“لقد انحدرنا إلى المستوى الذي صارت فيه إعادة صياغة الأمور الواضحة هي المهمة الأساسية للأذكياء”[1]
جورج أورويل
– هل لك أُسرة؟
-نعم.
-هل لك زوج وأطفال؟
-لا.
على مسافة شارع، يقع محل جميل يبيع القهوة والهدايا، تديره سيدة إنجليزية ذات وجه صبوح مريح، تصنع القهوة، وتضع قطفة ورد في قارورة زجاجية على كل طاولة، تُبقيها حتى تذبَل. اسم المقهى “روزي”؛ قطة “الأسرة”، وشعار المقهى صورتها.
على جدران المقهى لوحات للمدينة ومدن أخرى، مرسومة بالقلم الرصاص، وفي زواياه رفوف عليها هدايا: أكواب، وحقائب قماشية، ورزنامات، بتصميمات مختلفة، مطبوعة عليها رسوم المدينة. على طاولة الحساب والخدمة صورةٌ في إطار: واجهة المحل يقف عندها أربعة:
“آندرو، توم، آن، ليلي: هذا المقهى تديره ليلي، ويرسم لوحاته شريكها آندو، يشارك في تصميم الهدايا توم، ابن آندرو، وتتولى شؤون المحاسبة آن، ابنته. إن لم يكن هذا “بزنس أُسريّ”، فقل لي أنت ما البزنس العائلي”.
في السوق تجد هدايا مكتوباً عليها ” الأصدقاء: هم الأُسرة التي اخترتها لنفسك”. في إعلان زيارة المستشفى يرد لفظ “الأصدقاء” أولاً ثم لفظ “العائلة”. في بطاقات الخصومات والعروض التسويقية يردان معاً (بطاقة الأسرة والأصدقاء).
وفي الطرقات قد يسألك أحدهم عن “أُسرتك”، وإذا هو لا يقصد أن يسألك عن والديك أو أطفالك، وإذا المعنى -في الاستعمال- يحتمل أن ينزاح من الروابط المؤسسة على الدم أو المصاهرة، إلى شيء غيرها.
ما (الأُسرة) إذن؟ أو ما المراد بـ”الأُسرة” في الثقافة الغربية المعاصرة؟، أو، قُل، ما الذي تحيل إليه هذه المفردة إذا ما استُعمِلت في شوارع تلك المدن، أو وردت في معجماتها.
عن تعريف العائلة في المعجمات:
الموسوعة البريطانية:
تعرّف الموسوعة البريطانية Britannica الأسرة[2] family بما هي صلة قرابة kinship بأنها:” مجموعة من الأشخاص تجمعهم رابطة زواجٍ، أو دمٍ، أو تبنٍّ، يُشكّلون أهل بيت واحد a single household ويتفاعلون مع بعضهم بعضاً حسب المكانة الاجتماعية لكُلٍّ منهم، وعادةً ما يكونون زوجين[3] spouses، والدَين parents، أبناء، وإخوة.
في تعريف يحدد أنواع الروابط الأسرية بثلاث (دم، زواج، تبنٍّ)، ويحيل إلى ضابط مكاني (أهل بيت واحد)، وفيه إحالة إلى الأدوار الاجتماعية، وأمثلة لأنواع العلاقات (زوجين، والدين، والد وذرية).
ثم تجعل هذه الضوابط تمثل (إحدى صور الأسرة أو أشكالها)، أو هي الصورة “الأكثر شيوعاً” للأسرة، غير أن ثمة (صور أخرى كثيرة ..) لا يبدو أن الموسوعة تحيط بها.
“وعليه، فإن الأسرة، في أكثر صورها أوليةً، تتكون من بالغٍ وذريته أو ذريتها، وفي صورها الأكثر شيوعاً تتكون من بالغين متزوجين، عادةً ما يكونان رجل وامرأة (وعلى الأغلب من الحالات يكونون من أنساب مختلفة وليست تربطهم رابطة دم)، هم وذريتهم، عادةً ما يعيشون في مسكن خاص منفصل“.
في فقرة تتراخى فيها الحدود جميعاً، وتبقى فيها صيغ ذات دلالات شيوع (غالباً، أحياناً، عادةً، ..)، ليستحيل التعريف فضفاضاً لا يُبقي ضابطاً (فالأسرة قد تكون من زوجين، أو من واحد، وقد يكون فيها أبناء، وقد لا يكون، وقد يكونان رجل وامرأة، أو قد يكون غير ذلك، وقد لا يجمعهم نسب أو دم، وقد يجمعهم شيء من ذلك).
معجم (ميريام ويبستر)
يورد معجم (ميريام ويبستر) معنى “تقليدياً” لكلمةfamily [4]: “الوحدة الأولية في المجتمع، تتكون في صورتها التقليدية من والدين يُربيّان أبناءهما“. ثم يورِد تعريفاً أخر مفتوح، لمكافئات الأسرة التقليدية: “أيضاً: أيُّ من الوحدات الاجتماعية المتنوعة، التي تختلف عن الأسرة التقليدية، ولكنها تُعدّ مكافئاً لها“.
يورد المعجم معانٍ ارتبطت بكلمة أسرة في أقدم استعمالاتها، ويذكر أنها معانٍ ما عاد لها وجود في الاستعمال المعاصر، يُتبٍعها ببعض معاني الكلمة في الاستعمال الحديث:
“في أقدم استعمالاتها تشير كلمة (أسرة) إلى: “مجموعة من الأشخاص في خدمة فرد“[5]، وذلك معنى مندثر الآن. على أن هذا المعنى المتقدم قد يبدو من البعد بمكان عن الطريقة التي يستعمل بها أكثرنا لفظ الأسرة اليوم، فإنه ليس ببعيد إذا ما جعلنا في اعتبارنا أن الكلمة جاءت من اللفظة اللاتينية familia التي كانت تعني “household”؛ تسمية كانت تحمل في دلالتها معنى الخدم والأقارب كليهما“.
في الاستعمال الحديث، قد تحيل كلمة أسرة إلى واحدة من مجموعات مختلفة وعديدة من الناس […]
وتحت عنوان “ما الأسرة؟“ يؤكد المعجم أن “سؤال: “ما الذي تعنيه عائلة؟” هو سؤال تصعب الإجابة عنه، كما أن إجابته ذاتيّة إلى حد كبير جداً، فقد جرى تغيير ظاهر وملاحَظ في معنى الكلمة منذ أن دخلت لغتنا، ما جعلها الآن ذات عدة معان مختلفة، وقد تشير في إحدى معانيها هذه- إلى أشياء مختلفة عند أناس مختلفين“.
يقول لك (ميريام ويبستر) أن ثمة أسرة تقليدية (أو تعريف تقليدي للأسرة)، وأن هناك لفظاً قد أحال إليها زمناً، ثم يضعه جنباً إلى جنب محالٍ إليه جديد، لا يُنبئ في تعريفه عنه شيئاً من لوازمه، إلا أنه يعتبر مكافئاً للأسرة التي كان لها معنى محدد يوماً. ويصف هذا المحال إليه الجديد أنه “مختلف”، و”متنوع” و”ذاتيّ”، له حمولات تتفاوت بين الأفراد، في وصف لا تجد فيه حداً ضابطاً أو صفة مائزة.
وحتى الاستعمال القانوني للكلمة قد يكون فيه شيء من التوسع، يقول لك المعجم:”وكثيرا ما تواجهك الأسرة ما في الاستعمال القانوني، غير أنها حتى في اصطلاح القانون غير مقيدة بمعنى واحد. في كثير من السياقات القانونية تعني الأسرة “أفراد تربطهم علاقة دم، أو زواج، أو تبنٍّ، لكن التعريف في سياقات أخرى قد يكون أوسع إلى حد ما، ليشمل مجموعات من الأفراد ليست تربطهم هذه الأمور“.
معجم كيمبرج
يعرف (كيمبرج) كلمةfamily [6]: “مجموعة من الناس الذين يرتبطون فيما بينهم ]بصِلة قرابة [كالأم، والأب، وأبنائهما“. في تعريف ترد فيه ألفاظ علاقات القرابة الأولى.
في تعريف آخر، يذكر المعجم بأن الأسرة: “مجموعة من الناس الذين يعتنون ببعضهم بعضاً لما بينهم من علاقةٍ وثيقة أو اهتمامات/مصالح مشتركة shared interests” في وصف يستعيض عن صلة القرابة بنوع آخر من الصلات “الاختيارية” أو”المكتسبة”. وقد يُذكّرك هذا بالتعريف الذي تجده على رفوف السوق، وفي محلات الهدايا ؛ أن أصدقاؤك هم العائلة التي اخترتها لنفسك.
ذكّرني هذا بمحاضرة في الفصل التحضيري لتعلّم اللغة، كان عنوانها (Who is British?)، ختمها المحاضر بقوله: “وللإجابة عن هذا السؤال نقول: No idea!”
وهو يقصد أن ليس ثمة سمة مائزة أو حد ضابط يمكن أن يقال أنه يحيط بالأفراد ويستغرقهم بما يخرج به غيرهم[7].
الهوامش:
[1] وصفت موسوعة (بينجوين) البريطانية (2004) كلمة family بأنها “مصطلح غامض“.
أودَعَ تقليب صفحات المعجمات (وأنا أبحث عن معنى الأسرة) في روحي ثُقلاً لم أعهد مثله من قبل، حتى وجدت أثره في جسدي. عُدت من المكتبة أجرّ قدميّ -حقيقةً لا مجازا-، وكأن صدعاً قد أصاب العالم. هل صارت “المعرفة” تُثاقِلك إلى الأرض بعدما كان من شأنها أنها ترفعك؟
هنا نقلٌ من الموسوعة نفسها:
“كانت الأسرة النووية تُعتبر -زمناً- المؤسسة الأساسية في المجتمعات الغربية الحديثة، لكن الزواج قد صار، إلى حد ما، أقل شيوعاً ومعدّل الطلاق ازداد زيادة كبيرة، حتى لم يعد معظم السكان في المجتمعات المعاصرة مثل إنجلترا والولايات المتحدة يعيشون في أسرة نووية مجتمعة. حسب بعض التقديرات، تشكّل الأسر النووية نسبة لا تزيد عن 20% تقريباً من مجمل سكّان البيوت households، أما باقي البيوت فتتكون من آباءٍ عازبين أو أمهات عازبات، أو عائل، أو مَن لا طفل له، أو عائلات ممتدة، أو حتى أفراد يعيشون منفردين.
لأسباب مختلفة، قد يَصدُق هذا في كثير من المجتمعات الأوروبية الحالية، وفي المدن الصناعية الأولى. في مناطق كثيرة من العالم، وفي أوروبا فيما قبل العصر الصناعي، كان من الشائع أن تكون الأسرة النووية جزءاً من مجموعة اجتماعية أكبر، تشمل بعض الأقارب، والعمال، وصغار الخدم، ونحوهم.
كان لعلماء الأنتروبولوجيا عناية خاصة بدائرة القرابة التي تمتد إلى ما هو أوسع من الأسرة النووية، وبيّنوا أن مجموعات القرابة الأوسع من الأسرة النووية قد يكون لها وظائف اجتماعية بالغة الأهمية” ((“Family”, 2004.
[2] britannica.com/topic/family-kinship
[3] ليس في الإنجليزية – كما هو معل
فأنت ترى -مثلاً- (معجم لونجمان للغة والثقافة ال
وفيما يلي نصّ الملاحظة الثقافي
“في الولايات المتحدة والمملكة
معظم النساء المتزوجات الآن لدي
هناك أيضاً بعض الأسر التي يكون
[4] merriam-webster.com/dictionary/family
[5] وفي لسان العرب: “الحَفَدُ والحَفَدَة: الأَعوان والخدَمة، وَاحِدُهُمْ حَافِد. وحفَدة الرَّجُلِ: بَنَاتُهُ، وَقِيلَ: أَولاد أَولاده، وَقِيلَ: الأَصهار. وَالْحَفِيدُ: وَلَدُ الْوَلَدِ، وَالْجَمْعُ حُفَداءُ.
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: “بَنِينَ وَحَفَدَةً” أَنهم الْخَدَمُ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنهم الأَصهار، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الحَفَدة الأَختان وَيُقَالُ الأَعوان […].
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْحَفَدَةُ بَنُو المرأَة مِنْ زَوْجِهَا الأَوَّل. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْحَفَدَةُ مَنْ خَدَمَكَ مِنْ وَلَدِكَ وَوَلَدِ وَلَدِكَ. وَقَالَ اللَّيْثُ: الْحَفَدَةُ وَلَدُ الْوَلَدِ. وَقِيلَ: الْحَفْدَةُ الْبَنَاتُ وهنَّ خَدَمُ الأَبوين فِي الْبَيْتِ. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: الحفَدُ عِنْدَ الْعَرَبِ الأَعوان، فَكُلُّ مِنْ عَمِلَ عَمَلًا أَطاع فِيهِ وَسَارَعَ فَهُوَ حَافِدٌ؛ قَالَ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وإِليك نَسْعَى وَنَحْفِدُ”. (لسان العرب: حفد)
[6] dictionary.cambridge.org/family
[7] إذا ما أردنا أن نحدد الأفراد بأمر يميزهم غير التعريف بالهوية السياسية: الجنسية.