- مشاعل آل عايش
- تحرير: عبير الغامدي
حينما خلق الله الكون على هذه العظمة والدقة والجمال، خلق في النفس الإنسانية النزعة إلى سبر أغواره، وكشف بعضًا من حقائقه، والسعي لفهم جوانب العظمة في إيجاده وتسييره، فغدى الكون مسرح للفكر والتأمل، كلما كان التفكر في جوانبه عميقًا كلما “ارتد البصر خاسئًا وهو حسير”، فدلائل الربوبية لا تنقضي، وتساؤلات النفس لا يفي النظر بالإجابة عنها. لذلك جاء الوحي هاديًا وعاصمًا للعقل من الزلل، لأن العقل إذا أطلق دون قيد زل.
وحينما يكون دافع الرغبة العلمية هو السبب لدراسة هذا الكون، ومحاولة اكتشاف أسراره، وقوانينه الدقيقة التي لم تختل أبدًا أو تتعطل، يزداد شعورًا بالعبودية لخالق هذا الكون، فيستحيل طلب العلم عند ذلك عبادة ولذة لا يدركها إلا من شغل نفسه بذلك. وكم سمعنا عن عالِم متبحر في علمه قضى جل عمره في مختبره ومعمله ليصل إلى حقائق علميه نزعت نفسه إلى اكتشافها، يعلن بعدها ضعفه وقلة علمه، وأن عظمة الله -سبحانه- لا يحيط بها فناء الأعمار في دراسة خلقه. عندئذٍ يكون للعلم هيبةً وجمالًا حين يتد ثر برداء الإيمان، فيأتي إلى النفس الإنسانية كبلسم يطبّب جراحها، وموردًا عذبًا يروي ظمأ شوقها في الوصول إلى خالقها، ويكون العلماء في هذه الحالة روّاد الخشية، ورُسل الحقيقة، فيتحقّق فيهم قول الحق سبحانه “إنما يخشى الله من عباده العلماء” لم يزدهم علمهم إلا إقرارًا بقلة فهمهم في جانب خلق الله وعظمته.
وعند محاولة تجريد العلم من روحانيته يصبح عبئًا على النفس والعقل، يمنح طلابه نفرة من الإقبال عليه، و الاستزادة منه، فالعالِم الفسيولوجي يهتم بالخلية ونواتها ووظائفها متجاهلا خصائص الرأفة والرحمة، والخوف، والرجاء، والتوكل التي تميز إنسانًا عن آخر.
فقد أصبحت التطبيقات الإلحادية المعاصرة تتدثر برداء العلم الفيزيائي والبيوكيميائي، بل وصل الأمر إلى جعل الوظائف الإنسانية الطبيعية خاضعة للمقارنة مع وظائف الآلة بما يعرف بعلم (السيبرناطيقيا)، وذلك كمحاولة لإلغاء الدور الإلهي في خلق وظائف الإنسان وتجريدها من الروح، وتحويلها إلى علم ديناميكي بيولوجي خاضع للقياس والتجربة.
ولانحراف مسارات الإلحاد العالمية المعاصرة من مسارات فلسفية، وذلك نتيجةً لتراجع مصداقية الخطاب الفلسفي، واتجاهها إلى مسارات علمية مواكبة للإقبال على مصداقية العلم، كما صرح بذلك شيلك في مقاله (نقطة التحول في الفلسفة المعاصرة) ولخضوع كثيرًا من معطيات العصر للقانون التجريبي، مما جعل ليوناردو دافنشي يعلن أن (التجربة هي الطريقة الوحيدة التي لا تخدعنا)، وأن كل ما في الكون من الذرة إلى المجرة خاضع للقياس والتجربة، مدعمًّا بنظريات المنهج الصوري الرياضي.
والمتأمل للمسائل الإلحادية المعاصرة، التي مازال دعاتها يتشبثون بها ويجدّدون طرحها من حيث المسائل الطبيعية الكونية، أو الحقائق العلمية، أو المسائل الدينية، نجد أن التعمق في الرد على تلك المسائل يعود بهم إلى بداية الوجود، التي سيحتكم فيها الملحد إلى الدين، لأن أدلته لا تفسر تلك المسائل، ولذلك قال هايزنبرج لأنيشتاين: (جمال المعادلة ليس اقتصاد في التفكير، ولكنه شيء لصيق بطبيعة الكون نفسه)، وحينما حاول الملاحدة إسقاط العلة الغائية من الخلق سقطت جميع دعاويهم، لأن هذه العلة هي التي تكشف لنا قصر العلم، وقصر العقل عن كشفها؛ لأنها فوق مستواهما وخارج إطارهما، وهنا تتجلى عظمة الله وقدرته سبحانه في موجوداته.
