عام

التَّكْفِيرُ وحقيقة العُذْرِ بالجَهْلِ عند الكَنِيسَةِ الكَاثُولِيكِيَّة

د. عائض بن سعد الدوسري

الألفاظُ والمصْطَلحَاتُ المُسْتَخْدَمَة في بابِ (الأسماءِ والأحكاِم)، كالكافرِ والمؤمنِ والفاسقِ والمنافقِ، وأحكام هؤلاء الأفراد الذين تُطلق عليهم تلك الأسماء في الدنيا والآخرة، ومسائل مثل: شروط وموانع التكفير، والعذر بالجهل، وجنس التكفير وتكفير المُعَيَّن، هي ألفاظ ومصطلحات ومسائل شرعيَّة إسلاميَّة، يتم تناولها عادةً في كتب العقائد والفقه الإسلاميَّة بدقة عالية وورعٍ، بطريقة قد لا يكون لها ما يُماثلها في دين آخر دقةً وتحقيقًا وتفصيلاً، وذلك لأهميَّة وخطورة هذا الموضوع في الدِّين الإسلاميِّ.

ولكنَّ هذا لا يعني أنَّ هذا الموضوع وبعض تفصيلاته وفروعه لم يتم تناولها في بعض الأديان، لتشابه الحالات والظروف، وتحلي جميع الأديان –ذات الأصلِ السماويَّ أو الوضعيَّة- بحدودٍ دقيقةٍ تفصل المنتمين إليه عن الخارجين عنه. وفي تلك الأديان، أو على الأقل في بعضها، ناقش علماء اللاهوت –بدرجة أقل دقة وتحقيقًا مما هو عند علماء المسلمين- حدود الانتماء إلى الدِّين، وأصوله وفروعه وشروطه، والأفعال التي يخرج بملابستها المرء من الدِّين أو يدخل فيه، والظروف المعتبرة عندهم (قانونيًا=شرعيًا=لاهوتيًّا) في العذر الذي يمنع من الحكم على الإنسان من الأديان والمذاهب الأخرى بالهلاك والخلود في النار.

والمراجع العربيَّة بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى دراسات تفصيليَّة جادة تتناول مثل هذه المسائل في الديانات المختلفة والمتعددة بتلك التفاصيل المُشار إليها. وفي هذه الورقة، استعراضٌ مُوجَزٌ عن موقف الكَنِيسَةِ الكَاثُولِيكِيَّة من الأديان والمذاهب غير الكاثوليكيَّة، وحقيقة العُذْرِِ بالجَهْلِ عندها، في محاولة لتقديمِ صورةٍ مُرَكَّزةٍ ومُخْتَصَرَةٍ حول هذا الموضوع، لعل ذلك مما يُثْري في هذا الباب، ويفتح مجالاً يحث على دراساتٍ وأبحاثٍ عربيَّة تتناول هذه المسائل بالتفصيل والاستيعاب في الأديان والمذاهب الدينيَّة المتعددة والمتنوعة الأخرى.

أما بالنسبة إلى الكنيسة الكاثوليكيَّة، فإنَّها عُرِفَتْ عَبْرَ تاريخها الطويل بموقفها المُتَشَدِّد المُتَصَلِّب تجاه المخالفين لها، وتَجَلَّى ذلك نظريًّا في عقائدها المُقَرَّرَة وعمليًّا في ممارساتها المُطَبَّقَة. ومن تلك العقائد التي حَكَمَت علاقتها بالآخر: مسألة (الخَلاص خارج الكنيسة الكاثوليكيَّة)، تلك المسألة العقائديَّة التي ظَلَّت نصوصُ آباءِ الكنيسة ِوالتُّراثُ الكاثوليكيُّ التقليديُّ يُكَرِّسها ويُعَمِّقها ويُنافح عنها، ويرد ويدحض من يُخالفها. وقد استمر هذا الموقف الصَّارم المُتَعَلِّقِ بالخَلاص واستحقاقه وحدوده، مُعظم تاريخ الكنيسة الكاثوليكيَّة، وإن كان قد تخلل ذلك بعض الاجتهادات التفسيريَّة الفرديَّة.

إنَّ عقيدة (الخلاص)، هي من العقائد المحوريَّة في الديانة المسيحيَّة بصورة عامة، وفي المسيحيَّة الكاثوليكيَّة بصورة خاصة، فمنذ أن تقررت هذه العقيدة وارتبطت بأصول الديانة وهي تلقي بظلالها على الكنيسة الكاثوليكيَّة، من داخلها على أتباعها، ومن خارجها على المذاهب المسيحيَّة الأخرى وبقية أديان العَالَم. فقد اعتبرت الكنيسة الكاثوليكيَّة أنَّه لا خلاص لأيِّ فردٍ بشريٍّ في العَالَم إلا من خلال الإيمان بأسرار المعتقد الكاثوليكي والخضوع للسلطة البابويَّة الدنيويَّة والدينيَّة، وقد ظل هذا الاعتقاد مستمرًا لقرون طويلة، وهو الذي يحكم موقف الكنيسة تجاه الآخر.  يقول الأب الكاثوليكي وعالم اللاهوت المعاصر جوستافو الدومنيكاني: “تؤكد الحقائق الكَنَسِيَّة أنَّ الأسرار المُقَدَّسَة وحدها هي القنوات التي تنقل إلينا النعمة الإلهيَّة المُخَلِّصَة من الخطايا التي تحول دون استحقاقنا للحياة الأبديَّة”.

إنَّ (الخَلاص) اعتقادٌ مَرْكَزيٌّ في الإيمانِ المسيحيِّ، فهو، كما يقول المَتْن العقائدي الإيماني للكنيسة الكاثوليكيَّة: (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية)، في المادة رقم (161)، تحت عنوان: (ضرورة الإيمان)، ما نَصُّهُ: “الإيمانُ بيسوعَ المسيح، وبالذي أرسَلَهُ من أجْلِ خَلاصِنا، ضروريٌّ للحُصُولِ على هذا الخَلاص”. وقد تمت مراجعة هذا المتن وفقًا للنصِّ اللاتينيِّ الرَّسميِّ الصَّادِرِ عن البابا يوحنا بولس الثاني، والذي قال عن هذا المتن في مقدمة هذا الإصدار: “إنَّه لسببٌ للفرحة العظيمة أن يتم نشر الطبعة اللاتينيَّة النموذجيَّة من هذا الكتاب. لقد تمت الموافقة عليه وإصداره من قِبَلِي في هذه الرَّسَالة الرَّسُولِيَّة، وهكذا يصبحُ النَّص النِّهائي للتعليم المسيحي”.

وجاء في الوثيقة الفاتيكانيَّة، الصادرة عن (المَجْمَعِ الفَاتِيكَانِيِّ الثَّاني)، التي تحمل عنوان: (دستورٌ عقائِديٌّ: الكنيسة)، “أنَّ المسيح وحده هو وسيطُ الخلاصِ وصِراطُه، هو الحاضرُ لأجلنا في جسده الذي هو الكنيسة”، وكذلك جاء في الوثيقة التي تحمل عنوان: (دستورٌ عقائديٌّ: الوحي الإلهي)، أنَّ “كل ما قام به المسيح من تدابير خَلاصيَّة هو العهدُ  الجديدُ النهائيُّ. ولذلك فهو غيرُ زائلٍ أبَدًا، ولن يُرْقَبَ بعدَه ظهورٌ إلهيٌّ آخر، إلى أن يتجلَّى ربُّنا يسوع المسيح في مجده”.

