- مايكل زيريلا*
- ترجمة: فاتن النفيعي
- تحرير: نورهان محمود
- مراجعة: أروى الشاهين
سيُناقش هذا المقال أهم الأفكار التي قدمها توماس كون حول المنهج العلمي في خضم التوتر المستمر بين مدرستين فكريتين شهيرتين في الأوساط الأكاديمية: الواقعية والبنائية.
هناك العديد من الاختلافات الدقيقة بين هاتين المدرستين لكن يُمكن تفسيرها على نطاق واسع بالطريقة التالية:
من ناحية هناك الأشخاص الملتزمون بتلك الفكرة التي تنُص على أن وجود واقع مادي مستقل عن التصورات البشرية، والعلم يعمل على كشف هذا الواقع منهجيًا؛ يطلق على هؤلاء الأشخاص “الواقعيون”.
لكن من ناحية أخرى هناك من يرى أن النشاط البشري -تحديدًا علم النفس وعلم الاجتماع- هو ما يُشكل واقعنا، سنُطلق على هؤلاء الأشخاص اسم “البنائيين”، لأنهم يعتقدون بحدٍ كبير أن البشر هم من يبنون واقعهم.
إن الواقعيين هم ورثة التيار الذي ساد معظم الفلسفة الطبيعية والعلوم؛ من جهة أخرى نشأت البنائية في القرن العشرين، وهي تُشكل ارتباطًا وثيقًا بالعوالم التي تهيمن عليها القوى الاجتماعية والنفسية، وتتضمن هذه العوالم: الأدب والدين والسياسة والفولكلور (التراث الشعبي).
قبل نشأة البنائية كان يُفترض أن العلوم تحتل المقام الأول على مقياس صدقية معرفتنا بالعالم بالنسبة لجميع مجالات البحث البشري. وكانت إحدى أفكار العلماء هي الشروع بطرح نظريات، ثم اختبارها ومقارنتها بالواقع، وإن لم يكن ثم تطابق بين الطبيعة والنظرية= يتوجب العمل عليها وتطويرها أو استبدالها بالكُلية.
تتضمن الكثير من كتب التأريخ لنظرية المعرفة محاولات لبيان تفوق العلم من خلال تفصيل اعتماد النظريات العلمية على أدلة قوية. كان النهج الشائع هو البدء بالتفكير المنطقي الصارم الذي حدد الفلاسفة بالفعل موثوقيته، ثم إظهار كيف يتوافق التفكير العلمي مع هذا المنطق الصارم.
لكن بحلول منتصف القرن العشرين اتضح أن الطرائق الفعلية المستخدمة من قبل العلماء الناجحين لا تخضع لهذا المنطق المباشر (على سبيل المثال، دوهيم في عام ١٩٥٤). وإدراكًا لذلك، بدأ توماس كون تحليله للعلم من خلال فحص الممارسات اليومية الفعلية للعلماء الناجحين بدلًا من محاولة ملاءمة المنهج العلمي في بعض الأطر المنطقية المحددة مسبقًا.
في عام 1962، نشر كون النتائج التي توصل إليها فيما تبين أنه أحد أكثر الكتب تأثيرًا في هذا القرن: بنية الثورات العلمية.
(كون) هو الوحيد من بين الفلاسفة الذي عارض الفرضية الشهيرة، حيث رأى أن العلماء لم يقوموا باختبار نظرياتهم مباشرةً، وأيضا كانت الاختبارات التي تكتشف خطأ نظرية ما نادرة جدا (وهو من المبادئ التي أوصى بها كارل بوبر). إلا أن العلماء عادةً ما يبدؤون عملهم بفرضية أن نظرياتهم صحيحة (تقريبًا). في الواقع، يعتبر أكثر العلماء أن غالب نظرياتهم أمر مسلم به؛ كما أنهم يعملون ضمن أساليب التحقيق المقبولة، ومعايير الأدلة المقبولة، والأساليب المقبولة للتحليل الإحصائي، والتأطير المفاهيمي المقبول لموضوعات بحثهم.
جميع ما ذُكر يُشكل ما أطلق علية كون “النموذج الإرشادي/الباراديغم” الذي يُنظم ويُوجه كُل ما يحدث في مجال العلوم بدءًا من الصياغة الأولية لمتطلبات البحث إلى بناء التجارب وتفسير الظواهر التي يمكن ملاحظتها. ولو لم يكن هناك نموذج لمّا كان العلماء قادرين على اتباع خطة شاملة ومتكاملة لعملهم، ولمّا حقق مجال دراستهم نوع النجاح الذي نتوقعه من تخصص علمي وحقيقي.
أطلق كون على النشاط اليومي للعلماء الذين يعملون ضمن نموذجهم “العلوم القياسية”، والتي تتضمن العمل على حل الأسئلة المُحيرة ولم يتم الإجابة عليها، والمشكلات التي لم يتم حلها بالنموذج، وأيضًا يُطلق عليه علم “حل الألغاز” لأنه بإمكاننا النظر إلى النموذج على أنه أحجية كبيرة تتكون من عدة حدود ومميزات أساسية، لكنها لاتزال تحتوي على العديد من الجوانب غير المكتملة والتي تستدعي إجراء بحث جديد.
قد ينتج أحيانًا عن التجربة نتائج سلبية أو غير متوقعة، لكن إذا كان من المسلم به أن النموذج صحيح، فإن تلك الحالة لا تشير إلا لخطأ المجرّب بدلًا من وجود مشكلة بالنموذج نفسه؛ وعندما تستمر النتائج السلبية بالرغم من الجهود المبذولة للقضاء عليها، يُحكم عليها بأنها حالة شاذة، مع المحافظة على النموذج دون أي اعتراض. وفي النهاية ستصبح الحالات الشاذة كافية كفاية كبيرة لإثارة تحدٍ مباشر للنموذج، وربما أدى ذلك إلى دفع التحول لنموذج جديد. لذلك كان الاهتمام الذي يشغل كون هو كيفية تحول العلماء إلى نموذج جديد، وقد أثار رأيه جدلاً كبيرًا وساهم بذلك في توسيع الهوة بين الواقعيين والبنائيين.
يعتقد (كون) أنه إذا تُخلِّص من النموذج سيخسر العلماء المعادلات والتطبيقات التي قدمتها النظرية القديمة، وليس هذا فحسب، بل سيخسرون أيضًا أساليب التحقق ومعايير الأدلة وكلّ ما استخدموه لتوجيه تفكيرهم في النموذج السابق، ونتيجة ذلك لا يعترف كون بوجود أي طريقة محايدة داخل النموذج تسمح بالمقارنة بين نموذجين متنافسين أو بما يسمح لنا بالقول أن النموذج الجديد أفضل من القديم، أو أن التحول يمثل تقدم علميًا شاملًا؛ لذلك قد لا تكون أي طريقة نميل لاستعمالها لتقييم جودة النموذج قابلة للتطبيق على النماذج الأخرى، إن هذه النماذج غير قابلة للقياس (حسب ما ذكره كون).
وفقًا لِمَا ذكره كون عن أن النماذج غير قابلة للقياس، انتقلت القوى الاجتماعية إلى عرش السيطرة، وانتهى الأمر بالأعضاء المهيمنين في المجتمع العلمي بإقناع الجميع (اجتماعيًا وليس علميًا) بقبول النموذج الجديد (أو البقاء على النموذج السابق). وهذا من شأنه أن يسلب من العلم تفوقه المعرفي على المجالات الأخرى، لأنه إذا كان ما ذكره كون صحيحًا= فإن النظريات العلمية تتشكل بالقوى الاجتماعية وليس الطبيعة المتجردة.
مهّد كون الطريق للبنائيين بهدف الاحتجاج بأن العلوم لن تصبح أفضل من الدين والسياسية والفولكلور بمجرد الكشف عن الحقائق الطبيعية، إلا أن احتجاجهم بما قبلناه بالواقع يتحدد من خلال عوامل اجتماعية على نطاق واسع “على سبيل المثال: فيرابيند (١٩٧٥)؛ لاتور وولجار (١٩٧٩) “.
في أواخر القرن العشرين ناضل الواقعيون من أجل إعادة تأسيس دقة العلم في مواجهة حجج البنائية.[1] يعتقد معظم فلاسفة العلوم بأن أساليب النموذج المحايد ومعايير الأدلة محفوظة على الرغم من التغيرات التي تحصل بالنظريات. وكذلك معظم الفلاسفة يتقبلون أي شيء يشابه وصف كون للعلوم القياسية، بما في ذلك وجود تحيز في تأييد النظريات الموجودة (على سبيل المثال: تشالمرز ١٩٩٠، وكيتشر ١٩٩٥).
- مايكل زيريلا: أستاذ الفلسفة في جامعة كولورادو.
(1) هناك العديد من التداعيات العامة التي تظهر هذا الخلاف الأكاديمي.على سبيل المثال،غالبًا ما تتضمن المناظرات العامة تجاة الأشياء مثل تعليم العلوم وتغير المناخ إحالة غير مباشرة إلى مفهوم كون عن النماذج غير قابل للقياس والتكافؤ بين الأساليب العلمية وغير علمية لفهم مايجري حول العالم.
المصادر:
Chalmers, Alan Francis. Science and Its Fabrication, University of Minnesota Press, 1990.
Duhem, Pierre. The Aim and Structure of Physical Theory, translated by Philip Wiener, Princeton University Press, 1954.
Feyerabend, Paul. Against Method, London: Verso, 1975.
Kitcher, Philip. The Advancement of Science – Science without Legend, Objectivity without Illusions, Oxford University Press, 1995.
Kuhn, Thomas. The Structure of Scientific Revolutions, University of Chicago Press, 1962.
Latour, Bruno and Steve Woolgar. Laboratory Life: The Social Construction of Scientific Facts, Beverly Hills: Sage Publications, 1979.
Popper, Karl. Logik der Forschung, Vienna: Julius Springer Verlag, 1935.