- مشاعل آل عايش
- تحرير: عبير العتيبي
إن حركة الإصلاح الديني الغربي في النصرانية تعتبر نقطة تحول في الدين النصراني؛ وذلك لأنه قام بإزالة حقبة البابوية ولاهوتيتها من مجرى تواصل الحضارة الغربية، وكان كل ﻣﻈﻬﺮ من مظاهر اﻟﺠِﺪة، واﻟﺤﺪاﺛﺔ، واﻟﺘﻐﻴﻴﺮ ﻳﺸﻜﻞ أو ينظر ﻟﻪ ﺑﻤﻨﻈﺎر اﻟﺤﺬر واﻟﺘﺨﻮف وأﺣﻴﺎﻧًا اﻟﺮﻓﺾ واﻟﻤﻘﺎوﻣﺔ إذا ﺗﻌﺎرض ﻣﻊ اﻷﺻﻮل اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮم ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺗﻠﻚ الأصوليات. وفي العصر الحديث لم يعد للدين قداسته في العالم الغربي، فلقد طفت على السطح معالم تقديس جديدة وهي المذاهب العقلانية والمادية، ولم تكن هذه المذاهب مقصورةً على جانبٍ دون آخر من الحياة الغربية ولكنها أضحت نمطًا لكل جوانب الحياة، حتى حُصر الدين داخل جدران الكنيسة فقط وغدت العلمانية شعار الحياة في المجتمعات الغربية على تفاوتٍ بين الدول الغربية في تعاطيها لتلك العلمانية.
وبعد رحلةٍ مُضنية للعقل الغربي في دهاليز العلمنة والمادية أيقن بعدها أن تلك المذاهب الفكرية ما زادته إلا شقاء وعناء وضياع، فأخذ ينفض عنه غبار تلك المذاهب والأفكار باحثًا يمنةً ويسارًا عما يعيد له شيء من قيمة الروح وطمأنينة الضمير فلم يجد شيئًا غير تراثه الديني (المحرف) الذي امتزج مع وثنية اليونان وتحريف اليهود لينتج لنا دينًا غربيًا نصرانيًا متصهينًا على حد زعمهم ضاعت أصوله ففسدت فروعه؛ لأن العقل الأوروبي رغم نكسته المادية وعلمه بفضل الإسلام وسبقه لما وصل له الغرب روحيًا وماديًا فإنه يحمل الحقد والعداء للإسلام عقيدةً وأتباعًا فلم يجد مخرجًا له إلا دينه القديم على ما فيه من لوثةٍ فكرية مسمومة ولكنه أراد أيضًا أن يخضع دينه لقانون التطور الذي هام به عقودًا كثيرة، تطورًا في النص الديني المقدس من حيث التفسير وإمكانية الوصول له، وكذلك من حيث التطبيق وحرية الفهم. نتيجة هذا الحراك الديني الغربي ظهر ما يسمى بالأصولية النصرانية الغربية كحركة إصلاح ثم صحوة بدأت تتغلغل في جميع مناحي الحياة الغربية.
لم تكن الأصولية الغربية مجرد حس ديني تم إحياؤه في العقل والحياة الغربية لكنها أصبحت تيارًا يظهر في كل منعطفات الحياة الغربية بدأ من نظام الأسرة حتى رئيس الدولة وذلك في محاولة لتغيير مسار الحياة الأوروبية المنجرفة نحو مستنقع المادية البحتة الذي ستتحطم فيه كل جزيئات المادة فتصبح أثرًا بعد عين. هذه الأصولية حققت عددًا من النتائج على عدة أصعدة ولعل من أبرز نتائج الأصولية الغربية المعاصرة ما يلي:
- إلغاء السلطة البابوية في الكنيسة وأصبح رجال الدين يُسمَّون رعاة لأنهم يقومون بما يجب على الراعي اتجاه رعيته وأصبح المسؤول عن الكنيسة يسمى أسقف، وبذلك تغيرت الرتب الدينية في البروتستانتية ولم يعد لرجال الدين من النفوذ إلا كونهم علماء دين فقط[1].
- جعل البروتستانت الكتاب المقدس هو المصدر الوحيد للعقيدة والسلوك وحق لكل مسيحي قراءته وتفسيره[2].
- أنكرت البروتستانتية دور رجال الدين في غفران الذنوب، وإنما جعلت الإيمان وحده ينقذ الإنسان من الخطيئة، وأنه لا حاجة لما كانت تزعمه الكنائس الكاثوليكية لرجالها من السلطان في غفران الذنوب وصكوك الغفران[3].
- إباحة الزواج وتحريم الرهبنة، تحريم الصور والتماثيل، ترجمة الكتاب المقدس إلى عدد من اللغات ليسهل قراءته وتناوله[4].
- رفض أي تأويل للنص الديني.
- نقد النظريات العلمية وبخاصة الداروينية الناقدة لقصة الخلق الواردة في سفر التكوين. وذلك كرد فعل على علماء اللاهوت الليبراليين الناقدين والمشككين في قصة الخلق، والناظرين إلى خطيئة الإنسان على أنها مجرد تفكير بدائي صبياني. كذلك لإهمال هذه النظريات الجوانب الحسية الدينية الإيمانية في العلم، منكرةً أن يكون الوحي أو القلب والوجدان من مصادر المعرفة وسُبلها[5].
- التسليم أن ثمة حلول قادرة على تحقيق انتصار دولي وعلى حل المشكلات الاجتماعية وأن أي فشل يلحق بأي حل أصولي راجع إلى مؤامرات الأشرار.
- التسليم بأن المؤسسات الرأسمالية جزء من المؤامرة الشيوعية ومن ثم فقيادتها مشكوكٌ في وطنيتها.
- أي تنازل عن المبادئ الوطنية خيانة للحق.
- التخلي عن سياسة التعايش السلمي، وتبنِّي سياسة التفريق العسكري وذلك بمنع تصدير التكنولوجيا ورأس المال التي تمكن الغير من الصناعات الحربية.
- استثمار المجال الدبلوماسي مثل قطع العلاقات واستدعاء السفير إذا لجأت القوى العظمى إلى استخدام القوة ضد حلفاء الغرب مثل ما فعل السوفييت[6] في مهاجمة تشيكوسلوفاكيا عام 1968م.
- توسيع رقعة الدعاية المضادة للأصولية من الأنظمة والأصوليات الأخرى مثل الشيوعية[7] وغيرها.
- الاهتمام بالأسرة لأنها في نظرهم غير صحيحة البنية فعدد الأبناء الغير شرعيين يفوق الأبناء الشرعيين؛ ولأجل ذلك نشأت حركة (من أجل الأسرة) وقد ضمت كل طوائف النصرانية واليهود وقُرِّر إعادة إقامة الصلاة في المدارس، ومُنع شراء الكتب التي تقلل من دور المرأة في المجتمع. ويرى أصحاب هذه الحركة أن المقاومة تأتي من الملحدين والاشتراكيين[8] الذين يثرون بفضل الإجهاض والجنس[9].
- يهجرون الجامعات، ويقيمون لتعليمهم مؤسسات خاصة، ويرفضون إيجابيات الحياة العلمانية فهي تخاصم الواقع وترفض التطور وتعادي المجتمعات العلمانية[10].
- العودة للحياة الدينية (الأمريكيين على عكس الأوروبيين أكثريتهم يؤمنون بالله ويعتقدون أنهم شعب متدين كما يترددون على الكنائس بأعداد كبيرة، وبينما لايوجد دليل على اليقظة الدينية في أمريكا منذ منتصف الثمانينات إلا أن العقد التالي بدأ وكأنه يشهد نشاطًا دينيًا واسعًا)[11].
تطبيقات الأصولية الغربية المعاصرة
كان للأصولية الغربية ما لغيرها من حركات الإصلاح الإنسانية والدينية من الإيجابيات والسلبيات، ومن أبرز سلبيات الحركة الأصولية انشقاق الكنيسة الغربية مما أدى إلى ظهور تعصبات طائفية، وكذلك تكاثر الطوائف وتوالدها بسرعة فائقة وليست هذه نتائج الإصلاح الأصولي الغربي فقط، فهناك نتائج وتطبيقات إيجابية للمجتمع الغربي تعدت إلى جميع الميادين الحياتية والمعرفية والتي تعتبر وجه من وجوه التطبيقات الفعلية للأصولية الغربية، ولعل أبرز هذه التطبيقات ما يلي:
التطبيقات الأصولية في المجال الديني:
- إن حركة الأصولية البروتستانتية كانت ميلادًا لغيرها من الأصوليات النصرانية (ماذا كان يحدث لو لم تكرهكم حركة الإصلاح البروتستانتي، على إصلاح الإدارة البابوية وإنقاذ إكليركيوسكم من التسري وتنصيب رجال مؤمنين على كرسي البابوية بدلًا من الوثنيين)[12].
- ردم الهُوَّة بين الكنيسة والشعب فأصبح الشعب يشارك في قرارات الكنيسة واختيار الأساقفة والصلاة بمفردهم داخل الكنيسة وخارجها وقراءة الكتاب المقدس والاطلاع عليه مما أدى إلى شيوعية المعرفة الدينية وانتشارها.
- من أبرز تطبيقات الأصولية الغربية الإرساليات التبشيرية أو كما يسميها الغرب (الرسولية)، (كان بعض هؤلاء المرسلين رحالةً ومستكشفين، وأطباء وعلماء لغات وعلم الأثار، وحملوا إلى البلاد النائية بشارة الإنجيل ومشعل الحرية الروحية والتعليم والتمدن فبنوا في تلك البلدان المدارس والجامعات والمستشفيات وأنظمة التعليم في كثير من هذه البلدان هي من وضع مرسلين إنجيليين)[13]
التطبيقات الأصولية في المجال العلمي والأدبي:
- بعد ترجمة الكتاب المقدس أدى ذلك إلى ضبط اللغة المترجَم إليها كالألمانية وغيرها، وكذلك إلى نمو الآداب والرسم والتصوف، وجميعها أصبح الكتاب المقدس ملهمًا لها. (حرر الإصلاح الديني الفكر البشري الديني الذي كان مقيدًا بالكنيسة، فلم يكن للفرد أن يفكر بنفسه في أموره الدينية، بل كان عليه أن يطيع ما تسُنه الكنيسة من شرائع. صحيح أن المصلحين لم يكونوا متسامحين دينيًا، ولم يكن في المناطق البروتستانتية تسامح ديني، وصحيح أن حروبًا دينية شرسة أعقبت الإصلاح الديني في أوروبا، غير أن الحرية الفردية التي علمها الإصلاح كانت البذرة التي ستنمو وتعلو السلم الحضاري لتصبح في النهاية حرياتٍ دينية صحيحة في عصر الأنوار)[14]
- كان من تطبيقات الأصولية الغربية في ميدان التربية والتعليم فتح المدارس الخاصة بهم ودعم الأمراء لذلك، كذلك تشجيع الدعاة الأصوليين للناس على الالتحاق بهذه المدارس وتعميم الصلاة فيها (اكتسبت المدرسة شهرةً كبيرة في سنواتٍ قليلة مما جعل شهادتها البسيطة تعادل نفس أي مرتبة درجة عليا من أي جامعة كبرى )[15].
التطبيقات الأصولية في المجال السياسي:
- كان للأصولية تطبيقها المباشر في عملية الفكر الاجتماعي السياسي ولا سيما عملية (الديمقراطية) وأصبح الفرد كما يحق له انتخاب رجل الدين، كذلك المشاركة في الحياة السياسية عن طريق الانتخابات والترشيح يقول ول ديورانت (أننا أيدنا حق الملوك الإلهي فإننا أيضا شجعنا نمو الديمقراطية في إنكلترا واسكتلندا وسويسرا وأميركا)[16]
التطبيقات الأصولية في المجال الاقتصادي:
- تطبيقات الأصولية في الميدان الاقتصادي كانت واضحةً وجليَّة، حيث حررت الأصولية عملية الإقطاع الكنسي، وتراجعت الكنائس عن تقييدها لعدد من أنواع المصارف المحرمة سابقًا، وكذلك دعم الأمراء لمقاطعاتهم في الإنتاج وتزامن ذلك مع الهجرة إلى الغرب أدى ذلك إلى نمو اقتصادي كان ممهدًا للرأسمالية وإن اختُلف معها في تطبيقاتها المالية. (وما من شك في أن مستوى المعيشة في إنكلترا وألمانيا وأميركا البروتستانتية أعلى من إيطاليا وفرنسا وإسبانيا الكاثوليكية)[17]
وبذلك يتضح لنا أن دراسة الأصولية الغربية يلزم منه معرفة مراحل التطور الديني الغربي؛ وذلك للوقوف على التطورات التي أدخلتها الأصولية على هيكل الفكر الديني الغربي، وكان من أبرز نتائج دراسة الأصولية الغربية ما يلي:
- أنه كان من عوامل قيامها ونشاطها الحد من تيار المادية الطاغية، وتدارك واقع الحياة الغربية في ظل تنامي الإيديولوجيات العلمية والمادية التي اعتبرت الفرد الغربي آلة ميكانيكية تحفظ له قوته الإنتاجية، ثم تزول تلك القيمة عند انعدام النفعية من طاقة الفرد ليُودَع بعدها لأحدى دور العجزة أو المسنين لينتهي بذلك جزء من قصة بنائه الحضاري.
- دور الحضارة الإسلامية في تاريخ الأصولية الغربية، فقد كانت مُلهمةً لها وباعثًا لروادها الغربيين على بعث الروح الدينية الغربية في مواجهة لتمدد الفكر الإسلامي في الغرب النصراني.
- تنوع أساليب رواد الأصولية الغربية في الدعوة لها، وتوحدهم في المنهج والهدف.
- البعد اليهودي في الأصولية الغربية، توطئةً لخدمة الأطماع اليهودية بتوظيف الحركات الدينية الغربية لخدمة الوعد المفترى.
- هيمنة الأصولية (البروتستانتية) على مواقع صناعة القرار في العالم الغربي، مما يكشف اللثام عن الدعم الغربي اللامتناهي للحركة الصهيونية.
- ظهور أثر الأصولية الغربية في الحياة الغربية في جوانب متعددة من الحياة كنتيجةٍ عملية لنجاح الأصولية في يقظة الفرد الأوروبي من تيار المادية الإلحادي.
- تنامي التفرق الأصولي في الديانات الغربية مؤشرٌ على فقدان صحة الأصول الدينية لهذه الديانات، ووقوعها تحت طائلة التحريف والتبديل البشري المتعدد الأهواء.
اقرأ ايضاً: ال“العلمانية” كلمة فرنسية تعني معاداة المسلمين
[1]– محاضرات في النصرانية، محمد أبو زهرة، ص204 بتصرف.
[2]– أصالة الكتاب المقدس، أدوارد ج، ص30
[3]– تاريخ الحضارة الأوروبية، علي حيدر سليمان، ص70
[4]– الإصلاح الديني في المسيحية، كابان عبد الكريم، ص121،122
[5]– الأصولية بين الإسلام والمسيحية، محمد عمارة، ص26
[6]– اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية دولة دستورية شيوعية سابقة شملت حدودها أغلب مساحة منطقة أوراسيا فيا لفترة مابين عامي 1922 وحتى 1991. والاسم مأخوذ عن الترجمة الروسية للاسم الكامل لاتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية.
[7]– الشيوعيّة هي عبارةٌ عن حركةٍ سياسيّةٍ تهدفُ إلى المُساواةِ بين الأفراد في المُجتمعِ الواحد؛ بحيثِ لا يكونَ أ ي فردٍ أفضلُ مِنَ الآخر، فالمُجتمعُ يجمعُ بين أفرادِهِ تحت مِظلّةٍ واحدة. وتُعرفُ الشيوعيّة أيضاً بأنّها مذهبٌ فكريٌّ يسعى إلى تقديمِ المادّة على كل شيءٍ في الحياة.
[8]– الاشتراكيّة نظام ٌسياسيٌ، واقتصاديٌ، واجتماع يُناديّ بالشّراكةِ بين أفراد المُجتمع الواحد في كافّةِ المجالات العامّة. وتُعرفُ الاشتراكيّة أيضاً بأنّها توزيع المُلكيّة ا لعامّة بين الأفراد الذين يعيشونَ ضمن دولةٍ واحدة من خلال العمل على إلغاء المُلكية المُطلَقة.
[9]– الفقرات من 9-13 انظر الأصولية والعلمانية، مراد وهبة، ص25-26-27 بتصرف.
[10]– معركة المصطلحات، محمد عمارة ص43
-[11]صدام الحضارات، صمويل هنتجون، ص93
[12]– تاريخ الكنائس الإنجيلية ولاهوتيتها، عيسى دياب، ص289
[13]– نفس المرجع، ص83
[14]– نفس المرجع، ص290
[15]– تاريخ الكنيسة، جون لور يمر، ص246
[16]– قصة الحضارة، ول ديورانت، ص259
[17]– نفس المرجع، ص259