- د. كليفورد لازروس
- ترجمة: ريم خالد
- تحرير: عبد الله شعبان
إن الزمن ظاهرة مدهشة رائعة، ويُعتقَد أنه صفة الكون الأساسية إلى جانب الأبعاد المكانية الثلاثة المعروفة (الطول، والعرض، والارتفاع)، وقد وصفه العالم أينشتاين الشهير بالزمكان، علاوة على ذلك، أثبت أينشتاين أن الزمن نسبيّ، ويتباطأ -في الواقع- بسبب الجاذبية والتسارع، ومن ثم؛ فإن الزمن نسبيّ اعتمادًا على مُراقِبه، وليس ثابتًا في كل مكان بالكون.
لكن بعيدًا عن التطبيقات النظرية والعملية لنظريات النسبية لأينشتاين، يعرف كل إنسان تقريبًا بديهيًّا أن الزمن نسبي؛ لأنه يبدو كأنه يمر أسرع بكثير كلما تقدمنا في السن، ومن ثم؛ فإن الطريقة التي تقيس بها الساعةُ الوقتَ وكيف نتصورها نحن البشر مختلفة تماما، فهناك علاقة وثيقة بين إحساسنا بسرعة الوقت وتقدمنا في العمر، لكن لا يوجد إجماع على سبب بعينه.
إن التفسير النموذجي الذي قد يفسِّر بعضًا من هذا التصور هو حقيقة بسيطة مفادها أن في تقدير طفل يبلغ من العمر 10 سنوات، يمثل عام واحد 10 بالمائة من حياته كلها، وحتى 15 إلى 20 بالمائة من ذاكرته الواعية، لكن سنة واحدة في تقدير شخص يبلغ من العمر 50 عامًا، يمثل أقل من 2 بالمائة من حياته القابلة للاسترجاع، لذا نجد في الطفولة الأيام في المدارس والصيف طويلة لا تكاد تنتهي ، ونجد زوال الأيام والأسابيع والأشهر السريع يشعر به أغلب البالغين.
وتنبع فرضية أخرى مثيرة للاهتمام من حقيقة أن الأطفال الصغار لديهم معدل ضربات قلب ومعدلات تنفس أسرع من البالغين، لذا فإن تموُّجات أدمغتهم الكهربية الفيزيائية وإيقاعاتها من المحتمل أن تظهر أسرع أيضًا، مثل جهاز تنظيم ضربات القلب تمامًا، الذي يعمل على إبطاء إيقاع القلب مع تقدم الأطفال في العمر، فمن الممكن أن يكون لدى الدماغ جهاز تنظيم ضربات قلب خاص به، وهو أيضًا قد يتباطأ مع تقدم العمر، ويوفّر هذا “المنظِّم العصبي” إحساسًا داخليًا بمرور الوقت.
وفي الواقع، إنْ طلبت من طفل صغير أن يجلس هادئًا، ويغمض عينيه، ويخبرك إذا مرت دقيقة؛ ستلاحظ أن معظم الأطفال يخبرونك بمرور دقيقة خلال 40 ثانية أو أقل، كرر نفس التجربة مع البالغين وكبار السن؛ ومن المرجح أن يخبروا بمرور دقيقة واحدة خلال 60 إلى 70 ثانية، ومن ثم؛ فإن أدمغة الأطفال “تتفوّق”على أدمغة البالغين في السرعة، مما يسمح لهم بالحصول على تجارب أكثر وعيًا خلال وحدة معينة من الزمن، وهذا بدوره يؤدي إلى مرور الوقت ذاتيًا أكثر.
وقد طرح البروفيسور أدريان بيجان مؤخرًا تفسيرًا رائعًا يتعلق بنظرية (منظِّم ضربات القلب العصبية)، يُقدِّم فيه حجة تستند إلى فيزياء معالجة الإشارات العصبية (Bejan 2019)، فهو يفترض أنه بمرور الوقت يتباطأ معدل معالجة المعلومات البصرية، وهذا بدوره يجعل الوقت “يُسرِع” مع تقدمنا في السن.
ذلك لأننا نستطيع أن نقيس (زمن الساعة) قياسًا موضوعيًّا بخلاف (وقت العقل الذاتي) البحت، فالوقت الذهني لم يكن حقيقيًا متفقًا عليه عالميًا قط، على عكس (عدد اهتزازات ذرة السيزيوم)، وهو التعريف المتفق عليه للثانية الواحدة، إن (الوقت الذهني) عملية ترميمية تتضمن قدرًا كبيرًا من الصور الذهنية (أي، 1978، A. A. Lazarus)، ويعتقد بيجان أن الوقت الذي نختبره يمثّل تغيّرات محسوسة في المحفزات البصرية، فنحن نعلم أن شيئًا ما حدث لأننا نرى التغيير، والأشياء تتغيردائمًا في اتجاه واحد: من السبب إلى النتيجة، ولن نرى أبدًا الزجاج المكسور يعيد تجميع نفسه ويرجع كما كان.
وبهذه الطريقة فإن تجربتنا مع الوقت هي عملية استرجاعية دائمًا؛ لذا فهي نسبية، لكن ليس بالطريقة التي قصدها أينشتاين فقط، فالذاكرة ليست مجرد سلسلة من الصور، فهناك أبعاد حسية لها أيضًا، لكن إحساسنا السائد هو الرؤية؛ لذا فإن جزءًا كبيرًا من ذاكرتنا هو بَصَريّ.
ويمكننا التفكير في الكاميرا والفيلم -جزء الكاميرا الداخلي- وجهاز العرض والفيلم على أنها استعارات لتمثيل جزء مركزي من الذاكرة المرئية وعلاقتها بالزمن.
مثل الصور السينمائية في فيلم ما، كلما زاد عدد الصور التي يراها المرء في الثانية يبدو مرور الصورة أبطأ، وكلما قلّ عدد الصور التي يراها المرء في الثانية، كانت الصورة تتحرك أسرع، وبعبارة أخرى، تكشف الحركة البطيئة عن عدد صور خلال الثانية أكثر من الحركة العادية أو الحركة السريعة.
ويؤكد بيجان أنه مع تقدمنا في العمر تتباطأ معدات تكوين الذاكرة العصبية البصرية، وتدخل صورًا أقل خلال ثانية، أي أن المزيد من الوقت الفعليّ يمر بين تصور كل صورة ذهنية جديدة، فيتصور الأطفال ويدخلون مزيدًا من الصور في ذاكرتهم الذهنية لكل وحدة زمنية أكثر من البالغين، لذلك عندما يسترجعون الأحداث -أي مرور الوقت- يتذكرون المزيد من البيانات المرئية.
وهذا هو ما يجعل تصوّر الوقت يمر بسرعة أكبر مع تقدمنا في العمر، فحين كنَّا صغارًا، كانت كل ثانية من الوقت الفعلي مليئة بالعديد من الصور الذهنية مقارنةً بأنفسنا حين نكون أكبر سنًا، مثل الكاميرا ذات الحركة البطيئة التي تلتقط عددًا أكبر من الصور في الثانية مقارنةً بالسرعة العادية، ويبدو حينها أن الوقت يمر أبطأ عند تشغيل الفيلم.
ويجادل بيجان أن السبب الجِذري لهذا التحول الذاتي والزمني هو أن حجم وتعقيد الشبكات العصبية لأدمغتنا يزداد مع نضوجنا واستمرار تقدمنا في العمر، وهذا يعني أن الإشارات الكهروكيميائية يجب أن تعبر مسافات كبيرة ممتدة، ما يعني إبطاء معالجة الإشارات، وعوضًا عن ذلك، يؤدي التقدم في العمر إلى تراكم الضرر في الأعصاب مما يخلق مقاومة أكبر لتدفق الإشارات.
كما يقول بيجان: “غالبًا ما يندهش الناس من مقدار ما يتذكرونه أيام شبابهم التي بدت وكأنها سوف تبقى إلى الأبد، ولا يعني ذلك أن تجاربهم كانت أعمق بكثير أو أكثر قيمة، بل كانت معالجتها تجري أسرع فقط”.
وبطبيعة الحال، فإن ظاهرة مرور الزمن أسرع مع تقدمنا في العمر ليست سوى واحدة من ألغاز الدماغ المجهولة التي -ربما- تكون غير قابلة للاستكشاف، مثلما شملت ميكانيكا الكَمّ كُلًّا من الفيزياء الكلاسيكية والمساهمات الزلزالية لأينشتاين؛ ربما نحتاج إلى نظرية كموميّة للوعي تَجْمَع أعمال العقل المعقَّدة ذات الأبعاد المتعددة.