عاشَ النبيّ محمد ﷺ أربعين عامًا، قبلَ الرسالة، ولو جهدتَ نفسكَ لتلمُّسِ سيرته ﷺ في هذه الأربعين؛ لما وجدتَ إلا الفتات، وشيئًا من سيرةٍ عامة لا تكاد تجد في ثناياها إلا تفاصيل قليلة جدًا، بالكاد يذكرها، أو يستنبطها أصحاب السِّير.
عندما التحمتِ السَّماء بالأرض، وتحولَ محمدٌ ﷺ إلى نبيٍّ للإله، عاشَ بعدها ثلاثة وعشرين عامًا، لتتحولَ سيرته ﷺ إلى أعظمِ سيرة حُكيت عن إنسان، وأدقّ سيرة عرفها البشر عن مخلوق، لقد باتﷺ كتابًا مفتوحًا يقرأ الإنسان منه تطبيقًا للقيمِ الكبرىٰ التي بُعثَ بها.
كانَ ﷺ قبل الأربعين صالحًا في ذاته، متأملًا، باحثًا عن الطّريق، لكنه بعد النبوة تحولَ إلى مصلح، مشتبكًا مع الواقع، صاحب فكرة تغييريةٍ شاملة، يسير بنورِ الكتاب، فكانَ لزامًا أن تُرصَد أعظم تجربة لأعظمِ إنسان بطريقةٍ لا تترك شيئًا إلا وألمحت إليه.
عندما تحول محمدٌ ﷺ إلى نبيٍّ خاتم، كانت سيرته حاضرة، لأنه تحول إلى مشروع أمة، إلى فكرة يجب أن تحتضنها القلوب، ينبغي أن تُعرف كما هي، بكلّ تجلياتها وأحوالها؛ لتكون منارًا ووهجًا يضيء دروب الحياة الممتدة لأتباعه أبد الدهر..!
ستة عقود من الزّمن، لم تُرصد بتفاصيلها، إلا عقوده الأخيرة التي عاشها وفق نموذجٍ مدهش، جمع الله له فيها بين النبوة، والقيادة، وعاشَ في جانبه الإنساني كأيّ إنسانٍ آخر في تلكم البقعة التي خرجَ منها النّور إلى العالم.. بلا صلفٍ أو كبر أو تكلف.. مثال للتوازنِ البشري، بينَ أشواق الروح، ومتطلبات الحياة، كان نموذجًا رعته السّماء منذ تشكّل، وأحاطه الله بعظيمِ التوفيق والسّداد ليكون الإنسان الأول الذي جمعَ العظمة في أبهىٰ تجلياتها.
في القرنِ السّابع الميلادي من عمرِ البشرية، خرج النبي محمد ﷺ بين ظهراني قومه، بأمرٍ غريب، أربكَهم قليلًا.. وشعروا حياله بتهديدٍ وجودي، لبقائهم بالطريقةِ التي ألفوها في الحياة..! مكث بينهم عمرًا من الزمن، رأوا حياته وكيف تكونت شخصيته، على مرأىٰ ومسمعٍ من الجميع.. وكان حريًا بمحمدٍ ﷺ المجتبىْ في تلكَ الفترة قبل إشهار خبر السَّماء، كان حريًا به لو طلب أي فتاة من فتيات سادات العرب لتكون له زوجة أن يُقبَل دونَ أن يُرَد، لاستقامته المشتهرة، و سلوكه القويم.
ثم في الأربعين من العمر اقتضت مشيئة الله أن يكون أوان وقت ظهور النّبي الخاتم قد حان، لقد جاءت لحظة الالتحام العظيم بين السَّماء والأرض، بعد طول انقطاع.. فكان النبي محمد ﷺ، على موعدٍ مع السَّماء، تلقى رسالة الإله عز وجل، ومنذ تلك اللحظة؛ طردَ النّوم من عينيه، وراح يبشرُ بالدَّعوة التي حُملها، قولوا لا إله إلا الله، تفلحوا!.
في غضونِ عقدين من عمر الزّمن، تمكّن هذا الرجل العظيم ﷺ من إحداثِ انقلاب في الفكرِ البشري، لمن كان بجواره، تعدىٰ إلى العالمِ بأسره.. التقىٰ حين التقى برجالٍ لم تتلوث قلوبهم بأي أفكارٍ وافدة، ثمة عادات وفكر مجتمعيٍّ تقليدي كان يسيطرُ عليهم.. سرعان ما تلاشىٰ أمام وهجِ النبوة، وسطوة النّصِّ الإلهي الخالد؛ ليتحول هؤلاء الرجال إلى معجزةٍ إنسانية حارت فيها العقول!
مما حكاه تاريخ الرجال عن تأثير النبي محمد ﷺ في أتباعه أنَّ رجلًا لا يعرفُ من الحياةِ إلا الحياةَ التي عاشها في صحراءِ مكة، وما جاورها من القرىٰ، ربعي بن عامر، اسمٌ له طنينٌ في عالمِ القيم والمبادئ..!
لم يهتز داخله بأي سلطةٍ غالبة، أو فكرةٍ وافدة، تلقىٰ أول ما تلقى نور الوحي من فمِ النبي صلى الله عليه وسلم، علمَ أول ما علم أنَّ الحياة ميدانٌ سُخِّرَ له من قِبل الإله عز وجل، وأنَّ كلمة التوحيد سببٌ للفلاحِ في الدارين، وأنَّ ثمة قوة عظمىٰ، تحوطه برعايةٍ كبرى.. تتحطم أمامها كل المخاوف.. وهي عنايةُ الله جلَّ في علاه..!
وأنّ الحياة بلا توحيد محضُ عبث، فناء، عدم، وأنّ زينة الحياة حريّ أن يُنظرَ إليها وفق مكانتها، مجرد زينة عابرة، قيمتها من قيمةِ من يحتمونَ ويتكثرونَ بها، مآلها إلى التلاشي.. وحدها كلمة الله لا فناءَ لها..!
ربعي بهذه الحمولة المعرفية التي تلقاها تلقائيًا من نصوصِ الوحي، ومن فكرةِ وجود الإله، ومن معنىٰ التوحيد الذي ارتوى من مائه العذب، بهذه القوة في داخله، دخل يحملُ أسماله إلى عظيمٍ من عظماءِ الفرس، والفرسُ هي الفرس يومَ ذاك..! يغرسُ حربته في النّمارق، مشيحًا بوجهه عن كلّ زينةٍ تخطف الأبصار، شامخًا برأسه الذي لا ينحني إلا لمن له مقاليد كلّ شيء.. فنراه يقولُ في لغةٍ مدهشة، وعنفوان غريب: “لقد ابتعثنا اللهُ لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة”. هذه الكلمات يعجز البيان عن شرحها، هذا هو ثمرة الانقلاب الذي أحدثه النبي محمد ﷺ في قلوبِ أتباعه، فنقلهم من حياةِ العبث، والنِّسيان، إلى ذاكرةِ التاريخ؛ كأحدِ أهمّ جيلٍ أسهمَ في تغييرِ العالم.
نحنُ بحاجةٍ للعودة إلى التفكير بطريقةٍ مختلفة، حول النموذج العقدي الذي ينبغي أن ننطلقَ منه، كما انطلق منه ربعي.. وأن ننظر من خلاله إلى كلّ شيء.. تشوُّه النماذج واختلاطها في دواخلنا؛ أورثنا هذا التشوُّه الذي نحياه اليوم.. لا مكانَ لنا بينَ الأمم.. لأننا نحاول أن نحاكي نماذج مختلفة لا علاقة لنا بها، لم نتمكن من المحاكاة، ولم نتمكن من الانطلاق من نموذجنا المعرفي العقدي الخاص بنا، كأمة تحمل إرث السّماء، ولديها كل الأدوات التي تساعدها للعودة مجددًا إلى مشهد الصّدارة والتمكين.
أختم بحقيقةٍ قرآنيةٍ مفادها:
أنَّ واحدة من أعظمِ النِّعم، والمِنح، والعطايا، والهبات، على الإنسان؛ بعثة محمد ﷺ، فما الزمانُ والمكان لولا بعثةُ محمد ﷺ؟!
شكَّل ظهور النَّبي الخاتم في القرنِ السّابع الميلادي، انعطافة كبرىٰ للبشرية، الغارقة في الظلمِ والطغيان..!
طُويت صفحة الزَّمن وبدأت أخرىٰ، كان محمد ﷺ النبي الأعظم، قَدرًا جميلًا تنتظره البشرية الحائرة في شتىٰ المعمورة.. أعاد الحياةَ إلى الحياة، وانتصر للإنسان، ورفعَ عنه الأغلال، وأخرجه من التّيه الذي كان يرزح فيه، وأسمعَ الدّنيا نداء السّماء، الكتابُ الخالد الذي لا ريب فيه!
“لَقَد مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤمِنينَ إِذ بَعَثَ فيهِم رَسولًا مِن أَنفُسِهِم يَتلو عَلَيهِم آياتِهِ وَيُزَكّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ وَالحِكمَةَ وَإِن كانوا مِن قَبلُ لَفي ضَلالٍ مُبينٍ”.
سلمت أناملك دكتور خالد من أروع ما قرأت عن خير البشر محمد ﷺ.