ولهذا فنحن أمام مشكلة عقديَّة لاهوتيَّة عميقة تواجهها الكنيسة الكاثوليكيَّة في عصرها الراهن، تواجه فيها نفسها وتراثها التي تراكم خلال مئات السنين، وتَعَمَّقَ في وجدانها بصورة يصعب إزالته أو زحزحته. إنَّ الاعتقادُ الرَّاسخُ في الكنيسةِ الكاثوليكيَّةِ ولدى كبار اللاهوتيين الذين رسموا طريقها العقائدي، أنَّه لا خَلاصَ دون يسوع المسيح، كما قَرَّرَ ذلك بولس حين قال: “لا خَلاصَ بأحدٍ غيره [=يسوع]، لأنَّه ما مِن اَسمٍ آخَرَ تَحتَ السّماءِ أُطلِقَ على أحدِ النَّاسِ نَنَالُ بِه أنْ نَخلُصَ“. وقد رَبَطَ كبار علماء اللاهوت في مسألة الخَلاص بين تحَقُّقِهِ الحَصري في يسوع المسيح وتَمَثُّلِهِ في كنيسته الوحيدة الحَقَّة والمُقّدَّسَة، كالقديس أوغسطين (430م)، الذي كان يُمَثِّلُ التيار الرئيس في الكنيسة الكاثوليكيَّة، كان يرى أنَّه لا خَلاص خارج المسيحيَّة والمسيح، وكذلك لا خَلاص خارج الكنيسةِ الكاثوليكيَّةِ، وأيَّدَه وتابعه على ذلك أتباعه. ويضيف عليهم توماس الأكويني (1274م) أنَّ الكَافِرَ الذي لم يسمع بالإنجيل أبدًا ملعونٌ بسبب خطاياه الأخرى دون الكُفْرِ، والتي لا يمكن أن تُغفر بدون الإيمان بالمسيح، ولهذا سيتم استبعادهم من الخَلاص، وكان يرى أنَّ الأسرار المسيحيَّة ضروريَّة للخَلاص ولا خَلاص بدونها. هذا الموقف من الخَلاص خارج الكنيسة هو الموقف الذي تَبَنَّتُه الكنيسةِ الكاثوليكيَّةِ، وصار هو المُعْلَنُ والسَّائِدُ والرَّسميُّ لمعظم الباباوات والمجالس الفاتيكانيَّة، وتَفَرَّعَ عنه الموقفُ الرَّسميُّ والتاريخيُّ للكنيسةِ، الذي كان في غاية الشِّدَّةِ والصَّرامة والحَزمِ، تجاه المخالفين بأنواعهم: المسيحيِّين، وغير المسيحيِّين، فلا خَلاص لأتباع ديانات العَالَم الأخرى، وليس لأديانهم فعاليَّة خَلاصيَّة، بل يجب أن يَتَحَقَّقَ الخَلاص في المسيح وكنيسته الكنيسة الكاثوليكيَّة فقط. يقول الباحث الكاثوليكي بيتر ديمون: “الحقيقة التي تقول: إنَّ كل من يموت وهو جاهلٌ وغير كاثوليكيٍّ لن ينال الخَلاص، هي الموقف الثابت للتقليدِ الكاثوليكيِّ وجميع القديسين، بالإضافة إلى كونه التعليم العقائدي للكنيسة الكاثوليكيَّة“.

ولهذا، فإنَّ موقف الكنيسة الكاثوليكيَّة، طوال تاريخها، من المخالفين لها في العقيدة، داخل الديانة المسيحيَّة نفسها أو خارجها، منذ نشأتها وحتى منتصف القرن العشرين، كان موقفًا شديد القتامة بالغ السلبيَّة، حيث اعتبرت الكنيسة الكاثوليكيَّة بشكلٍ صريحٍ ومُعْلَنٍ أنَّ المخالفين لها -من أتباع الأديان الأخرى كالمسلمون واليهود أو حتى المذاهب المسيحيَّة غير الكاثوليك- كُلُّهم كُفارٌ، وهم جميعًا خارج دائرة (الخَلاصِ المسيحيِّ)، فهم هالكون ومصيرهم إلى جَهَنَّم. ولهذا فقد أخضعتهم طوال تاريخها للامتحانِ والتحقيق عبر محاكم التفتيش إذا كانوا في أراضيها الخاضعة لها، أو سَيَّرَت إليهم الحملات والحروب الصليبيَّة إذا كانوا خارج نطاق سلطانها.

ومنذ العصور الوسطى التي سيطرت فيها الكنيسةُ الكاثوليكيَّةُ على كافة أوروبا، وكانت لها وحدها غالبًا الكلمة العليا، تَجَلَّت عقيدة الخَلاص بشكلٍ واضحٍ، وظهرت تبعاتها بجلاء. ففي عام 1208م أصدر البابا إينوسنت الثالث (1216م) بيان (إعلان الإيمان)، جاء فيه: “نؤمن بقلوبنا، ونعترف بشفاهنا، أنَّ هناك كنيسة واحدة، وهي ليست كنيسة الهراطقة، بل الكنيسة الرومانيَّة الكاثوليكيَّة والرَّسُوليَّة المُقَدَّسَة، التي نعتقد أنَّه لا أحد يخلص خارجها”. وفي عام 1215م أعلن مَجْمَعُ لاتران الرابع بقيادة البابا إينوسنت الثالث أنَّه لا نجاة، ولا مغفرة خطايا، ولا حياة أبديَّة إطلاقًا، لكل من هو غير كاثوليكي، وأنَّ كل دينٍ أو مذهبٍ تؤمن به الشعوب الأخرى غير الكاثوليكيَّة لا يكون إلا هَرْطَقَة. وفي عام 1302م، أَعْلَنَ البابا بونيفاس الثامن (1303م) مرسومًا بعنوان (كَنِيسَةُ مُقَدَّسَةٌ وَاحِدَةٌ)، بأنَّه لا خلاص ولا مغفرة خارج سلطة البابا والخضوع له. يقول البابا بونيفاس الثامن:”نحن ملزمون من خلالِ إيماننا بأن نعتقد وأن نلتزم بأنَّ هناك كنيسة كاثوليكيَّة ورسُوليَّة واحدة فقط، وبكلِ تأكيدٍ نحن نعتقد بشدةٍ ونعترف بإخلاصٍ بهذا، وبأنَّه لا يوجد خَلاصٌ ولا مغفرةٌ للخطايا خارج هذه الكنيسة. وعلاوة على ذلك، فإننا نُعْلِنُ ونُصَرِّحُ ونُوضِّحُ أنَّه بالنسبة إلى كُلِّ مخلوقٍ بشريٍّ، فإنَّه من الضروريَّ الحَتْمِيِّ من أجلِ الخَلاص أن يخضع للحبر الروماني [=البابا]”. وأصبح هذا الاعتقاد المُقَرَّر في تلك الإعلانات والبيانات هو سَيِّدُ الموقف لدى الكنيسة الكاثوليكيَّة، حيث يقول اللاهوتي الكاثوليكي جيرالد جلين أوكولينز اليسوعي: “بقي تعليم إنوسنت الثالث وبونيفاس حول (لا خَلاص خارج الكنيسة) ساريًا بشكلٍ رسميٍّ”.

وقد أكَّدَ مَجْمَعُ فلورنسا المسكوني، وهو المَجْمَعُ المسكونيُّ السابع عشر للكنيسة الكاثوليكيَّة، الذي عُقِدَ في فلورنسا بإيطاليا ما بين (1431م– 1445م)، على تلك العقيدة الرَّاسخة في احتكار الخَلاص والموقف تجاه الأديان والمذاهب غير الكاثوليكيَّة، حيث بَيَّنَ المجمع أنَّ “الكنيسة الرومانيَّة المُقَدَّسَة تعتقد اعتقادًا راسخًا، وتُؤَكِّد وتَعِظ بأنَّه لا أحد باقٍ خارج الكنيسة الكاثوليكيَّة، ليس فقط الوثنيين وحدهم، ولكن أيضًا اليهود أو الهراطقة والمنشقين، لا يمكن أن يصبحوا شركاء في الحياة الأبديَّة، لكنَّهم سيذهبون إلى النَّار الأبديَّة المُعَدَّة للشيطان وأتباعه، ما لم يتم قَبُول شراكتهم [من قبل الكنيسة الكاثوليكيَّة] قبل موتهم”. وكذلك تَمَّ تأكيد تلك العقيدة حين انعقد (مَجْمَعُ تِرَنْت)، وهو المجمع المسكوني التاسع عشر للكنيسة الكاثوليكيَّة، الذي دعا لانعقاده البابا بولس الثالث سنة 1537م، لكنَّه لم ينعقد إلا في عام 1545م في تِرَنْت بشمال إيطاليا، وقد أقيم هذا المَجْمَعُ لتأكيد وتجديد عقائد الكاثوليك، ومحاولة احتواء طائفة البروتستانت أو مواجهتها، والذي انتهى باعتبارها هرطقة، وبرفضها وإصدار الإدانات بحقِّ أتباعها، وباستبعادها من عضويَّة الكنيسة الجامعة الواحدة بوصفها طائفة مُنْفَصِلَة، والتأكيد على أنَّ العقائد الكاثوليكيَّة ضروريَّة للخَلاصِ، وأنَّه لن يكون هناك خَلاص لكل من هو خارج الإيمان الكاثوليكي الحق. وقد أكَّدَ هذا الاعتقاد أيضًا البابا ليون الثاني عشر (1829م) في رسالته البابويَّة (Ubi Primum) سنة 1824م، حيث قال: “من المستحيل بالنسبة إلى الإلهِ الحقيقيِّ، الذي هو الحقيقة نفسها والأكمل والمعطي الأحكم والمجازي الرجال الطيبين، أن يقبل جميع الفِرَق التي تعتقد تعاليم زائفة -والتي غالبًا ما تكون متضاربة ومتناقضة مع بعضها- وأن يمنح لأتباعها العطاءات الأبديَّة….وهذا هو سبب إعلاننا أنَّه لا يوجد خَلاص خارج الكنيسة”. وفي عهد البابا غريغوري السادس عشر (1846م) في عام 1832م، وأيضًا في عام 1864م، وفي عهد البابا بيوس التاسع (1878م)، في منشور اعتماد (قائمة الأخطاء المُدَانة)، ومنها: الخطأ رقم (16)، الذي يَنُصُّ على أنَّه إذا اعتقد إنسانٌ أنَّه: “يمكن للبشر أن يجدوا طريق الخَلاص الأبدي، وينالوا هذا الخَلاص الأبدي من خلال ممارسة أيِّ دينٍ مهما كان”، فهو ملعون. وكذلك الخطأ رقم (79)، مُدَانٌ أيضًا، وهو: “الادعاء بأنَّ الحريات المدنيَّة لجميع الأديان لا تؤدي إلى اللامبالاة الدينيَّة”.

وهكذا، تَرَسَّخَ في عقيدة الكنيسة الكاثوليكيَّة اعتبار أنَّه من الهرطقةِ والرِدَّةِ اعتقاد أنَّ أحدًا من المخالفين من غير الكاثوليك يسعه أو يُمكنه أن ينال الخَلاص خارج الكنيسة الكاثوليكيَّة، وصار من الثابتِ والقطعيِّ أنه لا خَلاص خارجها. يقول البابا بيوس التاسع في سنة 1854م في خطبةٍ رسميَّةٍ له بعنوان: (خِطَاٌب إلى الكَرَادِلَةِ): “لا شَكَّ أنَّه يجب أن نؤمن كمعتقدٍ بأنَّه لا يمكن لأيِّ شخصٍ أن ينال الخَلاص خارج الكنيسة الرومانية الرَّسُولِيَّة، وأنَّها هي سفينة الخَّلاص الوحيدة، وأنَّ كل من لن يدخلها يهلك في الطوفان”. ويذهب البابا بيوس التاسع إلى أنَّ من يجهل الدِّينَ الحقَّ جهلاً لا إرادة له فيه ولا قدرة له عليه، فلا ذنب عليه ولن يُحَاسِبه الله على خطيئة الكُفْرِ، لكنَّه مع ذلك سيذهب إلى الجحيم. أما البابا بيوس الحادي عشر (1939م) في سنة 1929م، في رسالته العامَّة التي تحمل عنوان: (الجَسَدُ السِّريُّ للمَسِيحِ)، فقد اعتبر أنَّ طائفة البروتستانت طائفة مُنْفَصِلَة خارج الكنيسة الحقيقيَّة الوحيدة، وأنَّها قد تخلت عن الكنيسة الحقيقية بطريقةٍ آثمةٍ، ولهذا صاروا خوارج منشقين وهراطقة، ولا يُمكن لهم الخَلاص ولا النجاة إلا بالوحدة والعودة إلى الكنيسة الكاثوليكيَّة الرومانيَّة التي هي كنيسة المسيح الوحيدة الحقيقيَّة، ثم الاعتراف بخضوعٍ والقبول بإذعانٍ بسلطة ونفوذ بُطْرُس، وخلفائه الشرعيين الذين هم الباباوات في الفاتيكان. وأكَّدَ البابا بيوس الثاني عشر (1958م) رفضه لمبدأ التسامح مع الأديان الأخرى، وتأكيده أنَّ ما لا يتوافق مع الحقيقة والأخلاق ليس له الحق في الوجود أو الانتشار. ويُؤكِّد الباحثُ بيتر فان، عَالِم اللاهوت والقس الكاثوليكي الأمريكي المعاصر، أنَّ الكنيسة الكاثوليكية استمرت تضم الإسلام إلى قائمة الهراطقة والأديان الخارجيَّة بوصفه دينًا وثنيًا، وأنَّ هذا الاعتقادَ الكاثوليكيَّ الرَّسميَّ تجاه الأديان ظَلَّ مُسْتَمِرًّا بشكلٍ مُعْلَنٍ وصريحٍ عند آباء الكنيسة الكاثوليكيَّة منذ العصور القديمة وحتى القرن العشرين. وكذلك استمر الحُكمُ على المخالفين، ومنهم الطوائف البروتستانتية، منذ عصر الإصلاح إلى القرن العشرين على أنَّهم هراطقة.

هذا هو الموقف الراسخ للكنيسة الكاثوليكيَّة والسائد في تاريخها، إلا أنَّ العديد من الدراسات الغربيَّة أشارت إلى أنَّ تَحَوُّلاً متأخرًا انعطَفَت معه الكنيسة الكاثوليكيَّة في اتجاهٍ آخر بعيدًا عن ماضيها السابق، المتعلق بموضوع علاقتها بالأديان والمذاهب الأخرى، كان نِتَاج عدة عوامل داخليَّة وخارجيَّة؛ ومنها: عاملٌ داخليٌّ تَمَثَّلَ في الأزمة العميقة في الإيمان التي حَدَثَت بعد اكتشافات الأوروبيين لعوالم جديدة بالنسبة إليها، حوت أُمَمًا وشعوبًا بعيدة تماماً عن المسيحيَّة، ولم يسبق لها قَطُّ أن عَرَفَت بالمسيح أو رسالة الإنجيل، وبهذا تفاجأ الأوروبيون بعدم مركزيَّة الخَلاصِ والفداءِ والإيمانِ المسيحيِّ بالنسبة إلى معظم البشريَّة، مما أثار أسئلة إيمانيَّة حرجة تستدعي جوابًا مُقنِعَاً وردة فعلٍ. أما العوامل الخارجيَّة، فَتَمَثَّلَ أحدها -وخصوصًا في العصور الحديثة- في النظرة النَّقْدِيَّة لأتباع الأديان والمذاهب الأخرى إلى الكنيسة الكاثوليكيَّة وموقفها من المخالفين ومن مسألة (الخَلاص خارج الكنيسة الكاثوليكيَّة)، والذي هَدَّدَ بعلاقات مُتَوتِّرة معها، في وقتٍ كانت الكنيسة تسعى بكلِ جُهْدِها إلى بناء علاقات إيجابية مع الآخرين، وإقامة أجواء مُناسِبَة تُمَهِّدُ إلى الحِوار معهم.

هذه الظروف الحَرِجَة، اضطرت الكنيسة الكاثوليكيَّة إلى عَقْدِ (المَجْمَعِ الفَاتِيكَانيِّ الثَّاني) ما بين عامي (1962م-1965م)، الذي ناقش ضمن فعالياته: مسألة (الخَلاص خارج الكنيسة الكاثوليكيَّة)، محاولة لتغيير نظر العالم غليها وإلى موقفها من الأديان والمذاهب الأخرى. وقد تفاوتت آراء علماء اللاهوت الكاثوليكي تجاه المَجْمَعِ، فَهناك -كالعَالِم واللاهوتي الكاثوليكي اليسوعي القس جيرالد جلين أوكولينز– من رآه حَدَثًا مُهِمَّاً استطاع تطوير بعض التعاليم حول الديانات الأخرى، وَفَتَحَ أرضيَّةً جديدةً معهم، إلا أنَّهم مع ذلك يعترفون بأنَّ المَجْمَعَ لم يطرح مسألة (الخَلاص خارج الكنيسة) بشكلٍ واضحٍ، ولم يُقَدِّم إجابة صريحة عنها. وهناك من يرى أنَّه لا جديد في الموقف الكَنَسِيِّ، وأنَّه من ثَمَّ لا يُعَدُّ موقفًا مُعَارِضًا للتقاليد الكَنَسِيَّة التاريخيَّة، مثل: الباحث المتخصص في الدراسات المسيحيَّة والكاثوليكيَّة روجر تشارلز. ويُمَثٍّلُ رأي البابا بندكت السادس عشر، توافقًا مع هذا الرأي إلى حَدٍّ كبيرٍ. وفي مُقابلِ هؤلاء، أكَّدَ ثلةٌ ولفيفٌ واسعٌ من علماء اللاهوت أنَّ المَجْمَعَ بالفعل أَحْدَثَ تَغَيُّرًا جَذْرِيًّا في موقف الكنيسة الكَاثُولِيكِيَّة تجاه مسألة (الخَلاص خارج الكنيسة). وقد انقسم هؤلاء إلى فريقين، ما بين رافضٍ لموقف المَجْمَعِ وفريقٍ مؤيدٍ له. فالذين رفضوه كانت حُجَّتُهم أنَّ مُخْرَجَات المَجْمَعِ فيما يتعلق بمسألة (الخَلاص خارج الكنيسة) تُعَدُّ انحرافًا عن تقاليدها العريقة والراسخة، ولذا فهي هرطقة نَتَجَ عنها كارثةٌ حقيقيَّةٌ، وأنَّ ما انتهى إليه المَجْمَعُ لا يُمثل الإيمان الكاثوليكيَّ الحقيقيَّ، وليس إلا نتيجة لما سبقه من “انتشار البدعة والحداثة والردة” في العَالَم، وهكذا أراد الشَّيطَانُ بمثل هذه الاعتقاد أن يُدَمِّرَ الإيمان أثناء هذا المَجْمَعِ، الذي هو في الحقيقة مَجْمَعُ الرِدَّة.  وعلى النَّقِيضِ من هؤلاء، جاء كثيرٌ من العلماء واللاهوتيين مؤيِّدين لهذا الموقف الجديد من قِبَلِ الكنيسة الكَاثُولِيكِيَّة، من مثل: الأب فرانسيس سوليفان اليسوعي ، والأب هانس كونج، والأب جوزيف كميل جبارة، واعتبره بمثابة تغييرٍ إيجابيٍّ عميقٍ يجب الاعتراف به.

وكان من أَهَمِّ النُّقَاطِ التي طُرِحَت في المَجْمَعِ: مسألة (خَلاص غير المسيحيين)، في محاولة لإعادة النظر في قاعدة الكنيسة الكاثوليكيَّة: (لا خَلاص خارج الكنيسة). يقول الأب جوزيف جبارة: “الرأي السائد عشيَّة المَجْمَع الفَاتِيكَانيّ الثَّاني كان يُختَصَر بجملة معَبِّرَةٍ تقول أن (لا خَلاص خارج الكنيسة). إنَّها الرؤية الإقصائيَّة التي تحصر الخَلاص فقط في كلِّ المنتمين إلى الإطار الكَنَسيِّ دون سواهم. إذ أقصت عن الخَلاص، فضلاً عن أتباع الديانات الأخرى، المسيحيين غير الكاثوليك الذين اعتبرتهم منشقِّين عنها”.

وعند فَحْصِ موقف (المَجْمَعِ الفَاتِيكَانيِّ الثَّاني) من حدود الخَلاص، من خلال دراسة نصوص وثائق المَجْمَعِ وما صدر بعدها، نَجِدُ أنَّ الرؤية الفَلْسَفِيَّة تجاه قضيَّة (شُموليَّة الخَلاص)، والموقفِ الدِّينيَّ ’الجديدللكنيسة الكاثوليكيَّة تجاه المخالفين لها، قد أُسِّسَ على أربعة أركان عقائديَّة أساسيَّة، كما يأتي:

الأول: تَمَسُّك الكنيسة الكاثوليكيَّة بأصولها التي قَرَّرَتها المَجَامِعُ السَّابِقَةُ.

ففي مقدمة الوثيقة التي تحمل عنوان: (الحريَّة الدينيَّة)، جاء التأكيد على أنَّ ما قَدَّمَهُ المَجْمَعُ مما يُعَتَبَرُ جديدًا ليس في حقيقته إلا امتدادًا للقديم وتأكيدًا عليه، فـ”نحن نؤمنُ أنَّ الديانةَ الحقيقيَّةَ الوحيدةَ قائمةٌ في الكنيسة الكاثوليكيَّةِ والرَّسُوليَّة التي وَكَلَ إليها السيدُ المسيح أمْرَ نَشْرِها بين جميعِ النَّاس، فعلى جميع النَّاس إذن أن يطلُبوا الحقيقةَ ولا سيَّمَا في ما يتعلق باللهِ وكنيستِهِ، حتَّى إذا ما عرَفُوها اعتنقُوها وكانوا عليها مُحافِظين”.

الثاني: الكنيسة الكاثوليكيَّة هي التي تُمَثِّل الحقَّ الكاملَ والخير التَّامَ.

فقد جاء في الوثيقة التي تحمل عنوان: (دستورٌ عقائديٌّ: الوحي الإلهي)، بيان انفراد الكاثوليكيَّة بِكَمَالِ الحقِّ، وتَمَامِ الرِّسَالَةِ الإلهيَّةِ، التي لا توجد في غيرها، فـ”الحقيقة الكاملة، الناجمة عن المكاشفة بالله وبخَلاص الإنسان، لَمْ تتجلَّ لنا ببهاء، كما تَجَلَّت في شخصِ المسيح، الذي هو وسيط كلِّ الوحي وكمالُه في آنٍ واحدٍ”، و “هو غيرُ زائلٍ أبَدًا، ولن يُرْقَبَ بعدَه ظهورٌ إلهيٌّ آخر، إلى أن يتجلَّى ربُّنا يسوع المسيح في مجده”.

الثالث: الكنيسة الكاثوليكيَّة معصومة في تعاليمها.

تُؤكِّدُ الكنيسة الكاثوليكيَّة من خلال وثائق المَجْمَعِ أنَّ تعاليمها وقيمها وأخلاقها وعقائدها معصومة، وكذلك البابا ومن معه من الأساقفة. ففي الوثيقة التي تحمل عنوان: (دستورٌ عقائِديٌّ: الكنيسة)، جاء التذكير بما تمتاز به الكنيسة الكاثوليكيَّة في عقيدتها وأخلاقها عن بقية الأديان، وبما يمتاز به الأساقفة عن غيرهم من البشر؛ إذ إنَّهم “إذا اتفقوا على التعليم، بوجهٍ صحيحٍ، بأنَّ عقيدةً تتعلقُ بالإيمان والآداب تُلزمُ بوجهٍ مُطلق، فتعليمهم إذ ذاك تعليمُ المسيح يُعَبِّرون عنه بعِصمة، إنَّ هذه العِصمة التي شاء الفادي الإلهي أن يُمِدَّ بها كنيستَه لكي تُحَدِّدَ التعليم المتعلِّقَ بشؤون الإيمان والآداب، وهذه العِصمة يتمتَّعُ بها الحبر الروماني [=البابا]، رئيسُ هيئة الأساقفة، بِحُكم مهمته بالذات، بصفةِ كونِه راعيًا ومعلمًا أعلى لجميع المؤمنين ومُكلَّفًا تثبتَ أخوته في الإيمان، يُعلنُ، بتصميمٍ مُطلقٍ، مادةً عقائديَّةً تتعلَّقُ بالإيمان والآداب، لا تقبلُ التعديلَ لأنَّها صدرت بمعُونةِ الروح القدس، فعندما الحبر الروماني، أو هيئةُ الأساقفة بالاتحاد معه، يُصدِران تحديدًا فإنَّما يُصدِرَانه طبقًا للوحي بالذات الذي يجبُ على الجميع أن يأخذوا به ويتطابقوا معه، وهذا الوحي محفوظٌ بدقَةٍ فائقةٍ في الكنيسة، ومعروض بأمانةٍ في نورِ روحِ الحقيقة”.

الرابع: لا خَلاص للبشريَّة خارجه الكنيسة الكاثوليكيَّة.

تُؤكِّدُ الكنيسة الكاثوليكيَّة من خلال وثائق  مَجْمَعِها أنَّ الخَلاصَ والنَّجاةَ لا يكونان إلا من خلال يسوع المسيح وحده، وذلك لا يكون إلا “من خلال كنيسة المسيح الكاثوليكيَّة وحدها”، وأنَّ الكنيسة الكاثوليكية إن قَبِلَت بالمسيحيين غير الكاثوليك، فإنَّها تفعل ذلك لكنَّها تعتبر الشراكة معهم “غير كاملة”، وإنَّ هذه الانقسامات الحاصلة بين المسيحيين هي في حقيقتها “فضيحة”، و”تتعارض مع إرادة الله”، ومن ثّمَّ فإنَّ الواجبَ على كُلِّ مسيحيٍّ، عقيدته تخالف أُسُسَ الاعتقاد الكاثوليكي، أن يعود إلى وحدةِ الكنيسة وحضنها، من خلال فعل “الاهتداء” والتحول عن عقيدته الحاليَّة إلى العقيدة الوحيدة الحقَّة، وهي العقيدة الكاثوليكيَّة، كما ذَكَرَت ذلك الوثيقة التي تحمل عنوان: (دستورٌ عقائِديٌّ: الكنيسة)، وغيرها.

إذن كيف يتم الخَلاص لغير الكاثوليكي؟

وضع المَجْمَعُ شروطًا من أجل الحصولِ على الخَلاص لغير المؤمنين الكاثوليك، وهي:

أولاً: أن يكون طالبًا للحقِّ بصدقٍ باحثًا بِجِدٍّ عن الله مُتَشَوِّقًا إلى هدايته ونعمته.

ثانيًا: أن يكون جاهلاً -من غيرِ تَعَمُّدٍ منه- بالدِّين الحقِّ المُتَمَثِلِ في المسيحيَّة الكاثوليكيَّة. فغير الكاثوليك، كما تؤكد الدستور العقائِديِّ (الكنيسة): “الذين، على غير ذنبٍ منهم، يَجْهَلون إنجيل المسيح وكنيسته، ويَطلبون مع ذلك الله بقلبٍ صادقٍ، ويجتهدون، بنعمته، أن يُتَمِّمُوا في أعمالهم إرادَتَهُ كما يُمليها عليهم ضميرهم، فهؤلاء يُمكنهم أن ينالوا الخلاصَ الأبديَّ”.

ثالثًا: هؤلاء الذي يجهلون الحقَّ من غير عَمْدٍ إنَّما يحصلون على إمكانيَّة الخلاص لا الخلاص ذاته، ولهذا كان المَجْمَع دقيقًا للغاية في صياغة عباراته، حيث تَمَّ صياغة عبارة الوثيقة، الخاصَّةِ بهؤلاء الذي يجهلون الحقيقة بلا ذنبٍ منهم ويرغبون في هِدَايةِ الله، هكذا: “بيد أنَّ تدبيرَ الخلاص يشمل…إلخ”، ولم تكن الصياغة هكذا: “بيد أنَّ الخلاص يشمل…إلخ “.

رابعًا: ومن أجلِ الارتقاء من مرحلة (إمكانيَّة الخَلاص) إلى (الخَلاص ذاته)، من خلال تدابير الخلاص الإلهيَّة، فإنَّ عليهم بذل طاقتهم في سبيل معرفة الحقِّ، فإنَّ ما فيهم من استقامة، وطلبٍ صادقٍ للحقِّ، وبحثٍ حثيثٍ عنه، وقيمٍ رشيدة، ليست كافيةً بذاتها، إنَّما هي الخطوة الأولى المُمَهِّدَةُ للإنجيل، فإن هم فعلوا ذلك مَدَّت لهم العناية الإلهيَّة يدها لهدايتهم وقبولهم الإيمان. والوثيقة تُبَيِّن ذلك بوضوحٍ حيث تقول: “يجتهدون، لا بِمَعْزَلٍ عن مؤازَرة النعمةِ، أن يسلكوا مسلَكًا مستقيمًا، فإنَّ العناية الإلهيَّة لا تَحبُسُ عنهم المُساعدات الضروريَّة لخَلاصهم. ذلك بأنَّ كُلَّ ما فيهم من صلاحٍ وحقٍ هو في نَظَرِ الكنيسة تمهيدٌ للإنجيل، وموهبةٌ من ذاك الذي يُنيرُ كلَّ إنسانٍ [=المسيح] لكي تكون له الحياةُ أخيرًا”.

خامسًا: الوثيقة واضحةٌ جدًا في مسألة (الخَلاص ذاته)، فهو لم يكن ولا يُمكن أن يكون أبدًا إلا من خلال إيمان الكنيسة الكاثوليكيَّة فقط، ومن يرفضون ذلك عن علمٍ ودِرَايَةٍ فلا خلاص لهم. تقول الوثيقة نفسها: “الكنيسة هي الحَظِيرةُ التي إنَّما المسيحُ بابُها الذي لا بابَ سواه ولا بُدَّ منه”، و”ذلك بأنَّ المسيح وحده هو سيطُ الخلاصِ وصِراطُه، هو الحاضرُ لأجلنا في جسده الذي هو الكنيسة…ومن ثَمَّ فإنَّ الذين لا يجهلون أنَّ الله قد أنشأ، بيسوع المسيح، الكنيسة الكاثوليكيَّة إداةً ضروريَّةً ثمَّ يرفضون الدُّخول إليها أو الثباتَ فيها، لا يستطيعون سبيلاً إلى الخلاص”.

سادسًا: وهنا يأتي دور الكنيسة الكاثوليكيَّة ومُساهمتها الفَعَّالة في (تدبير الخلاص) لهذه الفئة المُحَدَّدة، غير الجاحِدَةِ بالحقِّ عَمْدًا، على وجهِ الخصوصِ، من خلال التبشير بينهم بالإنجيل، وتسهيل عملية الدلالة على الحقِّ ومن ثَمَّ نيل الخِلاص الحقيقيِّ، لأنَّ كثيرًا من النَّاس، كما تقول الوثيقة: “كثيرًا ما خَدَعَهم الشيطان فضلُّوا سواءَ السبيل”، فـ”من أجل ذلك، تُعْنَى الكنيسة العنايةَ الحَارَّة بتعزيز الرسالات لأجلِ مجدِ الله وخلاص جميع النَّاس، مُتَذَكِّرَةً وَصِيَّةَ الربِّ القائل: (بَشِّرُوا بالإنجيلِ الخَلِيقَة كلَّها)”. ويُحَذِّرُ البابا يوحنَّا بولس الثاني من الميوعة في الدِّين، ومبالغة بعض المُنْتَمِين إلى الكنيسة الكاثوليكيَّة في التسامح مع الأديان الأخرى، وما ترتب عليه من التقاعس عن تحويلهم إلى الكاثوليكيَّة، ومن ثَمَّ حصولهم على الخَلاص المنشود. يقول البابا يوحنَّا بولس الثاني: “أحد أكثر الأسباب جديَّة لقلة الاهتمام بالواجب التبشيريِّ هو انتشار اللامبالاة، والتي للأسف توجد أيضًا بين المسيحيين. إنَّها تقوم على وجهات نظر لاهوتيَّة فاسدة، وتتميَّز بنسبيَّة دينيَّة تؤدي إلى الاعتقاد بأنَّ دينًا ما هو جيدٌ مثل دينٍ آخر. إنَّ أكثر هذه الأعذار مَكْرًا هي بالتأكيد تلك التي يدعي النَّاس أنَّ [مزاعهم حول التَّعَدَّدِيَّة الدِّينيَّة] تجد الدعم لها في كذا وكذا من تعاليم المَجْمَع [الفَاتِيكَانيُّ الثَّاني]”.

والسؤالُ المُهِمُّ هنا: ما الجديد الذي مَثَّلَتْهُ مرحلة (المَجْمَعِ الفَاتِيكَانيِّ الثَّاني) بالنسبة إلى الكنيسة الكاثوليكيَّة فيما يتعلق بقضية (شموليَّة الخلاص) والموقف من المخالفين؟

تَمَحْوَرَ جواب الكنيسة الكاثوليكيَّة، أو بالأحرى جواب بعض من يَنتمي إليها ويُدَافع عنها، عن هذا السؤال الجوهريَّ من خلال تقديم ما يُعْرَف بـ(تدبير الخَلاص) أو (خُطَّة الخَلاص)، مُبَيِّنينَ وشَارِحِينَ من خلالها تفاصيل مفهوم (شموليَّة الخَلاص)، تلك (الخُطَّة الخَلاصيَّة) التي فَضَّل (المَجْمَعُ الفَاتِيكَانيُّ الثَّاني) أن يَظَلَّ صامتًا حيالها ومُتَوقِّفًا عن الدخول في شَرْحِ تفاصيلها الدَّقيقة.

ومن أجلِ بيان (خُطَّة أو تدبير الخَلاص)، قامت الكنيسة الكاثوليكيَّة وبعض اللاهوتيين الكاثوليك بتقسيم المُخَاطَبِينَ إلى فئاتٍ، كما يأتي:

الفئة الأولى: وهم من عَلِمَ برسالة الإنجيل ونِعْمَة الخَلاص الموجودة في الكنيسة الكاثوليكيَّة، ومن ثَمَّ أدرك ضرورة الانتماء إليها للحصول على ذلك الخَلاص، ثُمَّ تركها عمدًا، فهؤلاء لا خَلاصَ لهم ألبتة. وهذه الفئة من النَّاسِ بدورها تنقسم إلى طائفتين: الطائفة الأولى: المسيحيِّون الكاثوليك الذين كانوا داخل الكنيسة الكاثوليكيَّة، ثم تخلَّوا عنها وخرجوا منها. الطائفة الثانية: المسيحيِّون غير الكاثوليك من أتباع الطوائف الأخرى، كالبروتستانتيَّة والأرثوذكسيَّة وغيرهما، وكذلك غير المسيحيِّين من أتباع الديانات الأخرى، الذين عرفوا المسيحيَّة، وعلى وجه الخصوص الكنيسة الكاثوليكيَّة، ثُمَّ رفضوا الدخول في الحقِّ. فهؤلاء جميعًا لا خَلاص لهم، وسيتم استبعادهم من شُمُوليَّة الخَلاص؛ وذلك لعدم انتمائهم إلى الكنيسة الكاثوليكية وإصرارهم على البقاء خارجها. وهكذا، فإنَّ جميع البشريَّة التي تنتمي إلى الطوائف المسيحيَّة غير الكاثوليكيَّة وإلى الأديان الأخرى المُنْتَشِرَة في العَالَم كُلِّهِ، وتعرف المسيح وكنيسته الكاثوليكيَّة، ثُمَّ لم تقبل بالمسيح ولم تدخل إلى الكنيسة الكاثوليكيَّة، هالكة لا مَحالة، ولا خَلاصَ لها إطلاقًا.

الفئة الثانية: هم من لم يَعْلَم بِرِسَالَةِ الإنجيلِ ولا بِنِعْمَةِ الخَلاصِ، ولم يتركها عمدًا بل جهلاً، ويسعون قدر طاقتهم لإبتغاء مرضاة الله، ويعملون الصالحات ويصنعون البِرَّ، فمثل هؤلاء لهم (تدبير الخَلاص)، وهناك (خُطَّة خلاصٍ) لأجلهم، وهم ليسوا في منـزلة الفئة الأولى، ولهذا فهم يدخول ضمن مفهوم (شُمُوليَّة الخَلاص)، وبه يستحقون مِنْحَةَ الكنيسة ومساعدتها، وهي التي لا تَتَوانى في مَدِّ يد العَون الخَلاصي لهم.

وقد وَضَعَت الكنيسة الكاثوليكيَّة لهؤلاء تدابير وخُطَّة الخَلاص الخَاصِّةِ بهم، وهي قائمة على التفريق بين صنفين ينتميان إلى هذه الفئة الجاهلة التي لم يبلغها الإنجيل، وهما، الصِّنفُ الأول: من كان حيًا ويمكن لدعاة الإنجيل بلوغه. والصِّنفُ الثاني: من كان حيًّا ولا يمكن بلوغه، أو مات ولم تبلغه رسالة الإنجيل.

فالصِّنفُ الأول: من كان حيًا ويمكن لدعاة الإنجيل بلوغه.

وهذا الصِّنفُ هم الفئة الأهم بالنسبة إلى الكنيسة الكاثوليكيَّة، وتكاد تكون معظم وثائق (المَجْمَعِ الفَاتِيكَانيِّ الثَّاني) التي تتحدث عن نشاط الكنيسة ومشاريعها مُكَرَّسَة لمثل هذا الصِّنفِ من النَّاس، فهؤلاء النَّاس هم محور اهتمام الكنيسة، وهم مدار أعمالها الكبرى حول العَالَم كُلِّهِ. وخُطَّة الخَلاص الخَاصِّةِ بهم تَتَمَثَّل في بذل الوسع والطاقة من أجل تحويلهم إلى الديانة الكاثوليكيَّة، إذ لا حقَّ ولا نجاة ولا خلاص في غيرها.

فقد جاء في رِسَالَةٍ عَامَّةٍ أصدرها البابا يوحنَّا بولس الثاني في عام 1990م، أنَّ جميع أفراد البشر قد شُمِلُوا بالدعوة المقدمة لهم من قِبَلِ الكنيسة الكاثوليكيَّة من أجل تسهيل عمليَّة قَبُولهم الإيمان، فكثيرٌ من النَّاس ليس لديهم “إمكانية معرفة وحي الإنجيل أو تقبله”، لأنَّهم “يعيشون في حالات اجتماعيَّة وثقافيَّة لا تسمح لهم بذلك، وقد تربوا في تقاليد دينيَّة أخرى”، ومن هنا يأتي واجب الكنيسة الكاثوليكيَّة في تبليغ دعوة الإنجيل لكافة البشريَّة، ولهذا تؤكد الكنيسة الكاثوليكيَّة على اتباعها بأنَّه “علينا قبل كلِّ شيءٍ مع احترام القناعات الدينيَّة والحساسيَّات كُلِّها، أن نُعلن ببساطة إيماننا بالمسيح مخلص الإنسان الوحيد”، ويؤكد “أنَّ الخَلاص يأتي من المسيح وأنَّ الحِوار لا يُعفي من التبشير بالإنجيل”. وأَكَّدَت الوثيقة التي تحمل عنوان: (نَشَاطُ الكَنِيسَةِ الإرْسَاليُّ)، أنَّ “قصد الله هذا الشَّامِلَ لأجلِ خَلاصِ الجنس البَشَريِّ لا يتحقق” في أذهان النَّاس ولا بمبادراتهم ولا من خلال طرقهم الخاصة أو بواسطة أديانهم، فمحاولاتهم الصادقة كلها، وإن كانت “بتدبيرٍ خَيِّرٍ من العناية الإلهيَّة، [نستطيع] أن نَعُدَّها توجيهًا إلى الإلهي الحقيقي، أو تَهْييئًا للإنجيل”، إلا أنَّها “بحاجةٍ إلى تنويرٍ وتصحيحٍ”، فالخَلاصُ الحقُّ والدِّينُ الحقُّ هو في “المسيح يسوع [الذي] أُرسِلَ إلى العَالَمِ وسيطًا حقيقيًّا بين اللهِ والبشر”، ومن أجل هذا “فما بَشَّرَ به الرَّبُّ أو ما تمَّ فيه لأجل خلاص جنس البشر يجبُ أن يُعلن ويُنشر إلى أقاصي الأرض، ابتداءً من أورشليم، بحيثُ إنَّ ما تمَّ مَرَّةً واحدةً لأجلِ خَلاصِ البشرِ يمتد أثره في جميع البشر على مَرِّ العُصور”. وجاء في الوثيقة التي تحمل عنوان: (نَشَاطُ الكَنِيسَةِ الإرْسَاليُّ): “[أما الذين] يجهلونَ الإنجيل عن غير خطأٍ منهم، فعلى الكنيسةِ تقعُ ضرورة التَّبشير بالإنجيل -وهو أيضاً حقٌّ لها مُقَدَّسٌ-، وهكذا يبقى نشاطُها الإرساليُّ اليوم ودائماً على كاملِ قوَّتِهِ وضرورتِه”.

الصِّنفُ الثاني: من كان حيًّا ولا يمكن بلوغه، أو مات ولم تبلغه رسالة الإنجيل.

ماذا عن الحيِّ الجاهلِ برسالة الإنجيل بلا ذنبٍ منه ولا قصد، والذي لا يُمكن بلوغه من قِبَلِ دعاة الإنجيل والكنيسة لأيِّ سببٍ؟ وماذا أيضًا عن الجاهلِ برسالة الإنجيل، الذي لم تبلغه رسالة الإنجيل ولا طَرَقَ سمعه خِطَابُ دعاتها، ومات على ذلك الجهل، من غير ذنبٍ منه ولا تعمد؟

الحالة الأولى: من يتعذَّر عليه معرفة وسماع رسالة الإنجيل لتعذر وصولها إليه.

بالنسبة إلى هذه الحالة التي يتعذَّر فيها على مثل هذا الإنسان معرفة أو سماع رسالة الإنجيل بسبب تَعَذُّرِ وصولها إليه لأيِّ سببٍ كان، مع صلاحه وتقواه وحُبِّه لله وشغفه بمعرفته وشوقه للإيمان به، لكنَّه جَهِلَ حقيقة يسوع المسيح وخَلاصه، بلا تقصيرٍ منه أو ذنب، فالاتجاه السائد في الكنيسة الكاثوليكيَّة أنَّ مثل هذا الإنسان لا خَلاص له، إذ لا خَلاص من دون معرفة المسيح والإيمان به. وفي مقابل هذا الرأي السائد، هناك محاولات واجتهادات فرديَّة داخل الكنيسة الكاثوليكيَّة من أجلِ الإجابة عن هذا السؤال المُحْرِج. وممن ساهم قديمًا في تقديم إجابة عن ذلك، من علماء اللاهوت الكاثوليكيِّ في العصور الوسطى، توماس الأكويني، الذي حاول أن يُواجِهَ هذه المعضلة، بتقديم حَلٍّ رآه مُناسبًا وكافيًا وقادرًا على تجاوز هذه الإشكاليَّة. فبالنسبة إلى الأكويني هناك ’حقيقتان‘: الأولى: أنَّه في أقاصي العَالَم بين الشعوب والأمم، هناك ولا بُدَّ شخصٌ صالحٌ وطيبٌ، يفعل الخيرات ويتَجَنَّب الشَّر، وفي قلبه حبٌّ وشوقٌ إلى الله، ورغبةٌ عارمةٌ في التسليم له وقَبُولِ رسالته الخَلاصيَّة، وهو في الوقت نفسه يجهل يسوع المسيح ورسالته تَمَامًا، بلا ذنبٍ منه ولا تعمد. الثانية: أنَّ هذا الشخص، مع كل هذا السياق، لا تَسْقُطُ عنه ضرورة الإيمان من أجل خَلاصه، فتلقي الأسرار المسيحيَّة، والإيمان بيسوع المسيح، عند توماس الأكويني، مُسَلَّمَتِان ضروريَّتان للخَلاص لا جِدال فيهما، ولا خَلاص خارجهما. وقد حاول الأكويني تقديم جوابٍ شافٍ عن هذه المُعضِلَة، التي يبدو فيها أنَّ الجَمْعَ بين هاتين ’الحقيقتين‘ صعبٌ، وذلك عندما أَكَّدَ أنَّ الله لا بُدَّ أنَّ يتدخل من أجلِ هذا الشخص، ولن يتركه هكذا هَمَلاً يموت على الكُفِر والضَّلال، وسوف يقوم بإنقاذه بالإيمان المسيحي، إمَّا بطريقة سِرِّيَّة غامضة أو بشكلٍ طبيعيٍّ، وهكذا، فإنَّ هذا الشخص الطيب لن يموت بدون الإيمان بيسوع المسيح، إما بطريقة طبيعيَّة معروفة: من خلال النَّشاط التبشيري الذي يقوم به دعاة الإنجيل فيتمكن أحدهم من الوصول إليه، أو بطريقة غامضة: بأن تنكشف له الحقيقة ويتجلى له ما يقتضي إيمانه بإنجيل يسوع المسيح. يقول توماس الأكويني: “من اتبع عقله الطبيعي في البحث عن الخير وتجنب الشر، يجب علينا بالتأكيد إلى أقصى حَدٍّ أن نؤمن بأنَّ الله: إما أن يعلن له بوحيٍ داخليٍّ ما يقتضي عليه تصديقه، أو سيرسل إليه واعظًا [مُنَصِّرًا]”.

هذه الخُطوة ’التَّقَدُّمِيَّة‘ التي ذَهَبَ إليها توماس الأكويني دفعًا لهذه المعضلة، عَجِزَ (المَجْمَعُ الفَاتِيكَانيُّ الثَّاني) أن يُجاريها أو يُواكبها بمثل هذه الصَّرَاحة. وعلى أيِّ حالٍ، فإنَّه في العصر الحديث قُدِّمَت عدة محاولات للإجابة عن هذه الإشكاليَّة، أبرزها محاولة المفكر اللاهوتي الكاثوليكي الألماني كارل رانر اليسوعي (1984م)، أبرز دعاة (الشموليَّة Inclusivism) في مسألة الخَلاص خارج الكنيسة. لقد ذَهَبَ كارل رانر في هذه الإشكاليَّة إلى موقفٍ يُقارب في موقف توماس الأكويني، حيث أكَّدَ رانر على وجودِ خُطَّةِ خَلاصٍ لهؤلاء، وفق نظريَّة (شُموليَّة الخَلاص) التي أرادها الله، فالله لديه خُطَّة خَلاصٍ لغير المسيحيين، بِطُرقٍ خَفِيَّة يعرفها الله وحده، ولأنَّ هؤلاء الطيبين الصالحين الذين يجهلون رسالة الإنجيل من غير ذنبٍ، يرغبون ويحبون الله، فهم لذلك في الحقيقة يحملون إيمانًا ضمنيًّا بالمسيح، والله لن يتركهم دون مُسانَدة، بل سيعمل لهم عَبْرَ الروحِ القُدُسِ عَملاً سريًّا خفيَّاً، يمتد من خلالِ عَمَلِهِ الخاصِّ مع أولئك الأفراد بطريقةٍ غامضةٍ تُنير دربهم وتكشف لهم الحقيقة. وهذه الطرق السرِّيَّة والخَفِيَّة إلى الخَلاص -التي لا يعرفها إلا الله- والخَاصَّة بهذه الفئة التي لم تسمع ولم تستطع أن تستجيب إلى رسالة المسيح والله، ليست بِكُلِّ تأكيدٍ خارج المسيح، فلا خَلاص بدون الإيمان بالمسيح، ولهذا فإنَّه من أجلِ خَلاصهم لا بُدَّ من وجودِ نوعٍ من الإيمانِ الخارقِ للطبيعة، يتم القَبُول به في حياتهم بطريقة سِرِّيَّة وغامضة قُبَيل الموت، وبطبيعة الحال فإنَّ مثل هؤلاء الأشخاص لن يعلم بهم إلا الله وحده.

الحالة الثانية: من تَعَذَّر عليه معرفة رسالة الإنجيل ومات على ذلك.

إذا كان الجاهل برسالة الإنجيل من دون قصدٍ منه ولا تعمد، وهو يحب الله ويتشوق له، قد تنكشف له في حياته بطريقةٍ غامضةٍ حقيقة يسوع المسيح ورسالته الخَلاصيَّة، فيؤمن به ويقبله، فينال بذلك الخَلاص، فإنَّ هناك من يجهل رسالة الإنجيل، من غير ذنبٍ منهم ولا تعمد، وهو في الصلاح والتقى مثل الذي قبله، ومع ذلك لا تنكشف له الحقيقة في حياته، ولا يتمكن من معرفتها ليقبل بها، وبذلك ينال الخَلاص، فبالنسبة إلى مثل هذا الشخص ما مصيره وقد فاتته فرصة الخَلاص بلا ذنبٍ منه؟ لقد جَسَّدَت هذه الحالة والجواب عنها إشكالية حقيقيَّة داخل الكنيسة الكاثوليكيَّة، وخصوصًا في العصور الحديثة، حيث إنَّها مَثَّلَت حَرَجًا دينيًّا لاهوتيَّا بين العلماء واللاهوتيين المُتَخَصِّصِين، وحَرَجًا ’إنسانيًّا‘ بين عامَّة المسيحيين تجاه النَّاس الآخرين من الأمم والشعوب.

وفي محاولة تقديم الجواب عن هذه المسألة، اضطربت آراء وأقوال علماء اللاهوت الكاثوليك، قديمًا وحديثًا، وإن كانت هذه المسألة إنَّما قد أخذت حَيِّز الاهتمام الأكبر لها والنصيب الأوفر في العصر الحديث. فمُساهَمَة (المَجْمَعِ الفَاتِيكَانيِّ الثَّاني) عند تأملها وفَحْصِها نجدها قد وقفت بِخَجَلٍ دون مُستوى تقريرات توماس الأكويني، الذي كان مع تَعَصُّبِهِ وتَشَدُّدِهِ قد تجازوها. ففي الوثيقة المَجْمَعِيَّة الفاتيكانيَّة التي تحمل عنوان: (نَشَاطُ الكَنِيسَةِ الإرْسَاليُّ) تَمَّ تأكيد أنَّ فالخَلاص الحقّ في “المسيح يسوع [الذي] أُرسِلَ إلى العَالمِ وسيطًا حقيقيًّا بين اللهِ والبشر”، والذين “يجهلون الإنجيل من غير خطأٍ منهم”، فإنَّه “بإمكان الله أن يقود[هم] إلى الإيمان الذي يستحيل إرضاء الله بدونه، بطرقٍ يعرِفُها هو”. ولم يُبَيَّن المَجْمَعُ ماهيَّة هذه الطرق التي لا يعرفها إلا الله والتي بواسطتها يتم الخَلاص، فلم يَتَعَرَّض (المَجْمَعُ الفَاتِيكَانيُّ الثَّاني) لهذه التفاصيل الدقيقة في مسألة الخَلاص، وتَجَنَّب الخوض في تفاصيل مصير هؤلاء الذين يقعون خارج الكنيسة وخارج الإيمان بالمسيح، ولم يطرح إشكاليَّة الخَلاص ولا الجواب عنها بشكلٍ صريحٍ، وحاول تجنب الحديث عن (الوثنيين)، و(الزنادقة)، و(المنشقين). ولَعَلَّ دافع هذا التَّوقف من قِبَلِ (المَجْمَعِ الفَاتِيكَانيِّ الثَّاني) عن الدخول في تفاصيل هذه القضيَّة الشائكة، هو الهرب مما قَدْ تُسَبِّبُهُ من حَرَجٍ من جهتين: حَرَجٌ لاهوتِيٌّ داخل إن الكنيسة الكاثوليكيَّة نفسها إن هي أظهرت ليونة وتساهُلاً تجاه أصولها ومبادئها العقائديَّة، وحَرَجٌ ’إنسانيٌّ‘ أمام العَالَم غير الكاثوليكي إن هي أظهرت تحفظًا وتَشَدُّدًا تجاه خَلاص هؤلاء النَّاس.

وبينما أقرَّ بصراحةٍ ودون مواربة كثيرٌ من اللاهوتيين الكاثوليك المعاصرين -مُتَمَسِّكِين بالموقف التقليدي للكنيسة الكاثوليكيَّة– بأنَّه لا توجد أدوات إلهيَّة للخَلاص خارج الكنيسة المسيحيَّة، وأنَّ هذا جزءٌ من عقيدتهم، إلا أنَّ المساهمة، غير الفَاعِلَة وغير الكافية، من قِبَلِ المَجْمَعِ في محاولة الإجابة عن الخَلاص وماهيَّته، دَفَعَت بعض اللاهوتيين الكاثوليك، إلى مُناقَشّة هذه المسألة بشكلٍ فرديٍّ، ومحاولة تقديم إجابات أكثر جِدِّيَّة وأقرب مُلامسة لهذه الإشكاليَّة المُقْلِقَة، ومع اتفاق الجميع على تفوق المسيحيَّة وأنَّها هي طريق الخَلاص الوحيد، فقد تباينت مواقف اللاهوتيين والفلاسفة المسيحيين المعاصرين حول ماهيَّة خُطَّةِ الخَلاصِ الخَاصَّة بغير المسيحيين. فذهب كثيرٌ منهم إلى أنَّ ذلك يُحَتِّمُ وجودَ خُطَّة خَلاصٍ لهم، لكنَّهم صَرَّحُوا بأنَّهم لا يعرفون ماهيَّة التدبير الذي وضعه الله لغير المسيحيين في خطته تلك للخلاص للبشرية. وفي مُقابِلهم فريقٌ آخر -وفق نظريَّة (شُموليَّة الخَلاص)- ذَهَبَ إلى أنَّ الله لديه بالفعل خُطَّة خَلاصٍ لغير المسيحيين، بِطُرقٍ خَفِيَّة يعرفها الله: من خلال تلقيهم فرصة أثناء الموت أو بعده، فإنَّ الله لن يتركهم دون مُسانَدة.

وإذا كان بعض علماء اللاهوت الكاثوليك يلتزمون الصمت غالبًا حِيَالَ ماهيَّة ذلك الإيمان الخارق للطبيعة الذي ستحصل عليه هذه الفئة من النَّاس عند الموت، ولا يوضحون كيف يتم قَبُولهم لهذا الإيمان الخارق، فإنَّ ذلك يعود إلى الاختلاف في مسألة أخرى، وهي مسألة: (جواز استمرار التكليف والإدراك والاختيار بعد الموت)، إذا الاعتقاد السائد –كما يقول علماء كاثوليك- أنَّ هؤلاء النَّاس يموتون فهم “غير مُدْرِكِين للثالوث الأقدس، ولا يتم السماح لهم باتخاذ أيِّ قراراتٍ حرة بعد الموت”. فمعظم الكنيسة الكاثوليكيَّة، وخصوصًا التيار الأوغسطيني، يرى أنَّه لا حُريَّة ولا اختيار ولا تكليف للإنسان بعد الموت.

ويُمكن إلى حدٍّ كبيرٍ فهم بعض هذه الطرق الغامِضَة والخَفِيَّة -التي لا يعرفها إلا الله- من خلالِ ما ذَهَبَ إليه بعضُ المفكرين اللاهوتيين الكاثوليك الأكثر انفتاحًا وتجديدًا في باب مفهوم الخَلاص، حيث أَكَّدوا على أنَّ إمكان الخَلاص خارج الكنيسة لهذه الفئة سيكون عَبرَ إيمانٍ خارقٍ للطبيعة، يتم القَبُول به عند الموت ساعة الاحتضار أو بعده.  فبعض كبار اللاهوتيين، قدموا توضيحًا مُهِمًّا وصريحًا يشرح ماهيَّة حدوث ذلك الخَلاص الذي لم يَتِم في الحياة الدنيا، وبما أنَّ الخَلاص يتطلب إيمانًا شخصيًا وواعيًا بالمسيح، ولأنَّ هذا غير ممكنٍ لمئاتِ الملايين في هذه الحياة الدنيا، فإنَّ الخَلاص سيكون ممكنًا لهذه الفئة من النَّاس أثناء لحظات الموت أو بعده من خلالِ حضور المسيح شخصيًّا لهم، وكما يقول احد اللاهوتيين: “فإنَّ المسلم المتدين الذي يعيش، دعنا نقول، في باكستان، والمعزول عن الإنجيلِ بواسطة عقيدةٍ إسلاميَّةٍ قويَّةٍ، سيقابل المسيح بعد أو في لحظة الموت، وهكذا ستكون لديه فرصة كي ينال الخَلاص”.

وفي حديثي وحِواري الشفوي المباشر، في أكثر من مُنَاسَبَةٍ، مع عدة رجالِ دينٍ ولاهوتيين كاثوليك وغيرهم، ذكروا أنَّ من طرق حصول هذا الإيمان الخارق حضور يسوع المسيح شخصيًّا عند الاحتضار أمام الشخص المحتضر، إذا كان إنسانًا بارًا وطيبًا وفي الوقت نفسه يجهل رسالة الإنجيل الخَلاصيَّة دون قصدٍ منه ولا ذنب، فحينئذٍ يكشف يسوع المسيح له نفسه وسِرَّهُ وسِرَّ رسالته الخَلاصيَّة، فيؤمن ذلك الشخص المحتضر بالمسيحيَّة ويقبل بافتداء المسيح له. وبعض من تحدثتُ إليهم وحاورتهم استشهد على قوله بحديثٍ مَنْسُوبٍ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وببعض الآثار التي وردت عن بعض العلماء ليثبت كلامه، مع أنَّ الحديث، على فرضِ صحته، وجميع الآثار الأخرى، على خلاف مراده. فقد أورد الإمام القرطبي تحت باب: (ما جاء أنَّ الشيطان يحضر الميت عند موته و جلساؤه في الدنيا و ما يخاف من سوء الخاتمة)، جملة من الحكايات حول ذلك، ومنها قوله: “حضرتُ أخا شيخنا أبي جعفر أحمد بن محمد القرطبي بقرطبة، وقد احتُضر، فقيل له: لا إله إلا الله، فكان يقول: لا، لا، فلما أفاق، ذكرنا له ذلك، فقال: أتاني شيطانان عن يميني وعن شمالي، يقول أحدهما: مت يهودياً فإنَّه خير الأديان، ويقول الآخر: مت نصرانياً فإنه خير الأديان، فكنت أقول لهما: لا، لا، إليَّ تقولان هذا؟!”. ويقول تقي الدين ابن تيميَّة: “أما عرض الأديان على العبد وقت الموت، فليس هو أمراً عاماً لكلِ أحدٍ، ولا هو أيضاً منتفياً عن كلِ أحدٍ، بل من النَّاس من تعرض عليه الأديان قبل موته؛ ومنهم من لا تعرض عليه، وقد وقع ذلك لأقوام، وهذا كله من فتنة المحيا والممات التي أمرنا أن نستعيذ منها في صلاتنا”.

وعلى أيِّ حَالٍ، فمهما وقع من خِلافٍ بين بين علماء (لاهوت الأديان) الكاثوليك والقائلين بـ(بشموليَّة الخَلاص)، بشأن هذه المسألة، ما بين التوقف فيها أو تقديم بعض التفاصيل والتفسيرات التي تَشْرَح طرق الله الخفيَّة والغامِضَة في خَلاص غير المسيحيين، فإنَّهم جميعًا يتوافقون على أنَّ الخَلاص هو في المسيح وحده، وأنَّ غير المسيحي قد يتلقى هذا الخَلاص، من خلال الارتباط بالمسيح، إما ضمنيًا داخل هذه الحياة بوصفه مسيحيًّا مجهولاً أو يحمل إيمانًا ضمنيًّا بالمسيح كما يقوله كارل رانر، أو يتلقى الخَلاص صراحةً خارج الحياة عند الاحتضار أو بعد الموت على يد يسوع المسيح نفسه. ويَلْفِتُ الأب جوزيف جوزيف الانتباه إلى نُقْطَةٍ مُهِمَّةٍ، تقوم على تفريقٍ دقيقٍ مُهِمٍّ اتخذه المَجْمَعُ في مُعَالَجَةِ هذه المسألة، وهي أنَّ مفهوم الخلاصِ الجديد هذا إنَّما يقوم بشكلٍ جوهريٍّ على التمييز “بوضوحٍ بين خَلاص الفرد غير المسيحي، كاليهوديِّ والمسلم والبوذيِّ إلخ”، وبين كون تلك الأديان التي ينتمون إليها، أي اليهوديَّة والإسلام والبوذيَّة وغيرها، تحمل “قيمة الوساطة الخلاصيَّة” بنفسها. فتلك الأديان، في نظر الكاثوليكيَّة، ليست صالحة ولا تُعْتَبَرُ طُرُقَاً للخلاص عند الله ألبتة، فتلك خَاصِّيَّةٌ مُمَيِّزَةٌ للمسيحيَّة الكاثوليكيَّة لا غير، وإنَّما بعضُ أفرادِ تلك الديانات والمذاهب قد يَحْصُلُ على الخلاص، من خلال طُرُقٍ مُعَيَّنَة، وهذه الطرق تتمثل في “إنَّ غير المسيحيِّ يَخْلُصُ بِطُرُقٍ يعرفها الله وحده ولا ضير إنْ بَقِيَ البشر بمنأى عن معرفتها”. فخَلاص مثل هؤلاء الذين يجهلون رسالة الإنجيل والمسيح بلا ذنبٍ منهم إنَّما يَتَمَركَز حول أنَّ إيمانهم بالله وشغفهم بالبحث عنه، يُشير إلى رغبتهم وشوقهم الضمني وغير الواعي إلى الله الحقيقيِّ= يسوع المسيح وكنيسته، وبهذه الرغبة والشوق قد ينالون كأفراد إمكانيَّة الخَلاص بطرقٍ غامضةٍ وسرِّيَّة لا يعرفها إلا الله، في الحياة أو بعدها، لا أنَّهم سيحصلون على الخَلاص من خلال أديانهم البشريَّة، فهي ليست وسائل خَلاص. يقول بيتر فان: “حاليًا، تُعَلِّم الكنيسة الكاثوليكيَّة أنَّ المسيحيَّة، أو على وجه التحديد الكنيسة الكاثوليكيَّة، هي الطريق الوحيد للخَلاص، وأنَّ المؤمنين الآخرين -إذا تم خلاصهم على أحسن الأحوال، فهم مرتبطون بطريقةٍ ما غامضة بالكنيسة، وخَلاصهم هذا يأتي بواسطة المسيح“.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى