنّ هناك بعض الاختلاف في علم التشريح أو علم وظائف الأعضاء، إنّ الناس يمكنهم أن يعودوا دائماً ويقولون: حسناً، هذا فقط مجرد عامل بيئي لا تعرفون عنه”.

ولكنّ دراسة جديدة، نشرت على موقع biorxiv.org في ديسمبر، أخذت هذا النوع من العمل إلى مستوى التعبير الجيني، وفي الثدييات، ليس أقل. انظر حيوان المدرع (الأرماديللو) ذو التسع أشرطة.

 

الرباعيات التي ليست كذلك

حيوان الأرماديللو ذو التسعة اشرطة، لدية استراتيجية تناسلية غير عادية، دائماً يضع أربعة توائم، أربعة صغار أرماديللو متطابقين وراثياً. جيسي جيليس عالم الاحياء الحسابي في مختبر كولد سبرينج هاربر في نيويورك، قرر هو وزملاؤه الاستفادة من نمط الولادة هذا في تحديد ومعرفة متى يؤدي الضجيج التنموي العشوائي الى اختلافات في وظائف الأعضاء وسلوك الحيوانات البالغة.

قال ميتشل، الذي لم يشارك في العمل: “إنه نظام تجريبي رائع للعمل عليه “. “أعني، من لا يحب الأرماديللو؟”.

اكتشف فريق جيليس مؤخراً أنّ الاختلاف في التعبير الجيني يظهر في وقت مبكر جداً جداً.

لقد حصلوا على عينات دم من خمسة صغار أرماديللو، وقاموا بترتيب تسلسل الحمض النووي الريبوزي RNA الخاص بهم ثلاث مرات مختلفة خلال العام بعد ولادتهم، وتحليل تلك البيانات لأنماط التعبير الجيني الفريدة. بدؤوا بواسطة النظر إلى عملية عشوائية كلاسيكية في علم الوراثة: تعطيل كروموسوم X.

في الأرماديللو، والبشر واغلب الثدييات، يوجد اثنين كروموسوم X في كل خلية من خلايا الإناث، للحفاظ على مستويات التعبير الجيني المرتبطة بـ X متناسقة بين الذكور والإناث، في مرحلة ما من التطور، يتم إيقاف كروموسوم X بالكامل، سواءً اختارت الخلية إيقاف كروموسوم X الموروث من أم الكائن الحي، أو والده. يحدث تماماً عن طريق الصدفة، مثل رمي عملة معدنية، وفقاً لجيسي جيليس.

مع ذلك، تستقرّ العملة على الوجه الذي سوف يعبر عن جينات الوالدين المرتبطة بـ X في جميع سلالات تلك الخلية.

وجد تحليل جيليس أنّ رمي العملة الاعتباطي هذا، حدث عندما تكونت أجنة الأرماديللو من ٢٥ خلية فقط. ولأن اختيارات المزيج المحدد من ٢٥ X عشوائي من الأم أو الأب كانت مختلفة في كل جنين، فقد أصبح “توقيعاً مميز” دائماً لكل الأفراد المتطابقين وراثياً من صغار الأرمديللو.

بعد ذلك، أدار الفريق انتباهه الى الـ ٣١ زوجاً الأخرى من الكروموسومات في الأرماديللو. لا يتم إسكات الكروموسوم في هذه الأزواج بالكامل، مثل كروموسوم X المعطّل، ولكن تبرز الاختلافات في مدى نشاط كل واحد، ومدى مساهمة كل منها في التعبير الجيني بالمجمل. استخدم الباحثون طريقة تعليم آلي لتحليل متى أصبحت هذه النسب الفريدة ثابتةً في سلالات الخلية. قدّروا أنّ ذلك حدث عندما كان لدى الأجنّة بضع مئات من الخلايا فقط.

في الأرماديللو، سيحتوي على ترليون خليه أو نحو ذلك في نهاية المطاف، قالت كيت لسكوفسكي عالمة البيئة السلوكية في جامعة كاليفورنيا ديفيس، التي كانت مرتبطة بالعمل على الأسماك المستنسخة ولكنها لم تكن مشاركة في الدراسة: “هذه الأحداث تحدث مبكراً جداً”، وقالت ايضاً: “لديهم الفرصة للحصول على تأثيرات قوية باتجاه التيار. خلية واحدة مبكرة من تطورك ستكون سلف لمئات وآلاف وملايين الخلايا في وقت لاحق من الحياة”.

إنّها مثل تموجات تتوسع في الماء حين رمي صخرة في بحيرة، عوامل ووزنها وشكلها والقوة التي رميت بها، ستشكل تموجات مختلفة إذا ما رميت صخرة غيرها. الفيزياء القابلة للتنبؤ لكيفية انتشار التموجات تسمح للظروف الأولية الفريدة بالتمدد، وبالمثل، الضجيج العشوائي الذي يؤسس نمطاً مختلفاً قليلاً للتعبير الجيني في كلٍّ من أجنة الأرماديللو أسهب عبر تأثيره على العمليات التطورية الأخرى وفي النهاية أنتج اختلافات في السمات.

لتحديد ما قد تكون تلك التأثيرات باتجاه التيار، اختبر العلماء الاختلافات في التعبير الجيني بالكامل، وجدوا أنّ أشقاء الأرماديللو تتنوع في تعبيرها عن حوالي ٥٠٠ الى ٧٠٠ من الـ ٢٠،٠٠٠ من جيناتها (على الرغم من ذلك توقع العلماء أنّ تحليلهم لم يشمل جميع التقلبات، لذلك قد يبدو هذا أقل من الواقع).

علاوة على ذلك، لم تكن دائماً الـ ٧٠٠ جين تقريباً هي نفسها التي تأثرت في كل مجموعة توائم، مما يقدم المزيد من الأدلة على أنّ العشوائية تفرض الاختلاف.

بدت هذه الاختلافات في التعبير الجيني مرتبطة بدورها بالاختلافات في مجموعة متنوعة من السّمات، خاصة تلك المرتبطة بالعمليات المناعية والهرمونية. الأكثر وضوحاً، في إحدى مجموعات التوائم، بعض الجينات كانت مرتبطة بنمو العضلات، وبالفعل اختلف بعض الأشقاء اختلافاً كبيراً في الحجم، في حين أنّ هناك حاجة إلى المزيد من العمل لتدعيم هذه الارتباطات، قدّر جيليس وزملاؤه أن ١٠٪ تقريباً من إجمالي الاختلافات التي لاحظوها بين الأرماديللو يمكن أن تُعزى إلى الضجيج التنموي.

تقول كيت لسكوفسكي “إن فكرة أنّ نمطك الظاهري وكيفية تصرفاتك قد تكون على ما يبدو نتيجة لأحداث عشوائية عندما تكون أنت كرة من درزن إلى بضع مئات من الخلايا، بالنسبة لي، هذا أمر رائع”

 

التقلبات التي تؤثر على السلوك

يبدو أن تلك الأحداث العشوائية تلعب الدور الأكبر عندما يتعلق الامر بالسلوك، في البشر، وعلى سبيل المثال، الاختلافات في السّمات النفسية لدى التوائم المتطابقة، أكثر بكثير من الاختلافات الجسدية، وبما أنّه يُعتقد أنّ الاختلافات النفسية تعكس كيفية تكوّن الدماغ؛ بدأ العلماء بالنظر في الدماغ أولاً.

 

أثناء التطور، تكون الادمغة مفعمة بالضجيج بشكل خاص؛ فتنمو الروابط بين الخلايا العصبية وتتشذب باستمرار غالباً بشكل عشوائي. تتفتح القنوات الأيونية بشكل تلقائي، والمشابك العصبية تطلق -بشكل تلقائي- الناقلات العصبية، دون سبب واضح.

تم تمييز الجينات التي تنظّم الاختلاف التنموي في السّمات التشريحية والسلوكية. من خلال تبديل تلك الجينات، تمكّن الباحثون من اختبار فرضياتهم عن دور الضجيج في إملاء أوامر تشكيل كل من الدماغ والسلوك. المثال الأكثر حيرة لهذا الأمر جاء في وقت مسبق هذا الشهر، في ورقة نشرها باسم حسن وزملاؤه في مجلة ساينس Science.

في عام ٢٠١٣ وجدوا أنّ العشوائية في الآلات الميكانيكية التي تربط خلايا عصبية معينة ببعض؛ تنتج اختلافات في أنماط الدوائر في أدمغة الذباب المتطابق وراثياً. لم تختلف هذه الروابط العصبية من ذبابة إلى أخرى فحسب، بل كانت أيضاً غير متكافئة بين نصفي الدماغ الأيسر والأيمن داخل كل ذبابة. في ورقتهم الجديدة، ربط العلماء سببيّاً ذلك الاختلاف التشريحي باختلافات محددة في السلوك: الذباب الذي يحظى بقدر كبير من عدم التماثل في أنماط الوصلات العشوائية يتجه بشكل مباشر نحو الهدف، في حين، يميل الذباب الذي يحظى بقدر كبير من التماثل الى التمايل والتعرج. عندما تلاعب الباحثون بجينٍ لجعل عملية التركيب العصبي تسفر عن ارتباطات أكثر تناسقاً في أدمغة الذباب الناتجة، رأوا كفاءة أقل في أساليب الذباب في التعامل مع الأهداف، وأدّت التجربة التي زادت من عدم التماثل على نحو مماثل إلى مسارات مشي أكثر استقامة.

وفي المجمل، قدّروا أنّ ٣٥٪ إلى ٤٠٪ من الاختلاف في سلوك المشي لدى الذباب يمكن تفسيره باختلافات عشوائية في أنماط الوصلات للخلايا العصبية المدروسة، مما يجعل المرء يتساءل الى أيّ مدى قد يؤثر الضجيج التنموي للدماغ على السّمات السلوكية أو النفسية الفريدة لدى البشر.

يقول باسم حسن: “ما مقدار من أنا، كشخص يرجع إلى احداث النمو العشوائية في دماغي؟”

وفقاً لميتشيل، بالاعتماد على السّمة، فإنّ هذا قد يصل الى ٥٠٪.

 

تطور ليكون مفعماً بالضجيج

تتلخص الخطوة التالية بالنسبة لهؤلاء الباحثين في اختبار الكيفية التي قد يؤثر بها هذا الاختلاف الناتج عن الضجيج على لياقة الحيوان. من المعروف أنّ الضجيج العشوائي يشكل أهمية بالغة لبقاء البكتيريا وغيرها من الكائنات الحية اللاجنسية وحيدة الخلية. بالنسبة لهم، تسمح التقلبات العشوائية باستراتيجية تطورية تعرف باسم التحوط ضد المجازفة، وهي إدخال المتغيرات العشوائية المؤقتة إلى مجموعة سكانية، ما من شأنه أن يحسن من فرص بقاء الأنواع إذا تغيرت الظروف البيئية.

على سبيل المثال، من بين البكتيريا المعدية، فان وجود عدد قليل من الخلايا “الصامدة” التي تتحول عشوائياً إلى طور سكون التمثيل الغذائي، يمكن أن يساعد السكان على البقاء، من جرعات المضادات الحيوية التي تمسح بقية الخلايا.

يبدو أنّ الضجيج أيضاً يحفز تطور سمات جديدة، أظهرت أعمال غير منشورة من مختبر فاغنر ومجموعات أخرى أنّ إدخال المزيد من الضجيج على التعبير الجيني في بكتيريا الاشريكية القولونية والخميرة يسمح لهم باستحداث سمات جديدة بسرعة أكبر.

الدليل على هذا النوع من الدور التكيفي للضجيج في تطوير كائنات حية أكثر تعقيداً يعتبر أقلّ وضوحاً. ولكن باسم حسن يقول، من المعقول أنْ نفترض أنّ الدراسات سوف تربط بين النقاط في نهاية المطاف.

يقول فوغت: “لا شك على الإطلاق في أنّ هذا مبدأ بيولوجياً عامّاً“، وهو المبدأ الذي يحول الخريطة التقليدية من النمط الجيني إلى النمط الظاهري إلى علاقة أكثر انفتاحاً حيث يعمل الجينوم الواحد على تشفير العديد من الاحتمالات.

الحقيقة أنّ العشوائية في التنامي قد تكون على نفس القدر من أهمية التنوع الجيني والبيئي، من الممكن أيضاً أن تغيّر الكيفية التي نفهم بها النمط الظاهري على نطاق أوسع. تقول كيت لاسكوفسكي: “نحن دائماً نبحث عن الأنماط والتفسيرات لكل شيء”. وأيضاً: وهكذا عندما نفكر في سلوكياتنا وشخصياتنا، فإننا من الواضح نرغب في الاعتقاد بقول: أوه، هذا نابع من تربيتك كطفل، أو إنّه بسبب ما حدث لأمك، أو بعض التفسيرات الكبيرة. ولكن تبين أنّ هذا قد لا يكون تفسيراً كبيراً. قد يكون مجرد صدفة عشوائية”.

يوافق ميتشيل ويقول: “قد تكون العديد من سماتنا فطرية أكثر مما نعتقد” (هذا أيضا موضوع كتاب ميتشيل الذي نشر في عام ٢٠١٨، بعنوان فطري: كيف تعمل وصلات ادمغتنا على تشكيل هويتنا)

وتحمل هذه الفكرة عواقب أخرى، وخاصة بالنسبة لأولئك الذين يحاولون استخدام علم الوراثة في التنبؤ بسمات تتراوح بين الطول ومؤشر كتلة الجسم إلى الذكاء واحتمالية المرض. وقال ميتشيل: “في نهاية المطاف، سوف تكون مقيداً حقاً في مدى دقة توقعك لأي شيء عن فرد بعينه، إذا كان هذا النوع من الاختلاف العشوائي يشكل أهمية بالنسبة للعديد من جوانب السمات التي نهتم بها“.

بصرف النظر، فإنّ توسيع انقسام الطبيعة – التنشئة بحيث يشمل المتغير الثالث الرئيس يفتح الباب أمام العديد من الاحتمالات المثيرة للاهتمام. يقول ميتشيل: “هذه هي نقطة البداية، لقد حان الوقت لكي نرى ما سوف تكشف عنه هذه المعادلة الموسعة في المرة التالية حول من نحن وكيف جئنا لنكون”.

اقرأ ايضاً: التدليس في شواهد نشأة المعلومات الوراثية الوظيفية الجديدة


[1] كل جراد البحر الرخامي في العالم هو مستنسخ- وعلى الرغم من أنها تتشارك نفس الجينات، هناك اختلافات بينها على مستوى الأفراد في اللون والشكل والحجم والسلوك، يبدون أنّ هذه الاختلافات ناتجة عن أحداث مفعمة بالضجيج وعشوائية أثناء تطورها.

[2] الضجيج التنموي هو مفهوم في علم الاحياء التنموية بحيث يختلف النمط الظاهري بين أفراد نوع معين على الرغم من أنّ كلاً من الأنماط الجينية والعوامل البيئية هي نفسها للجميع، العوامل المساهمة تتضمن التعبير الجيني العشوائي ومصادر أخرى من الضجيج الخلوي.

المصدر
quantamagazine

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى