- حسين نور
قال كونفوشيوس ذات مرة: “الزمن الذهبي للإنسان هو الزمن الذي تكون فيه الفنون أداة قياس لأي جماعة هي الأقوى والأفضل”، ورغم أن هذا الزمن لم يأتي بعد ولا ندري ان كان الانسان بتهوره سيصل اليه ام لا، فان كرة القدم اقتربت من هذه الفكرة كثيرا..
ولطالما كانت كرة القدم موضوعا احتفاليا بالنسبة للأدباء وإن كان بعضهم يراها مجرد أفيون للشعوب إلا أن الأغلب يرونها كحياة مصغرة.
فنجيب محفوظ نفسه كان لاعب كرة قدم فيما يعيد البير كامو الفضل لكل ما يعرفه الى كرة القدم ويتغنى غاليانو في كتابه “كرة القدم بين الشمس والظل” بقصصها. هي أولى الهدايا للكثير من الأطفال والنشاط الذي نعرف به تدفق الأدرينالين في أجسادنا بطرق إيجابية.
هي التي لا تحد بعرق ولا ببلد ولا بقارة ولا بدين أو معتقد، هي التي لا يقدر النبلاء الدخول فيها فلا وجود لمهارة “موروثة ” فإما أن تكون لاعبا أو لا تكون. ولذلك تتجنبها الطبقات العليا في كل المجتمعات كي لا يخاطروا بفضح وهم تفوقهم واستحقاقهم لامتيازاتهم من خلال اختبار مثل كرة القدم !
هي التي تحقق أحلام الكثيرين، ويكفي لحي فقير أن يصدر لاعبًا واحدًا حتى يتحول لحي أفضل !
فلماذا كرة القدم؟
ولنجيب على هذا السؤال علينا بالبحث عن قصص كرة القدم، مثل تلك التي حدثت في صربيا إبان تفكك الاتحاد السوفييتي حيث صنف الكرواتيون الصرب كأعداء وفعل الصرب نفس الشيء، فألقي في يد ميهايلوفتيش الصربي والذي تزوج من كرواتية وأنجب منها ومن ثم خرج مرسوم يحرم أي تعامل لشخص صربي مع آخر كرواتي وأيًّا كان من يُتهم بهذه التهمة فهو خائن..
حينها حقق النجم الأحمر الصربي بطولة دوري ابطال أوروبا في مفاجأة مدوية حيث هزم كبار الفرق الأوروبية في أعرق وأقوى مسابقاتها، وبعدها بأيام استُدعي كل من كان على صلة بالكروات بأي طريقة كانت إلى معسكر مماثل لمعسكرات الإبادة النازية، فهم خونة يستحقون العقاب وكان من ضمنهم ميهايلوفيتش الأب وزوجته.
أُحضر الأب والأم ونظر الضابط إليهم وأعاد قراءة الاسم وسأل ميهايلوفيتش في بطء وتردد:
“هل سينسى ميهايلوفيتش ابنك؟
فأجابه الأب بالإيجاب، ابتسم الضابط وعمل على إخراجه من المعسكر على أن يرد الأب جميله بإحضار قميص موقع من ابنه!
هنا أنقذت الكرة الزوجين من الموت وتسامت على القومية فأفضل إنجاز لفريق صربي كان بطله من خلفية كرواتية ليقول سينسا الابن واللاعب عن هذه القصة ” أدركت أن كرة القدم تعني لي الكثير “.
وفي عام ٢٠٠٦ لم تكن ساحل العاج قد لعبت على المستوى القاري فهي دولة دمرت بالحروب الاهلية الآن تملك جيلا شابا قويا بقيادةدروجبا ليحمل أحلامهم لمشاهدة علم ساحل العاج في كأس العالم وينسيهم واقعهم المرير.
طلب دروجبا أن يكون المنتخب مشكلا من لاعبين ينتمون لكل الأعراق الموجودة في ساحل العاج وكان هذا الأمر كفيلا بتهدئة الأمور قليلا بين الأطراف المتنازعة في البلاد، وفي اللحظة التي نجح فيها دروجبا وأصدقاؤه في الوصول إلى كأس العالم وفي لحظة فرح واحتفالات الشعب جثا لاعبوا ساحل العاج وعلى رأسهم دروجبا على ركبهم أمام الكاميرات في تسجيل من غرف تغيير الملابس متوسلين أطراف النزاع في البلاد بأن يوقفوا هذه الحرب، فكانت كرة القدم حلا ومنبرا جامعا لكل أطراف النزاع وبالطبع كانت تعني الكثير لهم..
وذات يوم كان ارسين فينجر أحد أفضل المدربين في اللعبة في أفريقيا فأراد المرور على صديقه المدرب كلود لوروا والذي اصطحبه لمشاهدة أحد اللاعبين الشباب، أعجب به فينجر ودعاه إلى تجربة في فريق موناكو الفرنسي ونجح اللاعب في تجربته وبدأ مسيرة أسطورية توجها بجائزة أفضل لاعب في العالم وأفريقيا وأوروبا ومن ثم عاد بعد الاعتزال لتنمية بلاده والتي أصبح رئيسها اليوم ويرسل دعوة لمكتشفه ارسين فينجر ويقلده أعلى أوسمة بلاده، فكانت كرة القدم تعني لجورج وياه الكثير فلولا كرة القدم لما تمكنا من معرفة مكنونات شخصيته العظيمة التي انعكست كإنجازات خالدة..
يرى الإنجليز أنهم أرباب اللعبة رغم أنها كانت موجودة في الأوروغواي قبلهم ولطالما ادعى الإنجليز اكتشافهم للمحيطات والحضارات ولكل شيء في هذا العالم!
فهم يكتبون ويستعمرون ويصفون كل شيء للفرد الإنجليزي القابع في لندن ويتم التحدث إليه وكأنه يمثل كل العالم فكل مالا يعرفه الإنجليزي في لندن سيتم اكتشافه من انكليزي آخر وهكذا تم نقل كرة القدم من الأوروغواي إلى لندن والتي احتلت نصف العالم فالكل يعرفها ويعرف أساليب الحياة فيها عكس مونتيفيديو المسالمة التي برهنت على أصول الكرة لديها بفوزها بأول بطولتين لكأس العالم، فيما لم يحظى الإنجليز إلا بكأس عالم واحدة مشبوهة وبهدف غير شرعي وكأن كرة القدم كانت تهزأ بهم.
فهم أقل من لعبها جودة وأفقرهم إنجازات، بل إن للأرجنتين فوز تاريخي يعرفه القاصي والداني أتى بعد معركة عسكرية بين الأرجنتين وإنجلترا على جزر فوكلاند، ومع ذلك نعرف هدف مارادونا عليهم و “يد الآلهة ” التي سجلت في شباكهم أكثر مما نعرفه عن انتصار الإنجليز في فوكلاند وعن فوكلاند نفسها !
وطالما أتى الحديث عن مارادونا فبيليه البرازيلي الأسود والذي أتى في حقبة تخجل فيها البرازيل من لون أغلبية سكانها وتأتي بفقراء أوروبا كمهاجرين لتبيض بلدهم وبذلك ستتم معاملتهم كدولة متقدمة ومتحضرة! أتى بيليه ليكون المنجز الأهم لهم بل إنه وفي زيارة لنيجيريا تم إيقاف الحرب الدائرة هناك ووضع هدنة لثلاث أيام لكي يشاهد الكل بيليه وهو يلعب !
وفي الشأن الاجتماعي والسياسي سنجد أن شالكة الألماني عاش أفضل فتراته مع مشجعه الأبرز هتلر فيما موسليني رأى إن أندية مدينة ميلانو وتورينو أقوى من أندية روما فأصدر أمرا لدمج الأندية في روما تحت فريق واحد أطلق عليه “روما ” إلا فريقا واحدا رفض ذلك وهو “لاتسيو” واليوم يتصارع الفريقان في معركة سنوية لحكم المدينة، أما في مدينة ميلان فإن الإيطاليين أرادوا إخراج الأجانب من تشكيلة الفريق فحدث ما أراده القوميون ولكن ظهر فريق آخر اسمه “انترناسيونالي ” ليحفر اسمه في مدينة ميلان بعد انتصاره عليهم في أول مباراة تقام بين الفريقين ويتم تسمية المباراة بديربي الغضب ومازالت تقاليد الديربي القوية تفرض نفسه إلى يومنا هذا.
فيما أطلق توتي سراح الصحفي الايطالي ” جيان لوكا شيغرينا ” بكتابة على فانيلته الداخلية أشهرها بعد تسجيل هدف وكان الصحفي مختطفا في العراق وصادف أن أحد الخاطفين كان من عشاق روما وتوتي فأطلق سراحه!
وترك الجنرال فرانكو بصمته في الكرة الأسبانية باغتياله لخوان غامبر والذي كان مؤسس نادي برشلونة لتبدأ عداوة كروية وتاريخية يحتفي بها العالم، فيما في الأرجنتين كان البوكا ممثل الطبقات الاجتماعية الفقيرة عكس نادي المليونيرات “ريفر بليت ” فكان صراعا طبقيا أكثر منه صراعا كرويا، ويتكرر الصراع في القاهرة فهنا الزمالك ممثل الطبقة الغنية في المجتمع والأهلي الفريق الشعبي والصراع يكاد لا ينتهي بينهما.
وتكاد الكرة تدخل في كل شيء فتتأثر كالإنسان بالبيئة والمجتمع، فالهولنديون يعانون من مشكلة مساحات في هولندا فكانت ثقافتهم تميل إلى الاستفادة القصوى من كل مساحة وانعكس ذلك على فلسفتهم الكروية، فيما الإنجليز بلد المصانع والتي تهتم بالإنتاجية في أقصر وقت وجدوا طريقة لعكس ذلك في فلسفتهم وتكتيكاتهم “الكرات الطويلة” حيث يفتقر اللاعبون الإنجليز للمهارات والمتعة، عكس البرازيليين أصحاب السامبا والرقص في أحيائهم المكتظة وملاعبهم الضيقة ساهمت بإخراج نخبة من المهاريين وجعلت المهارة عنوانا للبرازيل.
فيما تنعكس جدية الألمان في صناعتهم وأساليب حياتهم وبرودة دمهم في كرة القدم حيث إنهم لم يخسروا لقاء بضربات الترجيح أبدا في كأس العالم نظرًا لهدوء أعصابهم ومعهم عليك اللعب إلى صافرة النهاية فروحهم الحديدية التي بنت ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية المدمرة ستعود في أي وقت.
فيما لم تفلح فرنسا في الوصول الى إنجاز مهم بأقدام فرنسية وحظت بذلك بأقدام المهاجرين لتثار مشكلة اجتماعية هناك، حيث يتم النظرللمهاجرين بنظرة عنصرية ويتم اتهامهم بكل شيء وحين يخرج منهم لاعبون يحققون المجد يطلقون عليهم فرنسيين!
فالجيد منهم فرنسي والسيء منهم مهاجر!
وهكذا فضحت الكرة منطقهم المتهالك ومشاكلهم الاجتماعية!
فيما أرث الكوليسيوم الدموي وقتال الإنسان ضد الإنسان أو ضد مفترس ما واستمتاع الجمهور جعل من كرة القدم أمرا جديا في إيطاليا،فجياني بريرا أبرز صحفي رياضي إيطالي كان يرى أن الإيطاليين يعانون من نقص في البروتين ولتجنب آثار هذا النقص عليهم بلعب كرة دفاعية مع انتظار لهفوات الخصم وقتله، وهي ذات الطريقة التي يحارب بها المحارب في الكوليسيوم حين تكون المباراة عبارة عن حياة أو موت!
حقق الطليان الكثير وصدروا العالم هذا الأسلوب الدفاعي وسموه “كتناتشيو ” حتى أتى مدرب لم يلعب كرة القدم وقال ” لو كان هذا أمرا حقيقيا لما فاز رياضي إيطالي واحد في أي لعبة فردية ” فبدأ أريغو ساكي بلعب كرة هجومية وسيطر على المشهد الكروي هناك حتى أن خصومه عايروه بأنه لم يلعب كرة قدم أبدا فكيف يكون مدربا!
فرد بمقولة استحالت إلى مقولة خالدة من بعده: “ليس عليك أن تكون حصانا لتكون فارسًا!”
فالطليان حملوا اللعبة إلى مستوى آخر فلم تكن مباراة انتر ضد ميلان مجرد مباراة كرة قدم بل حربا بين عوائل الطبقة العليا فهنا موراتي صاحب أكبر شركات النفط والاتصالات يستعرض نجومه أمام بيرلسكوني رئيس وزراء إيطاليا والذي كان شعاره حين انتخابه ” سأعيد ايطاليا عظيمة كما أعدت الميلان عظيما!”
وساعدت هذه الأجواء المشحونة على خلق دوائر من حكام وصحافيين مهمتهم تلميع صورة فريق أو تغيير مسار رأي ما إلى أخر أو مباراة لمصلحة فريق آخر في جو أشبه بالمعترك السياسي فكرة القدم في إيطاليا هي المنفذ الذي استطاع الطليان من خلاله توحيد وخلق لغة إيطالية تجمع مختلف اللهجات على أراضيها وعاملا حاسما في الإحساس بالانتماء بين أقاليمها لعلم إيطاليا.
فعالم كرة القدم عالم واسع جدا، لا يمكن دراسة زاوية دون الأخرى فكرة القدم حياة قصيرة ترى فيها لحظات النصر وتحقيق الهدف والوصول إليه بعد بذل مجهود كبير، ولحظات الخسارة والانكسار والاحباط في وجه الخاسر كنظرة باجيو إلى الأرض بعد إضاعته لركلة ترجيحية في نهائي كأس العالم ١٩٩٤ والتي بالمناسبة أثارت جدلا اجتماعيا حيث تمت معايرة باجيو بفكره البوذي وهو أمر محرم في بلد الفاتيكان الحاضن للمسيحية فكيف يكون أفضل لاعب فيها غير مسيحي ؟! رغم أن باجيو أضاع ركلة ترجيح ثانية فيما الأولى أضاعها باريزي وهو مسيحي حتى النخاع !
فالكرة لا تعترف بالحدود وحينما تكون هناك حدود وتنافس ستكون المباراة عبارة عن حرب مصغرة قد تتحول إلى حرب حقيقية كما حدث بين الهندوراس والسلفادور.
فكرة القدم لعبة جماعية والفريق الذي يعمل أفراده بتناغم سينتصر، ولعبة تكتيكية يتحارب فيها المدربان بأفكارهما وكأنهما في رقعة شطرنج حقيقية، ولعبة حظ وتوفيق قادت مدرب بايرن ليفركوزن الذي حمل فريقه المغمور لصدارة الدوري على بايرن ميونيخ ووصل إلى نهائي أوروبا ونهائي كأس ألمانيا فكان بينه وبين المجد أسبوعان لا غير يحقق فيها كل البطولات الممكنة وهذا إنجاز لا يتكرر كثيرا.
ولكن كما تخفى الحياة مفاجأتها وكما تمنحك السم في طبق جميل فإنها غدرت بهم وخسر الفريق كل شيء في النهاية لتكثر الأحاديث أن مدرب الفريق لم يعد ذات الشخص منذ تلك اللحظة..
في كرة القدم تحدث المعجزات ويفوز الصغير على الكبير، والنقص فيها يولد القوة وعلى الطرف الأضعف أن يقدم ٢٠٠٪ ليحقق معجزة الفوز أمام من هو أقوى منه، وهناك دورة من الصعود والهبوط وأوقات للحصاد وأوقات صعبة وأوقات لزراعة بذور النجاح. وعلى الفائز أن يستمر فإن كان لاعبا سيعتزل وإن كان مدربا سيأتي من يفهم خططه، وإن كان فريقا فما أن يحتفل ببلوغ مجده حتى يتعين عليه التغيير أو الخسارة، ويفقد مكانته ويسقط كأنه لم يلبث في مجده إلا ساعة نهار!
كما حدث لإيطاليا بطلة ٢٠٠٦ والتي خرجت من المجموعات في كأس العالم ٢٠١٠، ولم تأخذ أسبانيا الدرس وفازت هي الأخرى ببطولة ٢٠١٠ ولم تغير المدرب أو قوام الفريق الفائز فخرجت من بطولة كأس العالم ٢٠١٤ من المجموعات والتي انتصرت بها ألمانيا ولكن لم تستفد من الدرس هي الأخرى لتخرج من المجموعات بشكل مذل في ٢٠١٨ !
وحدث ذلك كون الفريق الفائز ستتم دراسته ألف مرة من قبل خصومه وسيقدمون ٣٠٠٪ من مستواهم فيما الفريق المنتصر سيكون واثقا من نفسه بشكل يؤثر على طرق إعداده ومن الصعب أن تحفز فريقا فاز بكل شيء ليقدم أداء ولو ٨٠٪ فيخسر الأبطال لهذا السبب والحل يكمن في الإحلال والتجديد لضمان بقاء الرغبة بالإنجاز مشتعلة وهذا أمر تلخصه الحكمة الطاوية ” الشجرة التي تبلغ أعلى علو لها تسقط، والجيش الذي يبلغ أعلى انتصاراته يخسر “.
لم يكن مخطئا البير كامو في نسب كل ما تعلمه الى كرة القدم أتذكر ذات يوم في نهائي لدورة في الأحياء كان فيها فريقنا هو الأفضل وحدث أن تأهل فريق انتصرنا عليه مسبقا في دور المجموعات بنتيجة ٩-٢ إلى النهائي، فكنا في ليلة المباراة نتصارع فيمن سيحمل الكأس إلى منزله وفي يوم المباراة كنا الأفضل إلا أن حارس مرمى فريقنا لم يلعب أمام جماهير قبل ذلك فكان مرتبكا وتسبب بهدفين أخرج الفريق بأكمله من المباراة فضاعت الفرص تواليا نضرًا لتوتر أعصابنا فخسرنا اللقاء بتفاصيل صغيرة لم ننظر لها وعاقبتنا الكرة على التعالي ففهمت حينها المثل الروسي ” لا تبيع جلد الدب قبل سلخه ” ! فطالما أن الكرة في الملعب والحكم لم يصفر فكل شيء وارد، وهذا ما عبر عنه نيتشه بطريقة أخرى “مالا يقتلك يقويك “
وهكذا هي الحياة ما دمت حيًا…فكل شيء فيها وارد…