عام

نحنُ أُمَّةٌ نرجسيَّة

  • إيريك فان فرسيندول*
  • ترجمة: بيان بنت إبراهيم المعبدي
  • تحرير: إيثار الجاسر

ثقافة النَّرجسيَّة: الحياة الأمريكيَّة في زمنٍ سقطت فيه التَّوقُّعات، كريستوفرلاش.

(W.W. Norton and Co.، 2018، 1st ed. 1978)

إنَّ اتِّهام أمريكا بالنَّرجسيَّة في ظلِّ انتشار وسائل التوَّاصل الاجتماعيِّ؛ والتي تعدُّ اليوم وسيلة لابتداع الاعترافات والتَّعليقات بلا رويَّة، والانصياع الأعمى للمشاهير وتسطيح الخطاب السِّياسيِّ والصِّحافيِّ؛ يعدُّ اتِّهامًا صحيحًا. بل تُقدِّم وسائل التَّواصل الاجتماعيِّ اليوم أدوات تروِّج لتحسين الفردانيَّة داخل معايير حياتيَّة دقيقة، والخضوع للتَّساؤل العقلانيِّ عن الهويَّة في البثوث المسموعة، والتَّشابك اليوميِّ مع السِّياسة البيروقراطيَّة والإعلانات المتطفِّلة. فهذا يوضح لماذا تُتَّهم أمريكا بالنَّرجسيَّة المتجذِّرة.

وكما أظهرت دراسة كريستوفر لاش التي أجراها عام 1997م عنوانها: (ثقافة النَّرجسيَّة)، فلا تعدُّ هذه التُّهمة مسألة فسادٍ أخلاقيٍّ منتشرٍ أو مشكلة تظهر في بعض المجالات المعزولة ولكنَّها تهمة منظَّمة أو مكبوتة. ولا تعدُّ أيضًا اتِّجاه مزعجًا ظهر مع اختراع الآي تونز [iTunes] وألعاب التَّصويب المتمركزة من منظور اللَّاعب وحده، بل هي طريقة وجوديَّة امتدَّت جذورها حتى تشابكت مع ثقافتنا فأحاطت بنا.

وبعبارة أخرى، فالنَّرجسيَّة كاضطراب ثقافيِّ تصف السِّمة الأساسيَّة لشخصيِّتنا الوطنيَّة التي تنتشر اليوم انتشارًا سريعًا ولا يمكن فحصها بسهولة، ناهيك عن استئصالها. ومع ملاحظة القيود المنهجيَّة والإيدلوجيَّة، إلا أنَّ عمل لاش هو دليل محفز لكلِّ الطُّرق المتنوعة التي يتجلى بها هذا الاضطراب. والأهمُّ من ذلك، هي المبادئ الموحَّدة خلف هذه الظواهر. والحقيقة أنَّ ملحوظاته وهو في الأربعين من عمره، لا تزال تشهد على بصيرته و فطنته لتمييز المشكلة. فهؤلاء الذين يسعون للتَّعبير عن نقد لثقافتنا المهيمنة لأجل شفائها أو خلاصها، سيرحبون بعمل لاش حتَّى لو كان تشخيصه الاجتماعيُّ مستلهم من تصنيفات مدوَّنة بمحبرة التَّحليل النَّفسيِّ الفرويديِّ، مقدِمًا تشخيصًا فلسفيًّا عميقًا للشَّخصيَّة البشريَّة والمجتمع.

وأكَّد لاش كثيرًا على أنَّ النَّرجسيَّة التي قصدها ليست هي الأنانيَّة المحضة. ففي وقت مبكِّر، ميَّزَ لاش بين النَّرجسيَّة التي يتحدَّث عنها وبين نماذج أخرى من التَّمركز والانغماس في الذَّات -كالاحتفال بالفردانيَّة اليتيمة في الاعتماد على الذَّات في أدب القرن التَّاسع عشر. بل ما قصده لاش هو تمجيد الذَّات وفرض تصوُّره عن العالم على من حوله. فيسعى النَّرجسيُّ عبثًا لإثبات نفسه بتشكيلها مع عدد لا متناهي من صور المكانة أو النُّفوذ التي تجذب النَّاس نحوه.

يعاني النَّرجسيُّ المظنون من قلقٍ على نفسه يضعف ويحبط أيَّ محاولة تضحية خالصة ونابعة لأجل الأهل والجيران والمجتمع. فهو يفتقر لاستشعار اللَّذَّة والتَّوق والكمد. ويقتاد هذا العجز على السَّخط بكماليَّته لا على المبالغة في تقدير نفسه وما يترتب عليها من إهمال لغيره. ومن وجهة نظر الأنثروبولوجيا المسيحيَّة، يكمن هذا الدَّاء في نكوص المرء قبل تأكُّد وقبول وجوده كفرد صالح. فغالبًا ما يقدِّم لاش الجشع البائس المتواصل بعد القبول الظاهريِّ التي تميِّز النَّرجسيَّة على أنَّها كراهيَّة للذَّات، أي امتصاص الجرح الأوَّلي للحبِّ المرفوض. فهو انعدام الأمان في وجود النَّرجسيٍّ، والشَّك الدَّائم في استحقاقه للحبِّ أو في أنَّه محبوبٌ لدى الجميع. وهذا يَصعُب التَّعرف على نفسه وعلى مسؤوليَّاته في العلاقات.فالنَّرجسيُّ كتوم على نفسه مع زملائه ولكنَّه يقع في دوامة من كراهيَّة الذَّات والتَّشبُّث بها. ولأنَّه لا يدرك ولا يقبل كونه كاملًا قبل أن يملك أيَّ فرصة لإثبات ذلك. فيتهاوى العالم من حوله كأداة، يهدف يائسًا من خلالها لأن يكون محبوبًا. ويعتمد هذا العبث على رفضه قبول أنَّ الخير في العالم لا يعدُّ تهديدًا أو تناقضًا لنفسه. “يغرق النَّرجسيُّ في انعكاسه ولن يفهم قطّ أنَّه كان انعكاس” (كتاب ثقافة النَّرجسيَّة ص286).

يجادل لاش بأنَّ المجتمع الأمريكيَّ في أواخر القرن العشرين، يغرس في أفراده تصرُّفًا قريبًا من هذه الحالة المرضيَّة. ويقترح أنَّ النَّرجسيَّة كاضطرابٍ ثقافيٍّ تعبِّر عن نفسها أولًا في انعدام الثِّقة الكلِّيِّ بالواقع، حيث يعدُّ هذا التَّذبذب هو السََبب وراء الاشمئزاز الفرديِّ قبل تشخيصه. إنَّ المجتمع الذي يعاني من هذا البلاء يلجأ بشدَّة للصُّور المستهلكة والجذَّابة للنَّجاح والأمن كبديل مناسب للحقيقة؛ التي تشوَّهت منذ زمن.

والحال في المجال السِّياسيِّ كما هو في التِّجاريِّ، فإنَّه يظهر الأفضل مما يولد انطباعًا ظاهريًّا -بالمصداقيَّة المشهد. ففي هذا الوسط قد يجد المرء نفسه منجذبًا إلى دراسة ورعاية وتسويق -قصته- متأمِّلًا التَّلاعب بالجمهور وكسب نفسه عند قبول المتابعين له. ويقدِّم لاش ملحوظات في هذا السِّياق قد تبدو مألوفة: “تتوسط الحياة الحديثة كاملة في الصُّور الإلكترونيَّة التي لا تسعفنا في الرَّد على الآخرين، كما لو كانت أفعالهم، وأفعالنا، تسجَّل وتنقل في وقتٍ واحدٍ، إلى جمهور غير مرئيٍّ أو قد تخزن للفحص الدَّقيق في وقتٍ لاحقٍ” (ص 62).

أو مرة أخرى: “يعرض النِّساء والرِّجال صورة جذابة ويصبحوا في ذات الوقت لاعبين ومتذوِّقين أساسيِّين في أدائهم”.فخيبة الأمل في مراوغة أيِّ حقيقة أمام الذَّات، تجبر الأمريكيَّ المعاصر بجهد على خلق الذَّات التي غالبًا ما تبقى مشوَّهة تجميلًا. ويلاحظ لاش أنَّ ثقافة النَّرجسيَّة نشأت في وقتٍ مبكرٍ من دراسته التي تناولت تراجعًا طويلًا للأسرة في الحياة الأمريكيَّة. تظهر وحدة الأنواع الكثيرة من السُّلوك النَّرجسيِّ التي سجَّلها لاش حين نتَّجه إلى انهيار العلاقات العائليَّة الطبيعيَّة التي لها تأثير. ولذا فإنَّ الفصل الخامس من الكتاب يتعامل مع إضفاء الطَّابع الوظيفيِّ على الرِّياضة وتسويقها كمثال على عدم ارتياح ثقافتنا بمكافأة اللَّعب، فهذه الميزة الأساسيَّة للحياة البشريَّة البالغة. فكلا المجالين يرتبطان بالفنِّ والليترجيا -الطُّقوس الدِّينيَّة- ارتباطًا قويًّا. وهذا يشبه ذاكرة الطِّفل الثَّابتة والمنعشة.

ومن المفارقات العجيبة أنَّ ارتياب النَّرجسيِّ حول الواقع يشبه فصل النَّرجسيِّ عن التَّمثيل المتاعيِّ -الوهم- (وتعني في اللَّاتينيَّة in-ludere أي لاهيًا).

“لطالما كان اللَّعب، بحسب طبيعته، مبتعدًا عن الحياة العمليَّة؛ ومع ذلك فهو يحتفظ بعلاقة طبيعيَّة مع حياة المجتمع. واستنادًا لقدرته على تصوير الواقع وتقديم عرض مقنع لقيم المجتمع… فعند تقدير الألعاب والرِّياضة كشكل من أشكال الهروب، ستخسر هذه الألعاب قدرتها في كونها مهرباً” (ص148).

وينعكس التَّشويش الثَّقافيُّ للمكافآت والألغاز على الإصلاحات التَّعليميَّة -الفصل السادس. فباسم فعاليَّة التَّعلُّم وترابطه، ابعدت هذه الإصلاحات الطَّالب عن المصادر الحيَّة لثقافته. ونتج عن فشل الأخذ بكنوز الحكمة الغربيَّة سلعنة المنهج لدراسة هذه المحاولة لأجل الجدل، وكان النَّجاح الوحيد في تعزيز الشُّعور النَّرجسيِّ المخفيِّ والمفقود والمضلَّل في الواقع.

إنَّ الاعتداء على الطُّفولة بإضفاء الطَّابع المهنيِّ على التَّعليم هو كما وصفه لاش، جزء من المسؤوليات الكبيرة المحوَّلة من الوالدين إلى الخبراء والمنظَّمات -الفصل السابع. فيتجلَّى هذا العنف ضدَّ السُّلطة العائليَّة في الاختلاف الجنسيِّ، كالوعود الحديثة بالاتِّحاد العاطفيِّ المكثَّف بين الرَّجل والمرأة فهي وعود قد أًخلفت، بسبب فصل هذه الألفة عن تربية الأطفال -الفصل الثامن.

“بعد موت المرء، ليس هناك شأنٌ يُعنى به”، وهذا يعطي إلحاحًا للسَّعي خلف المواعيد الشَّخصيَّة العاطفيَّة اليوم، فتصبح الألفة صعبة المنال أكثر من ذي قبل” (ص 224).

لا يعدُّ الهوس بالعاطفة رفضًا للطُّفولة وحدها بل للشَّيخوخة والموت أيضًا -الفصل التاسع.

“حين تصبح احتماليَّة الاستخلاف لا تطاق، فإنَّ الأبوَّة نفسها، والتي ستحدث. تبدو تقريبيًّا كشكل من أشكال التَّدمير الذَّاتيِّ» (ص252).

حقيقٌ (أنَّه زمنٌ سقطت فيه التَّوقُّعات)

وكما يوضِّح الفصل العاشر والأخير من الكتاب، فإنَّ فقدان الأبوة هو أحد الجذور الأساسيَّة لضياع الحياة العائليَّة، ورفض السُّلطة الأبويَّة التي تميِّز مفهومنا الجوهريَّ والثَّوريَّ -التَّوليديَّ- عن الحريَّة.

فيجد النَّرجسيُّ نفسه خالٍ من الذَّات؛ لأنَّه لم يعد يعرف كيف يعدُّ نفسه ابنًا ووريثًا محبوبًا. ولهذا السَّبب، قد نقول أنَّ أزمتنا الحقيقيَّة هي أزمة البلوغ؛ الخوف من أن تصبح أبًا أو أمًّا وتحافظ على وجودك الأوَّل.

ويعطينا المشهد الثَّقافيُّ البائس دليلًا على أنَّ معدن المرء الذي يظن أنَّه يُصقَل معه كلَّما كبر ويمثِّل مجتمعه خير مثال، قد ذاب واختفى.

 “عيش اللَّحظة هو الشَّغف الشَّائع –أي تعيش لنفسك لا لأسلافك أو نسلك. فنحن نفقد الشُّعور بالاستمرار التَّاريخيِّ، الشُّعور بالانتماء لمن سبقنا والانتماء لمن سيخلفنا” (13).

إنَّ اجتثاث الرَّوابط الإنسانيَّة من النَّاس والدَّعوة إلى تلقي ونشر ثقافة وديعيَّة يكون الفرد وريثًا لها، سيقضي على أيِّ فرصة لاكتشاف الذَّات اكتشافًا طبيعيًّا. فحين يفقد المرء القدرة على التَّعرُّف على أسلافه وأحفاده، سيترك وحيدًا يفتش عن خلودٍ زائفٍ بأداء شخصيَّة مفتونة بنفسها. و مع الوقت الحاضر الذي أصبح تمسح فيه الذَّاكرة والوعود باستمرار؛ يُحرَم الممثل من العيش بسبب التزامه بنمط حياة موروث، وأمله في التَّنازل عن أعماله لمن بعده. والواضح أنَّ النَّرجسيَّ لا يستمتع ولا يقبل وقته كما هو؛ لأنَّه نسي أنَّ مهمته الأساسيَّة تكمن في الجود بالخير الذي معه. ولكنَّه اليوم زاد في حصَّته من الميراث. وهذا الفشل في توريث التَّقاليد القيِّمة هو تعبيرٌ مجتمعيٌّ عن مدى انهيار الحياة العائليَّة، حيث يساعد الآباء أبناءهم في تخطِّي الواقع لتحريرهم إلى أبوَّتهم.

ولربما تردَّد لاش في التَّوصية لطريقٍ يمضي بنا قُدمًا. ولكن أعظم درس نتعلمه من كتابه هو أنَّ أوَّل طعنة هدمت ثقافتنا كانت في مصادرها: شهادة أسلافنا، وأولويَّة الفطرة الطبيعيَّة.


  • إيريك فان فرسيندول نال درجة الدُّكتوراه في معهد يوحنا بولس الثَّاني البابوي في واشنطن، وهو مدرِّس فلسفة في كلِّيَّة المجدليَّة للفنون اللِّيبراليَّة.
المصدر
humanumreview

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى