عام

قلق السعي إلى المأوى

"لا أحد بالمنزل"!

  • ‎تشارلز ليدبيتر
  • ترجمة: سهام محمد
  • مراجعة: مصطفى هندي

من موظف طليق متنقل إلى مغترب منفي: كيف انفصلنا عن منزلنا بفعل فكرة مخادعة.

إن “المنزل الصغير” هو أحد أعجب الأمور في حياتنا الغريبة؛ لقد لاقت هذه المنازل رواجًا بين الآلاف من الناس الذين تسارعوا إلى تشييدها -لا سيما في السواحل الشرقية لأمريكا الشمالية- حيث يتجاوز حجمها بفارق بسيط المستودعات الصغيرة لمعدات الحدائق. لقد فتحت منذ ظهورها الأول مجالًا للصناع  ليتشاركوا أعمالهم وتصاميم منازلهم الصغيرة والمتنقلة بمبالغ زهيدة لا تتجاوز الـ 5,000 دولار.

وتعد هذه المنازل واحدة من الظواهر الاجتماعية التي انتشرت وازدهرت بصورة مذهلة وعجيبة عقب الأزمة المالية عام 2008.

لقد فتحت المنازل الصغيرة آفاقًا أرحب لهؤلاء الذين يحاولون العودة إلى حياتهم بعد الأزمة، وقد ساهم بناؤها على مقطورات وعدم ثباتها في الأرض في إمكانية إعفاء أصحابها من ضرائب الأملاك في الولايات التي تراها مركبات وليست بيوت؛ مما أدى لانتشارها السريع. ونجد أصحاب المنازل الصغيرة يحتشدون في مجموعات رحالة مشتركة ومع ذلك يبقى التنقل ملازمًا لهم كمُلاك مركبات، فمن الصعب أن يشعروا بالانتماء طالما أن منزلهم يسير على عجلات.

إن البيوت الصغيرة مجرد مثال يعكس لنا مدى قدرة البشر على خلق الشعور بروح المنزل رغم قلة حيلتهم؛ فهي رمز لفكرة أعمق تحمل في طياتها البحث الحثيث عن الانتماء، مما يجعل المنزل ذا أهمية سياسية تمامًا مثل أهمية الحقوق والطبقات، لا سيما الآن حيث يشعر الناس بالاغتراب الفعلي بسبب الحياة وسط الابتكارات المتجددة، والتكنولوجيا الفائقة والرأسمالية الشبكية. وفوق هذا فإن التنافس في الحصول على سكن والتنازع حول أحقية من يعيش فيه= هي القضية التي يدور حولها الجدل السياسي القائم بسبب الأزمة الظاهرة حيال الهجرة.

لاشك أن للمنزل مكانة خاصة ومختلفة، ويتطور الشعور بذلك المعنى لأسباب متعددة منها: استقرارنا فيه، وعودتنا له بعد العمل، ونشأتنا بين جدرانه، وذكرياتنا المهمة التي نحملها مع أسرنا، كما أن الدفء الذي نجده فيه يبعث الإحساس بقيمته المتجلية في مناظره والتي تبعث فينا حيوية ونشاطا… وتلك الأحداث الجميلة والهادئة التي عشناها في المنزل تجعل الشعور به يشبه مسامرة الأصدقاء أو المشي على الشاطئ مع حبيب.

تشترك المعاني السابقة عن المنزل في توفيرها شعورًا بالهوية التي تزداد أهميتها اليوم بعد أن بات الناس في توجس شديد من تداعي روابطهم.

ولعل أفضل من فهم هذا الموضوع كان الفيلسوف المثير للجدل: مارتن هايدجر -أحد أعضاء الحزب النازي- الذي لم يعبر قط عن ندمه على الهولوكوست، بل كان متغطرسًا ومنافقًا بامتياز، ويرى بعض النقاد أن رائحة العنصرية تنبعث من فلسفته لحد لا يمكن تفاديه. غالبًا ما رُفضت أفكاره باعتبارها محدودة ورجعية وقديمة، بل حتى مناصروه يعترفون أنه يتعمد الغموض في كتاباته.

مع هذا أظهر الباحث الأسترالي “جيف مالبس” في مقالاته وكتبه أن دراسة هايدجر تفسر الشعور العميق بالاغتراب لدى عامة الناس اليوم وسعيهم الحثيث إلى مأوى، وبالنظر إلى ميله النازي وصعود اليمين الشعبوي في أجزاء كثيرة من العالم المتقدم الآن= فلا شك أن أعمال هايدجر ستساهم في هذا البحث.

لقد اعترض هايدجر على مقولة رينيه ديكارت “أنا أفكر، إذن أنا موجود” والتي تحصر البحث عن الهوية في عقولنا، وذلك من خلال عملية فكرية عقلانية منفصلة عن العالم المادي الذي يقدم نفسه للوجود كلغز يجب حله. أحدثت أفكار ديكارت هذه تحولًا مذهلًا داخل الفلسفة، كما بدأت مسلسل الدراما المحيطة بالعالم الذي يجاهد لنيل المعرفة.

أما هايدجر فلو قدر له تلخيص فلسفته لاختصرها بـ”أنا أسكن، إذن أنا موجود”، حيث ترتبط الهوية عنده بالوجود داخل العالم وحجز مكان فيه، فنحن لا نعيش في الفضاء المجرد الذي يهواه الفلاسفة، بل في مكان خاص له ميزاته المحددة وتاريخه الواضح، كما أننا متداخلون مع عالمنا مذ عرفناه، فهوياتنا ليست محصورة في أذهاننا، بل تتجاوزها إلى أجسادنا كذلك، وهو ما يحدد كيف نشعر ونتحرك واقعيًا وعاطفيًا.

وبدلًا من اعتبار العالم لغزا ينبغي حله، فإن هايدجر يراه مكانًا يتوجب علينا الانخراط فيه والانتباه لكوننا جزءًا من كيانه الكبير الذي ننتمي له. وبحد نقل مالباس يقول هايدجر: “يجب علينا إطلاق أنفسنا للعالم والعثور علينا وسط تقلباته الكبيرة عوضًا من الانفصال عنه طمعًا في السيطرة عليه”.

ولهايدجر تجربته الخاصة عن معنى السكن فقد أمضى معظم أوقات كتابته في كوخ جبلي بسيط يقع عميقًا داخل الغابة السوداء، حيث شعر هناك بدفء المنزل منطلقًا من تراب الوطن الذي يفوح منه حنينه لحياة الفلاحين الألمانية. وبالطبع هو لا يفرض علينا عيش تجربته، ولكنه يحثنا للبحث عن ما يعادلها من الأماكن التي تبعث فينا الراحة داخل العالم، وهو ما قد يجده المرء حين يجلس تحت ظل شجرة في حديقة المدينة أو التحديق في الغيوم البعيدة، أو حتى أثناء الجلوس في مقهى ومراقبة العابرين أمامه.

كان تشخيص هايدجر المتشائم للمجتمع الحديث المضطرب -النابع من رؤيته للعلم والتكنولوجيا- أن هذا العالم يعمل على اجتثاث الناس من ديارهم، وبالتالي قطعهم عن وجودهم في العالم، بل إنه صُمم لرفض أسمى حاجاتنا المتمثلة في الشعور بالهوية والغاية. ويرى أن الحنين والشوق للديار هي حالة مرتبطة بالحداثة وقد عززتها التكنولوجيا.

لم تعد التكنولوجيا مجرد أداة لتوفير الجهد البشري -مثل استخدام آلة الغسيل والثلاجات والسخان- بل اخترقت الخصوصية والحدود القديمة للمنزل، وتزايد بسببها قلق الأباء على أبنائهم وعلاقاتهم في مواقع التواصل وتساؤلهم عن أصدقائهم، فقد أصبح ممكنًا للشباب التواجد في غرفهم وخارجها في آن واحد، إذ أنهم يقضون أوقاتهم داخلها متنقلين بين التطبيقات وصفحاتهم على مواقع التواصل.

لقد كان العمل من المنزل حكرًا على النساء، أما اليوم فقد أصبح كثير من الناس يعملون من المنزل، مثل من يستهلون صباحهم بتفقد رسائلهم الإلكترونية. لقد كانت لدينا في منزل والدي طاولة صغيرة في المطبخ لم تستخدم لغير الإفطار، وأخرى في غرفة الطعام لشرب الشاي فقط وما استخدمناها للعمل قط، أما الآن -في منزل عائلتي- فإننا نضطر لمصادرة جميع الأجهزة و وضعها على الطاولة قبل تناول الطعام.

وتعد خدمة “Airbnb” من أبرز الشواهد على هذه التحولات الالكترونية للمنزل، فقد كتبت مسودتي الأولى من هذا المقال في منزل ياباني يقع في حديقة شخص ما في بروكلي بالقرب من سان فرانسيسكو، حيث استأجرتها من أحد مواقع الانترنت التي تسمح للناس بتأجير منازلهم للغرباء. وهكذا تصبح غرفة النوم مصدرًا للرزق حين نغير دورها في حياتنا بضغة زر على منصة رقمية!

وكما تم تكييف المنازل لتصبح مثل بيئات العمل -حيث نمثل السوق والبنك- فإن أماكن العمل بدورها قامت بإعادة تشكيل نفسها لتجاري المنازل، بل أضحت بيئة العمل الأكثر تطورًا في لندن تسمى بـ second home أي “البيت الثاني”. كما أطلقت شركة “wework” -أكبر الشركات المهتمة ببيئات العمل المشتركة في الولايات المتحدة- مشروعها “welive” الذي يمنح الشباب فرصة لاستئجار غرفة تكفي لوجود سرير من أجل بقائهم قرب مكاتبهم الصغيرة جدًا.

ومع ذلك فقد طغى الشعور بالتهجير الذي خلفته التكنولوجيا على هذا التدجين المُبهم للعمل وتسليع المنزل، فأغلب الغضب الشعبي الذي يجتاح الاقتصادات المتقدمة هو من أشخاص شعروا بهذا التهجير بسبب تقلص الفرص للعثور على أعمال تمنحهم معنى أو مكانة. وبالنظر إلى حجم الكتب الكثيرة التي أصبحت تتحدث عن كآبة مستقبلنا القريب بلا عمل، فإن هذا الخوف من خسارة مكانتنا في عالم التكنولوجيا سيلازمنا لعقود قادمة.

وكما رأى هايدجر فإن الحداثة تجرنا إلى بحث شاق مليء بالإحباط والحنين إلى الشعور بـ”المنزل” في عالم يجعله صعب المنال، ولم يغفل قط المجازفة والتوتر اللذان يكتنفان الأمر، وإنه لمن السهل علينا تخيل منازلنا في وقت ما تتحول إلى رمزً عالمي يجعل من فكرة المنزل جوهرًا لا يمكن المساس به.

هذه مشاعر جيل من الجامعيين الذي دخلوا سوق العمل بعد الأزمة المالية 2008. ومع ارتفاع أسعار العقارات والإيجارات في المدن= فإن جيل الألفية يخوض نضالًا من أجل امتلاك منزل، إنه “جيل الإيجار” الذي نشأ في لندن، وتحديدا في الجنوب الشرقي، هذا الجيل يشعر بالخيانة بعد أن أبعدوا عن منازل طفولتهم، ويشتكون من صعوبة الاستقلال عن العائلة والمكوث معها أطول مما يجب. وعادة ما ينتهي بهم الحال  بمطابخ وحمامات مشتركة يبقون فيها لمدة قصيرة، مثل سكن الطلاب. إن غضب جيل الإيجارات نابع من سعيهم إلى مطلب بدهي وحق مشروع لكل إنسان؛ إنه مجرد مكان يسمى المنزل يستعيدون فيه ذكريات طفولتهم.

ورغم الجهد الشاق الذي يتوجب على جيل الألفية بذله من أجل امتلاك منزل فإنه لا يعد شيئًا أمام العقبات التي يواجهها المهاجرون الاقتصاديون واللاجئون الذين أصبح سعيهم للمأوى جزءا من الغضب السياسي.

نحن في وسط أزمة للاجئين بوجود 65 مليون شخص يضطرون للهجرة في كل أنحاء العالم. في أوروبا استقبلهم العديد من المواطنين البسطاء الذين كانوا على استعداد لمنحهم منازلهم، وفي ألمانيا لم يتردد الآلاف في استضافتهم، إلا أن هذا الاستقبال قابله رفض شعبي كبير لهؤلاء الغرباء المطرودين الذين تسللوا إلينا من أجل الاستفادة من بلادنا والعبث بها.

إن التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وصعود حزب الشعب الدنماركي وحزب البديل في ألمانيا، والجبهة الوطنية في فرنسا= كلها دلائل تشير إلى هذا الفزع من الغرباء اللاجئين الذي قد ينتزعون من المواطنين منازلهم الخيالية. أما في كندا يؤيد المجتمع الاستقبال المنتظم للمهاجرين، ويعد رئيس الوزراء الكندي جاستن توردو شخصية سياسية محنكة حين جعل المجتمع الشعبوي يتجه للترحيب بالغرباء ويتقبل التنوع. بينما في أماكن أخرى من أستراليا إلى النمسا نجد أن الساسة يتوجسون من اليمين الشعبوي الذي يعزف على وتر الخوف من فقدان المنزل أو إلغاء الوجود.

