- دان فالك
- ترجمة: مشاعل الغامدي
- تحرير: عبد الله الهندي
في مقطع فيديو «بريء» على تطبيق «تيك توك»، نشرته طالبة في المدرسة الثانوية اسمها جرايسي كننغهام، خرجت جرايسي تتحدث أمام الكاميرا -وهي تضع مساحيق التجميل- متساءلة عما إذا كانت الرياضيات «شيئا حقيقيا» وأضافت: «أعلم أنها حقيقية؛ لأننا نتعلمها جميعًا في المدرسة… ولكن من الذي ابتكر هذا النوع من المعرفة؟». «فيثاغور! حتى إنه لم يكن لديه نظام صرف صحي؛ لكن كان عنده من الفراغ ما يكفي ليخرج لنا [ص= م س+جـ]، تقصد: المعادلة التي تصف الخط المستقيم في مستوى ثنائي الأبعاد. ثم تابعت متساءلة: «من أين جاء كل هذا؟! كيف لنا أن نصل إلى مفهوم مثل الجبر؟ ولم احتجنا إليه من الأساس؟».
شخص ما أعاد نشر الفيديو على تويتر، وسرعان ما انتشر. كثير من التعليقات كانت قاسية: قال أحدهم: إنه «أغبى مقطع فيديو» قد شاهده على الإطلاق، وأشار آخرون إلى أنه مؤشر على فشل نظام التعليم. بينما دافع آخرون عنها قائلين إن أسئلتها كانت -في الواقع- عميقة نوعا ما.
كتب علماء الرياضيات من كورنيل ومن جامعة ويسكونسن ردودًا، مثل: الفيلسوف فيليب جوف من جامعة دورهام في المملكة المتحدة. أما عالم الرياضيات يوجينيا تشينج المقيم حاليًا في معهد شيكاغو للفنون، فقد كتب ردًا من صفحتين قائلا: إن جرايسي أثارت أسئلة عميقة حول طبيعة الرياضيات «بطريقة استقصائية عميقة للغاية».
دون قصد؛ لقد أعادت جرايسي إشعال نقاش قديم للغاية وغير محسوم في فلسفة العلم. ما الرياضيات بالضبط؟ هل هي شيء اخترعناه أم اكتشفناه؟ وهل الأشياء التي يتعامل معها علماء الرياضيات (الأرقام والمعادلات الجبرية والهندسة والنظريات وما إلى ذلك) حقيقية؟
يشعر بعض العلماء أن الحقائق الرياضية «موجودة» في انتظار من يكتشفها، وهو موقف يُعرف بالأفلاطونية. وقد أخذت اسمها من الفيلسوف اليوناني القديم أفلاطون، الذي تخيل أن الحقائق الرياضية تسكن عالمًا خاصًا بها، ليس عالمًا ماديًا، بل عالم غير مادي من المُثُل التي لا يعتورها التغير، إنه عالم موجود خارج المكان والزمان. روجر بنروز مثلا (عالم الفيزياء الرياضية البريطاني الشهير) هو أفلاطوني مخلص. ففي كتابه [The Emperor’s New Mind] ، كتب أنه: يبدو أن هناك «حقيقة عميقة حول هذه المفاهيم الرياضية تتجاوز المداولات الذهنية لأي عالم معين. يبدو الأمر كما لو أن الفكر البشري موجه نحو حقيقة خارجية… حقيقة لها واقع خاص بها…».
يبدو أن العديد من علماء الرياضيات يؤيدون هذا الرأي. فالأشياء التي اكتشفوها على مر القرون (مثل: أنه لا يوجد أكبر عدد أولي، وأن الجذر التربيعي لاثنين هو عدد غير نسبي، وأن النسبة الطبيعية ط (7:22) عندما يتم التعبير عنها في صورة عدد عشري تصبح عددا دائريا لامنتهيا) يبدو أنها حقائق أبدية، مستقلة عن العقول التي وجدتها. إذا واجهنا يومًا كائنات فضائية ذكية من مجرة أخرى، فلن يشاركوا لغتنا أو ثقافتنا، لكن -كما يرى الأفلاطونيون- ربما يكونون قد وصلوا إلى هذه الاكتشافات الرياضية نفسها.
يقول جيمس روبرت براون (فيلسوف العلوم المتقاعد مؤخرًا من جامعة تورنت): «أعتقد أن الطريقة الوحيدة لفهم الرياضيات هي: الاعتقاد بأن هناك حقائق رياضية موضوعية، وأن علماء الرياضيات يكتشفونها. علماء الرياضيات العاملون هم -بأغلبية ساحقة- أفلاطونيون. إنهم لا يسمون أنفسهم دائمًا أفلاطونيين، ولكن إذا طرحت عليهم أسئلة ذات صلة؛ فدائما تكون إجابتهم أفلاطونية».
علماء آخرون -وخاصة أولئك الذين يعملون في فروع أخرى من العلم- ينظرون إلى الأفلاطونية بشك. يميل العلماء إلى أن يكونوا تجريبيين؛ حيث يتخيلون الكون مكونًا من أشياء يمكننا لمسها وتذوقها وما إلى ذلك؛ إنها الأشياء التي يمكننا الوصول إليها من خلال الملاحظة والتجربة. فكرة وجود شيء ما «خارج المكان والزمان» تجعل التجريبيين متوترين؛ يبدو الأمر محرجًا مثل الطريقة التي يتحدث بها المسيحيون عن الإله، فقد استُبْعِد الإله [الفلسفي] من الخطاب العلمي منذ وقت طويل.
الأفلاطونية -كما قال عالم الرياضيات بريان ديفيز-: «تشترك مع الأديان الصوفية أكثر مما تشترك مع العلم الحديث»، المشلكة أنه إذا أعطى علماء الرياضيات أفلاطون شبرًا واحدًا، فسيأخذ ميلًا؛ لأنه إذا أمكن تأكيد صحة العبارات الرياضية بمجرد الحدس، فما المشكلة أن تكون المشكلات الأخلاقية أو حتى الأسئلة الدينية كذلك؟
ماسيمو بيليوتشي (الفيلسوف في جامعة مدينة نيويورك) انجذب في البداية إلى الأفلاطونية، لكنه منذ ذلك الحين أدرك أنها إشكالية. يتساءل إذا كان هناك شيء موجود، وفي نفس الوقت وجوده ليس ماديًا، فأي نوع من الوجود هذا؟ كتب بيليوتشي: «إذا تبنى المرء الأفلاطونية في الرياضيات؛ فإن التجريبية تصبح هراء». (إذا كان إثبات نظرية فيثاغورس موجودًا خارج المكان والزمان، فلم لا تكون «النسبة الذهبية» أو حتى ألوهية يسوع المسيح هي أيضا كذلك؟).
يجب أن يواجه الأفلاطوني تحديات أخرى: إذا كانت الرياضيات موجودة خارج المكان والزمان، فكيف يمكننا معرفة أي شيء عنها؟ ليس لدى براون إجابة، لكنه يقترح أننا نفهم حقيقة العبارات الرياضية «بعيون العقل»، أي بطريقة مماثلة للطريقة التي استوعب بها علماء مثل: جاليليو وآينشتاين الحقائق المادية عبر «تجارب الفكر، قبل أن تتمكن التجارب الفعلية من تسوية الأمر». يمكننا أن نشير مثلا إلى تجربة جاليليو الفكرية لتحديد ما إذا كان الجسم الثقيل سيسقط أسرع من الجسم الأخف أم معه. بمجرد التفكير في الأمر، تمكن جاليليو من استنتاج أن الأجسام الثقيلة والخفيفة يجب أن تسقط معا. لقد كانت الحيلة هي تخيل الجسمين المرتبطين ببعضهما بعضا: هل يقوم الجسم الثقيل بشد الجسم الأخف؛ لجعل الجسم الأخف يسقط بشكل أسرع؟ أم أن الأخف وزنا يعمل بمثابة «فرامل» لإبطاء الأثقل؟ يرى جاليليو أن الحل الوحيد المنطقي هو: أن الأشياء تسقط بنفس المعدل بغض النظر عن وزنها. بطريقة مماثلة، يمكن لعلماء الرياضيات إثبات أن مجموع زوايا المثلث يساوي 180 درجة، كما أنه لا يوجد أكبر عدد أولي، دون أن يحتاجوا إلى مثلثات أو حصى مادية للعد لإثبات تعميماتهم، إنما عقل رشيق فقط.
يلاحظ براون: في غضون ذلك، يجب ألا نشعر بالصدمة الشديدة جراء فكرة التجريدات؛ لأننا اعتدنا استخدامها في مجالات أخرى من البحث. يقول براون: «أنا مقتنع تمامًا بوجود كيانات مجردة، وهي ليست مادية. و أعتقد أنك بحاجة إلى كيانات مجردة من أجل فهم الكثير من الأشياء -ليست الرياضيات فحسب، بل واللسانيات والأخلاق- ربما كل أنواع الأشياء».
للأفلاطونية بدائل شتى. أحد الآراء الشائعة: أن الرياضيات هي مجرد مجموعة من القواعد المبنية على مجموعة من الافتراضات الأولية، وهي ما يسميه علماء الرياضيات: البديهيات. بمجرد أن توضع البديهيات في مكانها الصحيح؛ تنتج عنها مجموعة واسعة من الاستنتاجات المنطقية، رغما عن أن العديد من هذه الاستنتاجات يكون طريق الوصول إليها وعرًا للغاية. من وجهة النظر هذه، تبدو الرياضيات اختراعًا أكثر منها اكتشافًا. على أقل تقدير، يبدو أنه مسعى أكثر تركيزًا على الإنسان. إن النسخة المتطرفة من وجهة النظر هذه ستختزل الرياضيات إلى شيء مثل لعبة الشطرنج؛ فنحن نضع قواعد الشطرنج، ومن هذه القواعد تنتج العديد من الاستراتيجيات، لكننا لا نتوقع أن يضع الفضائيون نفس قواعد لعبتنا.
لكن هذا الرأي له مشاكله الخاصة. إذا كانت الرياضيات مجرد شيء نخترعه من داخل رؤوسنا، فلم «تتناسب» جيدًا مع ما نلاحظه في الطبيعة؟ لم يجب أن يتبع التفاعل المتسلسل في الفيزياء النووية، أو النمو السكاني في علم الأحياء، منحنًى أسيًا؟ لم تتخذ مدارات الكواكب شكل القطع الناقص؟ لم يظهر تسلسل فيبوناتشي في الأنماط التي تظهر في ورقة عباد الشمس والقواقع والأعاصير والمجرات الحلزونية؟ لم -باختصار- أثبتت الرياضيات أنها ناجحة للغاية في وصف العالم المادي؟ سلط الفيزيائي النظري يوجين وينر الضوء على هذه القضية في مقال شهير عام 1960 بعنوان: «الفعالية غير المعقولة للرياضيات في العلوم الطبيعية»، وخلص وينر إلى أن فائدة الرياضيات في معالجة المشكلات في الفيزياء: «هي منحة رائعة لا نفهمها ولا نستحقها».
ومع ذلك، يعتقد عدد من المفكرين المعاصرين أن لديهم إجابة لمعضلة وينر؛ فرغما عن أنه يمكن النظر إلى الرياضيات على أنها سلسلة من الاستنتاجات التي تقوم على مجموعة صغيرة من البديهيات؛ فإن هذه البديهيات لم يتم اختيارها اعتباطيًا، كما يقولون. بدلاً من ذلك، هذه البدهيات مختارة للسبب ذاته الذي يجعل لها علاقة بالعالم المادي. على حد تعبير بيليوتشي: «أفضل إجابة يمكنني تقديمها [لسؤال وينر] هي: أن هذه «الفعالية غير المعقولة» معقولة جدًا في الواقع؛ لأن الرياضيات في الواقع مرتبطة بالعالم الحقيقي، وكانت كذلك منذ البداية».
يشير كارلو روفيلي (عالم الفيزياء النظرية بجامعة إيكس مرسيليا في فرنسا) إلى الهندسة الإقليدية (وهي هندسة الفضاء المسطح التي تعلمها الكثير منا في المدرسة الثانوية، والتي تتعلم فيها أن المثلث متساوي الأضلاع يجب أن تكون كل زاوية من زوايا الثلاث = 60 درجة، أو أن مجموع مربعي ضلعي المثلث القائم يساوي مربع الوتر…إلخ). قد يجادل الأفلاطونيون في أن نتائج الهندسة الإقليدية «تبدو» عالمية، لكنها ليست كذلك، كما يقول روفيلي: «إنما لأننا نعيش في مكان يبدو مسطحًا بشكل غريب؛ توصلنا إلى فكرة الهندسة الإقليدية باعتبارها شيئًا طبيعيًا يجب على الجميع تصديقه، لكن لو كانت الأرض أصغر قليلاً، بحيث رأينا انحناءها، لما كنا قد طورنا الهندسة الإقليدية أبدًا. تذكر أيضا أن «الهندسة Geometry» تعني: «قياس الأرض»؛ (geo تعني: الأرض، وmetry تعني: قياس)، والأرض مستديرة، لذلك كنا سنطور هندسة كروية بدل الهندسة المستوية».
يذهب روفيلي إلى أبعد من ذلك، ويدعو إلى التشكيك في عالمية الأعداد الطبيعية: 1 ، 2 ، 3 ، 4 … فبالنسبة لمعظمنا -والأفلاطونيين بالتأكيد- تبدو الأعداد الطبيعية «طبيعية»، لكن لو قابلنا هؤلاء الفضائيين الأذكياء هل سيعرفون ما نقصده بالضبط عندما نقول لهم: 2 + 2 = 4 (بمجرد ترجمة العبارة إلى لغتهم)؟ على الأرجح: لا؛ يقول روفيلي: «إن أنظمة العدّ موجودة في الأماكن التي توجد فيها الحجارة والأشجار فقط، والبشر طبعا؛ أي: عندما توجد أشياء فردية يمكن عدها، لكن لم يجب أن يكون نظام العد هو هو في أماكن لا توجد بها سوى سوائل مثلا؟ يقول روفيلي: «إنه إذا عُثِرعلى كائنات ذكية تعيش داخل غيوم الغلاف الجوي لكوكب المشتري مثلا، فقد لا يتولد لديها حدس نظام العد مطلقا، أو لن تكون لديها أعداد طبيعية. من المفترض أنه يمكن أن نعلمهم الأعداد الطبيعية -تمامًا كما يمكن لنا تعليمهم قواعد الشطرنج- ولكن إذا كان روفيلي على حق؛ فهذا يشير إلى أن هذا الفرع من الرياضيات ليس عالميًا كما يتخيل الأفلاطونيون.
مثل بيليوتشي، يعتقد روفيلي أن الرياضيات «تعمل»؛ لأن الغرض الذي تُستخدم من أجله كان حاضرًا منذ البداية عند وضعها؛ حيث يقول: «إن الأمر أشبه بالسؤال عن سبب نجاح المطرقة في ضرب المسامير؛ هذا لأننا صنعناها لهذا الغرض».
في الواقع -كما يقول روفيلي-، فإن ادعاء وينر بأن الرياضيات مفيدة بشكل مذهل لممارسة العلوم لا يصمد أمام التدقيق؛ حيث إن العديد من اكتشافات علماء الرياضيات لا تكاد تكون ذات صلة بالعلماء. حيث يقول: «هناك قدر هائل من الرياضيات جميل للغاية بالنسبة لعلماء الرياضيات، ولكنه عديم الفائدة تمامًا للعلم؛ وهناك الكثير من المشاكل العلمية (مثل: السريان المضطرب)، مما يرغب الجميع في العثور على بعض الحلول الرياضية المفيدة لها، لكننا لم نعثر عليها بعد».
ماري لينج الفيلسوفة بجامعة يورك في المملكة المتحدة) لها وجهة نظر ذات صلة؛ حيث تصف نفسها بأنها تتبع المذهب «الخيالي»، أي: إنها ترى الرياضيات خيالاتٍ مفيدةً، شبيهةً بالشخصيات في قصة أو رواية. «بمعنى: هي مخلوقات من صنعنا، مثل: شيرلوك هولمز».
لكن هناك فرقًا رئيسًا بين عمل عالم الرياضيات وعمل الروائي: فالرياضيات لها جذورها في مفاهيم، مثل: الهندسة والقياس، مما يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالعالم المادي. صحيح أن بعض الأشياء (التي يكتشفها علماء الرياضيات اليوم) مقصورة على فئة معينة، ولكن -في النهاية-، الرياضيات والعلوم مساعٍ مترابطة بشكل وثيق، كما تقول لينج. «نظرًا لأن [الرياضيات] تم اختراعها كأداة للمساعدة في العلوم؛ فليس من المفاجئ أن تكون مفيدة للعلوم[1]».
نظرًا لأن هذه الأسئلة حول طبيعة الرياضيات كانت موضوع نقاش ساخن في كثير من الأحيان منذ حوالي 2300 عام؛ فمن غير المرجح أن تختفي في أي وقت قريبًا. لا عجب إذن أن طلاب المدارس الثانوية -مثل جرايسي- قد يتوقفون عن التفكير في الأمر أيضًا، حيث يتأملون نظرية فيثاغورس وحساب المثلثات والمعادلات التي تصف الخطوط والمنحنيات. لم تكن الأسئلة التي طرحتها جرايسي في مقطع الفيديو الخاص بها سخيفة على الإطلاق، ولكنها كانت ذكية تمامًا: لقد كان علماء الرياضيات والفلاسفة يسألون نفس الأشياء التي لا يمكن حلها منذ آلاف السنين.
[1] هذه النظرية والتي قبلها تستتبع معضلة أكبر وهي: أسبقية العلوم على الرياضيات! بمعنى أن هذه النظريات تعني أن العلوم تطورت أولا ثم اخترعت النماذج الرياضية التي تعبر عنها، لكن المشكلة هي أن تاريخ العلوم لا يشهد بذلك، فالرياضيات -تقريبًا- هي أقدم الفروع المعرفية، وأسبقها إلى الذاكرة البشرية؛ بالإضافة إلى أن نفس الرياضيات استخدمت للتعبير عن علوم ونظريات متناقضة، (الرياضيات التي استخدمت لوصف نموذج بطليموس هي هي التي استخدمها كوبرنيك، مع تغيير الفرضية الأولية فقط)؛ كما أن هذا يفترض أن الفيزيائي يمكنه أن يفكر بدون رياضيات وهذا يساوي -واقعًا- أن الإنسان قد يفكر بدون لغة. (المراجع)