- تيم برينخوف
- ترجمة : آلاء رضا
- تحرير: محمد عبيدة
رغم أنَّ وليام شيكسبير كاتب محبوب من الكثيرين، إلا أنّ أعماله لا تحظى بإعجاب عالمي؛ فهناك العديد من الكُتاب -الذين كانت شهرتهم موازية لشهرته- قاوموا سيادته كأعظم كاتب مسرحي في كل العصور.
فبعد أن قضى ثلاث سنوات قصيرة ناقدا مسرحيا، شعر جورج برنارد شو بأنّه مُلزم بفتح أعيننا على “فراغ فلسفة شيكسبير”. وأما تولكين فبصفته متخصصًا في الأدب الإنجليزي، كان معروفًا بنقده وازدرائه للشاعر الملحمي والبطولي. ولم يقدر فولتيير أن يتحدث عنه دون أن يبدأ دمه بالغليان. ومع ذلك، لم يحتقر أيّ من عمالقة الأدب شيكسبير بقدر مافعل ليو تولستوي.
تولستوي ضدّ شيكسبير
وُلد مؤلف “الحرب والسلام” في عائلة أرستقراطية، وقرأ هاملت ومكبث منذ صغره، وكبر ممتعضًا من كونه الوحيد من بين أصدقائه وأفراد أسرته الذي لم يعتبرها “روائع حقيقة”؛ فقد صدمته نكات شيكسبير، فوصفها بأنها “بلا روح”، وبأن تلاعباته اللفظية “غير مسلية”، في حين أن الشخصية الوحيدة التي اعتقد أنها امتلكت بالفعل حوارهم الرنان هي شخصية (فالستاف العجوز).
عندما سأل توستوي إيفان تورغنيف و أفاناسي فيت -وهما كاتبان أعجباه واحترمهمها كثيرًا- ليخبراه عن السبب الذي جعل شيكسبير رائعًا للغاية، وجد أنهما كانا قادرين على الرد على سؤاله بعبارات غامضة فقط، وغضوا الطرف عن دقة اللغة، والمستوى العميق في التحليل، الذي أظهروه مرارًا في مؤلفاتهم.
حسب تولستوي، فقد رأى أنه من الممكن أن يستعيد احترامه لأعمال شيكسبير في سن الشيخوخة، ولكن عندما أعاد قراءته للمرة التاسعة في سن الخامسة والسبعين وجد أن موقفه كما هو؛ فقرر أن يطرح انتقاداته على الورق. وعلى الرغم من عدم خلوه من العيوب والتحيزات، إلا أن مقال سنة ١٩٠٦ الذي نتج عن هذا المسعى، كان هجوما مؤكدا على إرث شيكسبير و المؤسسات التي ساعدت في بنائه.
في البدء، شكك تولستوي في قدرة الشاعر على كتابة المسرح، كما بين أن شخصيات شيكسبير قد وضعت في ظروف غير معقولة مثل عمليات القتل التوراتية، ومقايضات هوية المسرحية الهزلية، مما جعل من الصعب على الجماهير أن يرتبطوا بها. كما أنهم غالبًا ما كانوا يتصرفون خارج نطاق شخصياتهم، ولم يتبعوا الإطار العام للشخصية بل سير الحبكة.
وكما كان شائعًا بالنسبة للكتّاب الروس في ذلك الوقت، حاول تولستوي إعطاء كل شخصية في قصصه صوتًا مميزًا؛ صوتًا متنوعًا حسب العمر أو الجنس أو الطبقة، فمثلًا تحدثت الأميرات بلطف وكانت لديهن مفردات غنية، بينما كان الفلاحون السكارى يتدهمون ويغمغمون.
أما مع شكيسبيرالذي كتب دائمًا بنفس الأسلوب الشعري،ف “قد توضع كلمات أحد الشخصيات في فم شخصية أخرى، وبحسب طبيعة الخطاب، سيكون من المستحيل التمييز بين المتحدثين”.
إيمان العالم بشيكسبير:
أصبح تولستوي مهتمًا بشيكسبير ليس فقط لأنه أراد أن يفهم سر كراهيته لهذا الرجل، بل لأنه فوجئ وشك في الاستعداد الذي أظهره الآخرون حين هرعوا لمساعدته في مسعاه.
كتب تولستوي “عندما سعيت للحصول على شرح لعظمة شيكسبير من عَبَدَة شيكسبير نفسه، وجدت فيهم نفس السلوك الذي وجدته -والذي يوجد عادة- في المدافعين عن أي عقائد يقبلونها من خلال الإيمان الأعمى لا العقل والمنطق”.
أما في النصف الثاني من المقال، فيتكهن تولستوي حول كيفية ظهور هذا الإيمان حول شيكسبير من خلال تتبع تاريخ الكتابة العلمية في مسرحياته إلى أواخر القرن السادس عشر، وخلُص إلى أن الشاعر الألماني (يوهان فولفغانغ غوته) قد لعب دورًا رئيسيًا في الارتقاء بأعمال شيكسبير من مستوى الكوميديا الفاحشة المكتوبة لترفيه الطبقة الدنيا -والتي وجدت في زمن الشاعر نفسه- إلى أعمال عبقري الأدب الحساس، والمعين الذي لاينضب.
استقر المثقفون الألمان، الذين خاب أملهم من الأعمال الدرامية القديمة -التي ألهمتهم ذات يوم- على شيكسبير، والذي جعله تركيزه على المشاعر أكثر من الأفكار والخواطر؛ حجر الأساس المناسب لبناء مدرستهم الجديدة لرواية القصص الرومانسية.
لقد كانت مدرسة لم يفكر بها تولستوي من قبل، فقد كان مؤمنًا بأن الفن يجب ألا يكون ممتعًا من الناحية الجمالية فحسب، بل يجب أن يخدم غرضًا اجتماعيًا كذلك. في الواقع اتهمهم تولستوي بـ “اختراع نظريات جمالية في محاولة لتحويل آرائهم إلى حقائق”.
في حين أن تفكير تولستوي قد تشكل بشكل واضح من خلال تحيزاته الخاصة، وأحيانًا ما كان يتجاوز الأمر حدود التآمر؛ فمن الصحيح القول إن العالَم الأكاديمي كان يقفز من اتجاه إلى آخر، وأن هذه القفزات لم تكن دائمًا للسعي وراء المعرفة والمعرفة وحدها؛ فاليوم على سبيل المثال، قد يجادل المرء بأن إرث شيكسبير لايزال قائمًا، ليس بسبب الجودة المتأصلة في عمله، بل لأن مهن العديد من الأكاديميين والممثلين وشركات المسرح أصبحت تعتمد عليه.
رد جورج أورويل على تولستوي
توفي شيكسبير قبل عدّة قرون من ولادة تولستوي، ولذا لم يكن قادرًا على الرد على اتهاماته. لكن لحسن الحظ، كتب مواطنه الكاتب البريطاني (جورج أورويل) لتوستوي ردًا في الدفاع عن الشاعر البريطاني، وهو الرد الذي يقدم حجة مقنعة في إجابته عن سؤال لمَ علينا أن نقرأ شيكسبير؟
ولكن قبل أن يفعل ذلك، يبدأ أورويل بكشف ثغرات تولستوي المنطقية في تحليله للشاعر؛ بدءًا من الفكرة القائلة بأن تحديد ما إذا كان الفنان جيدًا أم لا هو ببساطة أمر مستحيل؛ إنها لحجة سمعناها مرارًا، لكنها تستحق أن نسمعها مرة أخرى فقط من أجل استنتاجها وثيق الصلة بالموضوع.
تمامًا كما كانت أفكار تولستوي حول الفن مختلفة -إن لم تكن على الجانب الآخر المعارض تماماً لأفكار الرومانسيين الألمان- فكذلك أيضًا كانت أفكار الكُتاب الذين ساروا على خطاه. كتب أورويل في مقالته (لير، تولستوي، والملك الأحمق) سنة ١٩٤٧: “في النهاية، لا يوجد اختبار للجدارة الأدبية باستثناء البقاء؛ وهو في حد ذاته مؤشر لرأي الأغلبية”.
اعتقد أورويل أنه من غير الإنصاف بالنسبة إلى تولستوي أن يوبخ مواطنيه بسبب عدم قدرتهم على تقييم عبقرية شيكسبير، في حين أن مفاهيمه هو عن الأدب -أن يكون “صادقًا” ويحاول القيام بشيء “مهم للبشرية”- غامضة بنفس القدر.
يعترض أورويل أيضًا مع الملخصات التي قدمها تولستوي لمسرحيات شيكسبير، وبالأخص إعادة صياغة الخطاب الصادق الذي يلقيه الملك لير بعد وفاة كورديليا على النحو التالي: “ليبدأ مرة أخرى هذيان لير الفظيع، حين يشعر المرء بالخجل كما هو الأمر مع النكات الفاشلة.”
والأكثر فظاعة؛ بحسب اعتقاد أورويل، أن تولستوي حكم على شيكسبير بمبادىء كاتب نثر بدلًا من حكمه على ماكان عليه فعلاً؛ أي لم يعامله كشاعر.
وبالنظر إلى أن معظم الناس يقدرون شيكسبير ليس لتراكيب قصصه أو توصيفاته ولكن لاستخدامه الجديد للغة، كالخطب الجبارة في (يوليوس قيصر)، أو التلاعب الذكي بالألفاظ في (السادة من فيرونا)، والاستعارات المذهلة المتبادلة بين العاشقين (روميو وجولييت) وهذا هو بالضبط ماغفل عنه تولستوي.
الجد الغاضب والطفل
في ختام الأمر، يروق لأورويل أن يتخيل شيكسبير كطفل صغير يلهو بسعادة وتولستوي كرجل عجوز غاضب يجلس في زاوية الغرفة ويصرخ: “لماذا تستمر بالقفز صعودًا ونزولاً هكذا؟ لماذا لايمكنك الجلوس كما أفعل”. قد يبدو هذا سخيفًا، لكن أولئك الذين درسوا حياة تولستوي – وهم على دراية باندفاعه المسيطر عليه وطبيعته الحادة- سيجدون أنفسهم يفكرون في نقاد آخرين قد أدلوا بتصريحات مشابهة.
في حين أن جميع شخصيات شيكسبير تتحدث بهذا النمط الشيكسبيري المنمق والمألوف، إلا أن كل مسرحية من مسرحياته لاتزال تشعرك بأنها فريدة ومتميزة تمامًا عن تلك التي سبقتها. في مقالته (الثعلب والقنفذ) قارن الفيلسوف البريطاني والمولود في ألمانيا (إيزايا برلين) بشكل إيجابي بين الفضول الطفولي الذي قفز به شيكسبير من نوع إلى آخر وبين الطريقة أحادية التفكير التي استكشفت بها روايات تولستوي العالم.
وفي سياق مماثل، أطلق الكاتب المسرحي البلشفي (أناتولي لوناشارسكي) ذات مرة على شيكسبير تسمية “متعدد الألحان إلى الحد الأقصى”؛ مشيرًا إلى مصطلح اخترعه معاصره (ميخائيل باختين)، فقد كان لوناشارسكي مندهشًا من قدرة شيكسبير على إنشاء شخصيات يبدو وكأنها تأخذ حياة خاصة بها وموجودة بشكل مستقل عن منشئها. كان هذا تناقضًا صارخًا مع تولستوي؛ الذي تعامل مع كل شخصية على أنها امتداد أو انعكاس لنفسه واستخدمها كبوق لمعتقداته الخاصة.
إن هذا التناقض بين تولستوي وشيكسبير لهو أكبر من كونه مجرد اختلاف في الذائقة، لقد كان صدامًا بين طريقتين مختلفتين في النظر إلى الحياة والفن. وهو تعارض أكد أورويل تركيز النقاش عليه، وربما كانت مساهمته الأكبر هي في الإشارة إلى أوجه التشابه بين تولستوي وأكثر شخصية كرهها من شخصيات شيكسبير، وهو الملك لير. فقد تخلى كلا الرجلين عن ألقابهما وممتلكاتهما وأفراد أسرهما اعتقادًا منهما أن ذلك سيجعلهما سعيدين، ولكن بدل ذلك انتهى بهما الأمر وهما يتجولان كالمجانين في الريف.