فالعالم الفيزيائي يأتي إلى قوانين الطبيعة والذرة والطاقة مختزلًا علمه إلى ما تحت البنية الذرية للمادة، متجاهلًا بناها الفوقية من سلامة الفطرة، والإقرار بالعلو للخالق، بل مجردًا كل مكونات الطبيعة من عبوديتها لله، والله يقول: “وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم” فيقصي خلق الخالق للكون، ليطل على الدنيا بقوانين مادية لا تزيد طالب العلم إلا شقاء، وفناء عمر على غير الجادة، لتضارب الفطرة مع معطيات العقل المنتكس، فيخرج لنا قانونًا أشد نكسة للعلم وأهله، كقانون المادة الذي زعموا فيه “أنها لا تفنى ولا تستحدث من العدم”، والله يقول: (كل من عليها فان)، وفي الحديث”كان الله ولم يكن شيء غيره“، وفي رواية “لم يكن شيء قبله“، مما يجعل الفيزيائي يعيش صراعًا يسمى “الصراع الفيزيائي”، لأنه يرى وجود قوى في الطبيعة لا تطالها أجهزة العلم، وأدواته قد تظهر في المختبرات لدى بعض الناس ممن تقترب قدراتهم النفسية من السطح أكثر من غيرهم. وهو ما يسمونه “البارا بسكيولوجيا” أو علم الخوارق.
ومع تزايد حمأة العلم الميكانيكي وتطوراته المذهلة في الآونة الأخيرة حتى أصبح العلم ترفًا لا يضبطه دين أو خلق، ظهر لنا ما يفتك بحياة البشرية ويؤثر على مسيرتها الحياتية، كتطور الأسلحة المدمرة، والمنتجات المعدلة وراثيًا، والاستنساخ، وغيرها مما يفقد العلم معنى الحياة التي كان يجب أن يهديها إلى البشرية فتنعم به أمنًا وسلامًا.
يقول خوان لوبيز -ايبور- الطبيب النفسي الإسباني: “محنة العلم الحالية كما يلي: كان رجل الشارع فيما مضى ينتظر من العالم تفسيرًا للكون والحياة البشرية، أما الآن فهو لا يطلب منه إلا أن يساعده على الحياة، وعلى تخفيف جهوده وأوجاعه، لقد صار العالم تقنيًا أكثر فأكثر، حكيمًا أقل فأقل، أما العلم فلم يعد موجودًا، إذ لم تعد توجد إلا العلوم ، وهذا التبدّد في المعرفة، وهذا الافتقار إلى صورة واضحة لما يجري على الكرة الأرضية، هو أحد أسباب الكرب البشري في يومنا هذا”.
فجمال العلم بجمال الروحانية التي يُحيي بها النفس، ويلم بها شعثها لتقبل على خالقها، فمهما حاول العلماء تغطية ذلك الإقرار الفطري بوجود الخالق -سبحانه- تضل هناك ضرورة نفسية تجذب العبد لمولاه، حضر الشيخ أبا جعفر الهمداني مجلس أبا المعالي الجويني وهو يتكلم عن نفي صفة علو الله، ويقول: “كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما كان“، فقال الشيخ: دعنا من ذكر العرش فإنما ورد بالسمع “أي الدليل”، ولكن أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في أنفسنا، فما قال عارف “يا الله” إلا وجد من قلبه ضرورة تطلب العلو، فلطم الجويني رأسه وقال: “حيرني الهمداني”.
فالمعرفة دون روح كحياة الأسير في القفص، لا يرى من جمال الطبيعة إلا جدران زنزانته الباهتة، فيزيده ذلك تعاسة وشقاء، وهذا ما طالب به الشاعر الإنجليزي “تنسون”.
فلتنم المعرفة أكثر، وليقم فينا المزيد من الخشوع، ولعل جيلنا المعاصر من أكثر الأجيال حاجة إلى إحياء روحانية العلم في نفوسهم، لاسيما مع هذا التطور العلمي الهائل، فيصبح العلم لهم دليلا إلى سعادة الدارين، وإلا أصبحوا صرعى بين معسكري العقل والروح.
فإذا غابت روحانية العلم فقد العلم أثره في بناء الحياة، وانقلب إلى معول هدم للتراث الإنساني.