- ديان كويل
- ترجمة: الجراح القويز
- مراجعة وتحرير: محمد الربيعان
الكتب المناقشة في المقال
In Defense of Open Society George Soros Public Affairs (2019)
Capitalism, Alone: The Future of the System That Rules the World Branko Milanovic Belknap (2019)
Measuring What Counts: The Global Movement for Well-Being Joseph Stiglitz, Jean-Paul Fitoussi and Martine Durand The New Press (2019)
“رغم عدم سريان القوانين في الأوقات غير طبيعية إلا أن الناس يتبعونها لمصلحتهم”. هكذا كتب الرأسمالي وصاحب الاحسان جورج سوروس عن (اللحظة الثورية) في كتابه In Defense of Open Society ومجموعة مقالاته التي تشخص الحالة المؤسفة للرأسمالية. ومن المصادفة أن هذا الاستنتاج وجد في كتابين آخرين مع اختلاف وجهات النظر فهم ينصون “أنه في الاضطراب الحالي، فإن النمط السائد للتنظيم الاقتصادي غير مستدام”
في كتابه Capitalism, Alone ينحو الاقتصادي برانكو ميلانوفيتش نفس سابقه ولكن بنبرة أقل ترويعاً. حتى عندما ابتعد عن التشويش الموجود في رأسمالية الرفاهية, فهو يكشف عن مستقبل يتشكل من صراع الدول الرأسمالية – الولايات المتحدة مفرطة السلع مقابل الصينيين مفرطي التسييس – وبالاستقطاب بين النخب والباقي. وفي الوقت نفسه في كتاب Measuring What Counts، جوزيف ستيغليتز, الحائز على جائزة نوبل، مع زميليه الاقتصاديين جان بول فيتوسي ومارتن دوراند تجنبوا التصريحات بخصوص هذا الموضوع ولكن ركزوا على وجود حاجة إلى مقاييس مختلفة لإعادة تقييم الوضع. ومما يبين أنهم استجابوا لنفس التوترات ،كتابتهم بأنه لم يعد بإمكاننا تجاهل “أن القليل جدًا من ثمار النمو على مدى العقود الماضية قد وصل إلى 90٪”.
بالنظر إلى الاضطراب العالمي المستمر – من الحكومات “الشعبية” إلى غابات الأمازون المطيرة المحترقة – يتعامل كل كتاب مع السياسة والسياسات. إن الاقتصاد لم يكن كليا موضوع اختصاصي منفصل بل الاقتصاد في نشأته نشأ كاقتصاد سياسي. ولذلك على الرغم أن الكتب المذكورة لم تقترح حلولا جديدة ولكنها تنعكس على رؤية تحويل الاقتصاد من اقتصاد سياسي إلى اقتصاد فني او اختصاصي وهذا يجعلنا نعتقد أن هذه الرؤية ماهي الا إستجابة للمخاوف المتزايدة بشأن صحة الرأسمالية بعد عقود من التركيز المحدود على المكاسب المالية وحدها.
مقاييس أفضل
يرى ستيغليتز والكاتبين المشاركين أنه يجب استخدام مؤشرات اقتصادية اخرى بدلاً من مقياس الناتج المحلي الإجمالي (الناتج المحلي الإجمالي، يعتمد على القيمة السوقية لجميع المعاملات الاقتصادية), وكان نهجه في كتاب Measuring What Counts تتبعَ تقرير صدر عام 2009 بتكليف من الحكومة الفرنسية، ويبدو أن هذا التقرير يعبر عن حاجة لإعادة النظر في السياسات الاقتصادية الموجودة، لأن التقرير يركز النظر على إضافة مقاييس تتجاوز (الناتج المحلي الإجمالي) في الميزانيات, فبحسب رأيهم, فهم يرون أن هذه الإحصاءات والمقاييس تعبر عن (مشاركة أكثر ديمقراطية) في المجتمعات، وهذا يثير الأسئلة الأساسية: “كيف نحدد قيم الاشياء؟ ما هي المقاييس التي سنختارها؟ ما هي الجوانب التي نحتاج أن نوليها اهتماماً أكبر؟ .”
وهذا يقودنا إلى استنتاج أن أي شيء غير مقاس يعتبر مخفيا عن أنظار واضعي السياسات. ونحن عوضا عن ذلك ندفع مقابل الخفاء الإحصائي لأشياء ذات تأثير قوي، ابتداء من رفاهية الإنسان إلى التدهور البيئي. فعدم تكافئ الدخل والأثار الصحية لا تقاس بشكل منتظم، وبالتالي فإن انخفاض متوسط العمر المتوقع للمواطنين الأميركيين الذين لايملكون شهادات جامعية أصبح واضحًا فقط في الآونة الاخيرة. مع أن هناك العديد من الموارد الطبيعية للاقتصاد العالمي ما يبلغ قيمته نحو 100 تريليون دولار, إلا أنها لا قيمة لها من الناحية الإحصائية التقليدية ولا نعجب من ذلك بسبب أنها مهدورة. كل هذه الجوانب أثيرت في بحث صدر عام 1997 من قبل الاقتصادي الإيكولوجي روبرت كوستانزا وآخرين بعنوان: (النظام البيئي ورأس المال الطبيعي) (R. Costanza . 387, 253–260; 1997)
يحث ستيغليتزُ وفيتوسي ومارتينُ دوران, المسؤولين السياسيين, على استخدام لوحة مقاييس لها معايير تؤكد الاستدامة البيئية والسياسية والاجتماعية, على سبيل المثال بحث الارتباط بين الضغوط البيئية التي تحفز على الهجرة. ومن هنا تكمن الرغبة في وجود إحصاءات شاملة تشمل الروابط العالمية التي تحقق أهداف ومقاصد هيئة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة. صحيح أن هذه الاهداف والمقاصد, كما يشير الكتاب, أنها كثيرة للغاية مما يصّعب فهمها أو تطبيقها على أرض الواقع, ولكن لو بُسِّطت لائحة المقاييس الخاصة بهم، فإن هناك إمكانية كبيرة لوضع اعتبار لها في القرار السياسي.
تعد المقاييس البديلة مجالًا نشطًا للبحث، كما تشهد على ذلك مقاييس البنك الدولي “للثروة الشاملة” و “ميزانية الرفاه” لعام 2019 في نيوزيلندا. ولكن هذا لا يعني أن عوالم الاقتصاد والسياسة قد قررت التخلي عن مقياس الناتج المحلي الإجمالي من فراغ. وغالب النقاشات الموجودة مقصدها التحسين وليس التخلي عنه. صحيح أن هناك عددا من المراجعات الدورية للأمم المتحدة للنظام الدولي للحسابات القومية (SNA) ، التي تشمل الناتج المحلي الإجمالي, ولكن مع ذلك، فإن الإنقسام الاقتصادي والسياسي اليوم، والأدلة التي لا يمكن تجنبها عن الأضرار البيئية، والتمزق المجتمعي, بسبب التقنية قد بينت أن نظام الحسابات القومية هش وضعيف. ولذلك من الراجح أن يُصحَّح أو يُغيَّر في الوقت الحاضر, وهذا يعد سابقة منذ إنشائه في أربيعنيات القرن الماضي.
وكما يقول سوروس في كتابه In Defense of Open Society “إذا وجدنا إطارا أفضل قد تكون الامور مختلفة”, وتشير خطبه ومقالاته، التي كُتبها بعد الازمة الاقتصادية العالمية في 2007-2008 إلى أن المثالية الرأسمالية الليبرالية: “مجتمع مفتوح” بل ومجتمع عالمي وفعال وحر, كما يروج له الفيلسوف كارل بوبر.
مثل ستيغليتز، يدرس جورج سوروس العوامل التي تساهم في عدم الاستقرار الاقتصادي, كما قد وضّح في أحد المرات أسباب فشل النظرية الاقتصادية التقليدية, خصوصا فكرة أن النظام الاقتصادي يميل بطبعه إلى التوازن. حدد كتابه The Alchemy of Finance لعام 1987 وجهة نظره البديلة كمستثمر ناجح، وقد وصف فيه الحلقات الفارغة في الأسواق المالية. لكن كما لاحظ أن المؤسسة الاقتصادية رفضت ذلك إلى حد كبير على أنه “تصور لرجل نجح في مجال الأعمال التجارية وبالتالي يتخيل نفسه كفيلسوف منظر لهذا العلم”.
صحيح أن كتابه أثار جدلاً كبيراً, ولكن جورج سوروس يفترض أن الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية تنتج وجهات نظر الأشخاص المشاركين فيها وهذا له تاثير على تصرفاتهم، مما يؤدي بدوره إلى تغيير الاقتصاد. قد تلاحظ الشركاتُ الناشئةُ المستثمرين الذين يدعمون النمو السريع على حساب الأرباح الفورية، في نموذج “الفائز يأخذ كل شيء”. وهذا يجعل جميع الشركات تعتمد نفس نظام العمل ويعطيهم نفس النتائج وفي الحقيقة هذه “الانعكاسية” تعادل عند عالم الاجتماع الأمريكي روبرت كينغ ميرتون مبدأ (النبوءة المحققة لذاتها) فإنك عندما تكوّن شكوكا حول المستقبل وحول الدروس التي تهتم بالقرارات البشرية الموجودة في علم الاقتصاد السلوكي, فإن هناك إمكانية أن تتحقق شكوكك بسبب تعاملك معها كشكوك وهذا يجعل من الواضح أن هناك حاجة ماسّة إلى إطار فكري أكثر دهاءاً من الموجود ولذلك بدأت هناك بوادر تحول في حقل الاقتصاد خصوصا مع الاهتمام المتزايد بعلم النفس والتفاعلات الاجتماعية.
أما بخصوص صناعة التقنية، و”سباق التسلح” التقني بين الولايات المتحدة والصين, فيعتقد جورج سوروس أنه تهديد آخر يحيط بالرأسمالية الليبرالية ولذلك ينتقد استخدام الصين السلطوي للمراقبة التقنية. فالصين تطور نظام (الائتمان الاجتماعي) الخاص بها ويعمل على تجميع البيانات الشخصية لتصنيف المواطنين حسب مصداقيتهم مما يؤثر على استحقاقهم بعض الحقوق. وكذلك ينتقد بنفس القدر حول المراقبة الهادفة للربح من قبل عملاق وادي السيليكون الأمريكي, ويشبهه باستخراج موارد الطبيعة فهي حسب مايقول أن “شركات وسائل التواصل الاجتماعي تستغل البيئة الاجتماعية”, ونتيجة لذلك, يعتقد بأن الذكاء الاصطناعي يمثل تهديدات قاتلة لليبرالية لأنه يضع السلطة في أيدي قلة قليلة.
الليبرالية مقابل السياسية
في نظرته العامة إلى التاريخ الحديث للرأسمالية والعولمة، ينظر ميلانوفيتش بالمثل إلى الهشاشة السياسية والاقتصادية الحالية من حيث المواجهة بين الصين وامريكا .ففي كتابه Capitalism, Alone يؤطر ذلك على أنه صراع بين نماذج الرأسمالية: “الجدارة الليبرالية” على الجانب الأمريكي، “الرأسمالية السياسية” في الجانب الصيني. فميلانوفيتش يعرّف الليبرالية الأمريكية بأنها توفر رسميًا فرصًا غير محدودة للتقدم الاقتصادي وهذا أدى إلى عدم المساواة ونقص الحراك الاجتماعي مما يجعل لفظ “الجدارة” يحتاج الى إعادة نظر. وفي الجانب الصيني تنبعث الرأسمالية السياسية من رحم الدول الشيوعية السابقة فتجعل هناك أولوية لاحتياجات الدولة مما يجعل القانون لا يقّيد أعمالها وأيضا يجعل المسؤوليين مشاركين عن كثب في إدارة الاقتصاد.
يقارن ميلانوفيتشُ النموذجين السابقين مع الاقتصاد المختلط بالقالب الديموقراطي الذي شكلّه الاقتصادي جون ماينارد كينز وغيره من السياسيين الذين أعادوا بناء الاقتصادات الوطنية بعد الحرب العالمية الثانية؛ مما جعله يخطط لوضع رأسمالية بديلة وهي “الرأسمالية الشعبية” التي تحتل مكانة رفيعة اليوم في أوساط الحركة التقدمية الاوروبية والامريكية ايضا.
ولأن ميلانوفيتش, تدرب, في وقت مضى, في الاقتصاد الماركسي ليوغوسلافيا السابقة, فإن هذا قد يفسر سبب وجود أهمية للقوى التاريخية في تحليله, وأيضا يوضح تشاؤمه من النماذج البديلة. إنه يسرد السياسات التي قد تفضلها الحركة التقدمية، مثل تحسين التعليم الممول من القطاع العام.
وإن كان هذا في رأيي مجرد تمني دون تحليل للعقبات السياسية أمام السياسات الحكيمة (حكيمة على الاقل لأولئك الذين يتفادون قيام الثروة). كما لا يستكشف كتاب ميلانوفيتش الأنواع الحالية الأخرى للرأسمالية، مثل الأنظمة التي تتسم بالمساواة والتوافقية كما في الدول الاسكندنافية أو اليابان لأنه من المفيد معرفة كيف تستجيب هذه الأنظمة لقوى العولمة، والتوسع التكنولوجي، وشيخوخة السكان والضغط البيئي.
في الختام تشرح هذه التحديات الوجودية للانظمة الاقتصادية سبب استنتاج الكتب الثلاثة أن “العمل بالطريقة المعتادة, خصوصا من ناحية التفكير في كيفية إدارة الاقتصاد لا يمكن أن يستمر”, وكما يجادل ستيغليتز وزملاؤه (وأنا) أن عين الصواب هو قياس ما تقدّره المجتمعات فعليًا.
وايضا من الصواب كما يؤكد سوروس أن الإطار الفكري للاقتصاد يجب أن يتكيف مع عالم مختلف عن طريق التركيز على الأوساط الفردية. صحيح إن هذا الاتجاه أصبح يطرق مجال البحوث الاقتصادية لكن من غير المحتمل أن يكون هناك إعادة تفكير جذرية لأن حوافز الأوساط الأكاديمية تشجع المحافظة والتقدم التدريجي.
المقاييس والنظريات الأفضل لن تكون كافية لإنشاء نموذج اقتصادي واجتماعي مستدام. أو ربما يمكنها ذلك, لكن فقط إذا أقنع مكتشفوها واضعي السياسة والجمهور بالتصرّف بشكل مختلف. مستقبل الرأسمالية للأسف هو خارج أيدي أولئك الذين يفكرون ويهتمون في الأمر.
المصدر: nature