ولكن الأمر لا يتعلق بالشعبوية بقدر ما يتعلق بسيولة العولمة الجارفة التي احتفل بها مؤخرًا كثير من شباب المدن المثقفين، وبما يحدثه ذلك من انقسامات جديدة تتفجر بين هؤلاء الذين يطمحون إلى المدينة العالمية وآخرون يفضلون العيش وسط الحياة الريفية الهادئة، بين من يرون السفر والترحال جزءا من حياتهم اليومية وبين من لا يتنقلون إلا في الأعياد، بين أولئك الذين يحبذون الحياة الشبكية الرقمية والمؤقتة وأولئك الذين يبحثون عن السكينة باستقرارهم في مكان واحد مع نفس الوجوه وذات الروتين.

وكما أكد هايدجر فإن للحداثة علاقة قوية بشعورنا المستمر بالتشرد؛ فمن أسباب خسارة الشركات الكبرى للثقة= استغلالها الواضح لما نراه تشردًا أو “مُواطِن اللامكان”. فقد صرحت رئيسة الوزراء البريطانية الجديدة تيريزا ماي في خطابها أمام المحافظين أن الشركات تهدد بالانتقال إلى مكان آخر إذا طُلب منها دفع ضرائب الحد الأدنى؛ وبهذا يصبح مصير وظائفنا القريبة من منازلنا مهددًا مع هذه الشركات التي تعتبر الترحال وعدم الانتماء نقطة قوة لها. إن ارتفاع حدة هذه التوترات مرهون بتسارع عجلة الحداثة وهذا ما عناه هايدجر.

وتتجاوز حركة الهجرة الكبيرة تجاه المدن عدد اللاجئين، حيث ينتقل لها ما يقارب من 740 مليون شخص سنويًا. وفي تلك المدن ستشتد معاناة الناس مع بحثهم عن مأوى -ولاسيما في الصين- خلال الأربعين سنة القادمة. فالرؤية التي تبنتها المعمارية جاين جاكوبز للحفاظ على الشعور بالمنزل في مانهاتن عن طريق دمج الأحياء مع حياة الشوارع النشطية، لن يكون لها مكان يذكر في الظروف الحضرية الطاغية في المدن التي تخطط الصين لإقامتها في طريق الحرير الجديد تحت مسمى “حزام واحد، طريق واحد” والذي يستهدف ربط آسيا بأوروبا. ولا أظن أن مجلة مونوكل ستصدرها في قائمة أكثر المدن ملائمة للعيش. إن معجزة التطور السريع باتت تشكل كابوسًا مجتمعيًا ما لم يتم تحقيق تطلعات المواطنين وحاجات منازلهم.

وفوق كل هذا نقف أمام التهديد الوجودي المشترك بسبب التغيرات المناخية والفيضانات التي قد تساهم في تهجير الملايين من الفقراء بعيدًا عن منازلهم. حيث تقع أكثر من 100 مدينة رئيسية حول العالم على الخطوط الساحلية التي ستتأثر بالفيضانات ومنها ميامي أول الضحايا والمدينة التي تزدهر بسرعة تضاهي سرعتها في الغرق. كما أن للانبعاثات الكربونية المتزايدة دورا في المجازفة بكوكبنا وجعله مكانًا يصعب العيش فيه، لقد جئنا ووضعنا شروطنا وبصمتنا الخاصة، يذكرنا “عصر الإنسان” باختصار أن التدخلات البشرية طالت كل بقعة في الأرض ولم تعد الطبيعة تأخذ مجراها. صحيح أن العالم ملكنا ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف نعامله؟ أمثل مورد يجب استغلاله أم كمأوى يضمنا؟ ولنصل إلى الإجابة سنحتاج لشيء أكثر من العلم والتكنولوجيا، سنحتاج لأسلوب حياة مختلف، وربما نلجأ إلى الأفكار العريقة للشعوب التي تهتم بعمق الارتباط مع الطبيعة.

مرورًا بهذه القضايا من التكنولوجيا إلى الهجرة والتحضر ثم تغير المناخ، تبقى قضية المنزل هي الأبرز طالما أن حدة مخاوفنا المتزايدة من فقدان أماكننا مازالت متفشية، وطالما نعيش في عالم مضطرب يولد فينا حنينًا لا جدوى منه وتوقًا لعودة مستحيلة إلى منزل مُتخيل. ربما لهذا انتشرت مؤخرًا الكثير من الكتب التي تتحدث عن الفكرة الدنماركية هيغج “hygge” وهي فكرة تدور عن كيفية خلق الراحة والشعور بالدفء والطمأنينة في كل شيء حولك متضمنة التدثر بغطاء السرير، الجلوس عند المدفأة أو في دائرة وتبادل الحديث المتواصل.

تخبرنا المشاهد البسيطة في الثقافة الشعبية عن الأشياء التي يتوق لها الناس مثل ما يقدمه المسلسل التلفزيوني “Downton Abbey” الذي يتحدث عن عائلة بريطانية من الطبقة الارستقراطية تحاول جاهدة التكاتف في منزل واحد لدعم النظام الاجتماعي بأكمله. أو “The Great British Bake Off” الذي ينشر فكرة عالمية عن الخبز كأفضل الأنشطة المنزلية، وحتى برنامج “I’m a Celebrity… Get Me Out of Here” عن مجموعة من الناس الذين يبنون منزلهم معًا في أحد غابات أستراليا ويكون الفوز من نصيب أكثر شخص يضحي في سبيل الحصول على متطلبات الحياة البسيطة من طعام ومأوى.

ولكن لا يمكننا طبعًا رمي كل مشاكلنا التي تدور حول المنزل على التكنولوجيا التي تجتاحنا والرأسمالية المتنقلة، فهناك أسباب أخرى تجعلنا في قلق مستمر مثل الشيخوخة ووقوف الشباب أمام تساؤلاتهم المؤلمة عن وجوب أخذ والديهم المرضى والمعاقين للمنزل، إنه نداء الموت الذي يصعب على الغالبية التعامل معه.

وسيزيد انتشار “الخرف/الزهايمر” -الذي يوشك أن يصبح وباء عالميًا- من هذا الشعور الحاد بالقلق، فكبار السن هم أكثر المتأثرين بالهجرة من المنزل حيث يخسرون كل روابطهم التي تساعدهم على التماسك، فالمصابون بهذا المرض ينسون الأحداث القريبة فلا يتبقى لهم إلا ذكرياتهم القديمة عن أماكن نشأتهم. إحدى المصابات بالخرف اللواتي أعرفهن لا تعتمد على شيء في حياتها غير ذكرياتها البعيدة خلال الحرب حين كانت تنام مع والدتها في أحد الملاجئ، فالمنزل فكرة بعيدة تمامًا مثل شقتها الحالية التي لا تعني لها شيئًا.

وكلما أحبط الناس بسبب فقدانهم لمكانهم في العالم، ازداد قلقهم حول أهمية المنزل واستفحل شعورهم بالغضب، والخيبة، والهزيمة والحزن وتنامى دعمهم للتدابير الرامية لمنحهم السيطرة على مساكنهم، سيبنون الجدران ويصفدون الأبواب لرد كل هجوم محتمل يسلبهم المأوى. سيفعلون أي شيء في سبيل حلم وهمي بمنزل مستقر. في اللحظة نفسها يبدو أن اليمين الشعبوي كان الوحيد الذي أدرك قوة هذه الفكرة التي تحوم حول خلق إحساسنا بالمنزل.

قد نبالغ حين نأمل في وجود رأسمالية عائلية مع رأسماليين كذلك، ولكن هذا ما يطالب به الناس بالضبط؛ نظام اقتصادي يساعدهم على خلق شعور يربطهم بالمنزل، ولا ننسى أن هذا ما فعله الرأسماليون في القرن التاسع عشر أيام روبرت أوين إذ قامت نيو لارناك ميل ومصانع كادبوي في بورنفيل. لقد كانت الرأسمالية الحديثة في أوج ازدهارها عقب الحرب العالمية الثانية حيث لم تقتصر على بناء المصانع بل شيدت ملايين المنازل من داجنهام إلى ديترويت، منازل ملئت بالسلع الاستهلاكية المعمرة التي أحضرتها الرأسمالية المنظمة بفضل الديمقراطية الوطنية. تحتاج الرأسمالية لمنح الناس شعورهم بالاستقرار من جديد عوضًا عن المساهمة في تشتيتهم وجعلهم يتوجسون من خسارة كل شيء في أي لحظة.

وقد يحظى اليسار التقدمي بفرصة عودة إذا جاء بأفكار متفائلة، وتعددية، وديمقراطية لحل معضلة المنزل والمعنى، ربما ستأتي هذه الأصوات من كندا أو الدنمارك أو المدن النامية التي مازالت ملائمة للسكن، أو حتى من الطرق الجديدة للاهتمام بكبار السن أو السكن المشترك والتكنولوجيا الجديدة لبناء منازل رخيصة الثمن بالطابعة ثلاثية الأبعاد.

نحن في حاجة إلى نوع جديد من الاقتصاد المنزلي المشترك لبناء المنازل وتشييدها. فالطريق لامتلاك سلطة تؤهلنا لتغيير المجتمع يبدأ من المنزل.

المصدر
aeon

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى