- ماثيو جيرو
- ترجمة: مريَمة بنت حكيم
- تحرير: أحمد بن نصر
ما المساحات التي يشغلها المصطلح الإشكالي “ما بعد الحداثة”؟ الجواب هو أنه بعد أن كان محصورًا في العمارة، سرعان ما توسع معناه إلى الفلسفة. وستحدِد ما بعد الحداثة ما يأتي بعد الحديث، أي أنه سيكون شاهدًا على نهاية القصص العظيمة والسرديات الكبرى الموروثة من عصر التنوير. لكن في النهاية، هل ترقى ما بعد الحداثة إلى مستوى طموحاتها؟ ألا يظل أسير أنماط التفكير الحديثة التي يدَّعي إبطالها؟
إن فكرة “ما بعد الحداثة” أو “الما بعد حداثية” هي حقل خصب لسوء الفهم؛ فالنظرة السليمة سترى أن ما بعد الحداثة هي نوع من الحداثة المكثفة، حيث إنها تتناول مقترحات الحداثة بدفعها إلى ذِروتها.
وفي هذا ستكون ما بعد الحداثة أسوأ من الحداثة. فالبادئة “post” تعني أيضًا أن ما بعد الحداثة تأتي بعد العالم الحديث. ومع ذلك، فبالنسبة لفرانسوا ليوتار الذي نشر المصطلح في فرنسا من خلال عملين “حالة ما بعد الحداثة” (1979) و “شرح ما بعد الحداثة للمبتدئين” (1998)؛ فما بعد الحداثة هي بالتأكيد جزء من الحداثة وفي نظره أنّ ما بعد الحداثة هي “لحظة من العصر الحديث” فهي رد فعل حديث ضد الحداثة.
هل يعني هذا أنه يجب إهمال مفهوم ما بعد الحداثة أو اختزاله إلى شكل من أشكال الحداثة -باعتبارها لحظة من العصر الحديث-؟ وهل ما بعد الحداثة هي فقط شرط إمكانية تجديد الحداثة؟ هنا يتذكر ليوتار: أن بول سيزان[1] يسير ضد الانطباعيين، وبيكاسو يرد على سيزان، ودوشامب يرد بيكاسو. لذلك سيمثل كل منهم حالة “ما بعد حداثية” للآخر. وكما يقول في شرح ما بعد الحداثة للمبتدئين: “لا يمكن للعمل [الفكري أو الفني] أن يكون حديثًا إلا إذا كان ما بعد حداثي أولًا، وهكذا فإن ما بعد الحداثة لا تُفهَم على أنها تمثل الحداثة في نهايتها، بل في حالتها الوليدة، وهذه الحالة ثابتة”.
ومن جانبه، يشرح أنطوان كومبانيون في “المفارقات الخمس للحداثة” (1990) أن مصطلح ما بعد الحداثة كان يُستخدَم لأول مرة في الهندسة المعمارية للإشارة إلى محاولة تجاوُز الوظيفية، وهي حركة فنية يمثلها بشكل أساسي لو كوربوزييه وميس فان دير روه وفرانك لويد رايت. بينما كانت الوظيفية مدفوعة بالعقلانية والمسيانية. عمل لو كوربوزييه منظّم حول مشروع اجتماعي حقيقي. تنوي ما بعد الحداثة إعادة الاتصال بأشكال معينة من الماضي من خلال إعادة تخصيصها حتى لو كان ذلك يعني القيام به في شكل محاكاة ساخرة أو تهكّمية.
يرى كومبانيون في ما بعد الحداثة “التوفيق بين المعتقدات” و “بيت التسامح” الذي لا يتردد في مزج الأنماط ويتخلى عن جعل “التقدم” محركه الرئيسي. ويوضح الأستاذ في الـ (كوليج دي فرانس) أن: “ما بعد الحداثة تقدم طريقة مختلفة للتفكير حول العلاقة بين التقليد والابتكار والتقليد والأصالة”.
من أين تأتي عناية ما بعد الحداثي بفكرة التقدم؟ وفقًا لليوتار، سيتوافق هذا مع الحِداد على الوعد الحديث بالتحرر الشامل. ويتزامن ظهور ما بعد الحداثة مع موت السرديات الكبرى وينطوي على أزمة في الشرعية.
يمكننا أن نلاحظ ونثبت نوعًا من التراجع في الثقة التي وضعها الغربيون في القرنين الماضيين في مبدأ التقدم العام للبشرية. كانت فكرة التقدم الممكن أو المحتمل أو الضروري متجذرة في اليقين بأن تطوير الفنون والتقنيات والمعرفة والحريات سيفيد البشرية ككل، كما بين في شرح ما بعد الحداثة للمبتدئين.
ويتابع: “بعد هذين القرنين الماضيين، أصبحنا أكثر انتباهًا للعلامات التي تشير إلى حركة معاكسة. فلم تظهر الليبرالية الاقتصادية أو السياسية ولا الماركسية المختلفة من هذين القرنين الدمويين دون توجيه تهمة ارتكاب جريمة ضد الإنسانية.”
ما بعد الحداثة “أيديولوجية نهاية الأيديولوجيات”
إذن فقد كانت الحرب العالمية الثانية بمثابة توقف لمختلف أشكال العقلانية التاريخية. إنّ ما بعد الحداثة هي إبطال للسردية المسيحية عن الخلاص، وسردية التنوير عن التحرر من خلال العقل والمساواة بين البشر، والسردية الماركسية للتحرر من الاستغلال والاغتراب بإضفاء الطابع الاجتماعي على العمل، وكذلك السردية الرأسمالية لتحرير الفقراء بالتنمية الصناعية التقنية؛ فبالنسبة لما بعد الحداثة، لم يعد المستقبل مشرقًا، ولم يعد التاريخ خطِّيًا، والأيديولوجيات العظيمة أصبحت محلًا للشك.
إنّ التقدم نفسه الذي كان من المفترض أن يكون الوسيلة الأفضل لتحرير الإنسان بالإنسان، أصبح يتبنى الآن سمات “غولم”[2]. ويؤكد ليوتار أن “تطوير العلوم التقنية قد أصبح وسيلة لزيادة القلق وليس للاسترخاء؛ فلم يعد من الممكن تسمية هذا التطور بالتقدم. ويبدو أنه يستمر من تلقاء نفسه بقوة وحركة مستقلة -مستقلة عنَّا- لا تستجيب للمطالب الناشئة عن الاحتياجات البشرية. وعلى العكس من ذلك، فإن الكيانات البشرية -الفردية أو الاجتماعية- تبدو دائمًا غير مستقرة بسبب نتائج التنمية وعواقبها”.
هل يجب إذن أن نفكر في ما بعد الحداثة كمفهوم مستقل عن الحداثة؟ مثل استراحة كبيرة من شأنها أن تطردنا خارج الحديث؟ -وبعبارة أخرى-هل تشير ما بعد الحداثة إلى نهاية خمسة قرون من الحداثة الفلسفية؟ بالنسبة لكامبنيون، فهي ليس كذلك.
تقع ما بعد الحداثة -رغمًا عنها- في فخ الحداثة، وقد كتب كامبنون في مفارقات الحداثة الخمسة: “ثمّة مفارقة لما بعد الحداثة -التي تدعي التخلص من الحداثة وتعيد إنتاج العملية الحديثة بامتياز- أولها دعوى الانفصام”؛ وهو يعني فشل ما بعد الحداثة في الانفصام عن المفهوم الخطي للتاريخ الذي ينبثق من الحداثة. فمن خلال الرغبة في جعل نفسها مختلفة عن الحداثة، فإن ما بعد الحداثة تعمل فقط وفقًا لتصنيفات العصر الحداثة. ويعتمد كامبينون على تحليلات الفيلسوف الإيطالي جياني ڤاتيمو الذي يقول: “للتأكيد على أننا نقع في لحظة ما بعد الحداثة ومنْح هذه الحقيقة معنًى حاسمًا، يُفترض قبول ما يميز بشكل أكثر تحديدًا وجهة نظر الحداثة ذاتها، أيْ فكرةُ التاريخ ونتائجه: مفاهيم التقدم والسيطرة”.
وفي نهاية المطاف: تظل ما بعد الحداثة “لحظة من الحداثة” أو كما يصفها كومبانيون “آخرُ تجسيدٍ للحداثة”. وعلى الرغم من ادعاءات ما بعد الحداثة الفنية أو الفلسفية، فهي لا تنجح في التملّص من نمط التفكير الخاص بالحداثة؛ فهي لا تكسر الوهم التاريخي ويمكن عدُّها في كلمات كومبانيون على أنها “أيديولوجية نهاية الأيديولوجيات”.
[1] بول سيزان (بالفرنسية: Cézanne Paul) هو رسّام فرنسي. على غرار زملائه من المدرسة الانطباعية، مارس التصوير في الهواء الطلق (مشاهد طبيعية)، إلا أنه قام بنقل أحاسيسه التصويرية، في تراكيب جسمية وكتلية (ملامح بشرية وغيرها). من أهم الموضوعات التي تعرض لها: الطبيعة الصامتة، المناظر الطبيعية، صور شخصية (بورتريهات)، ملامح بشرية (لاعبو الورق)، مشاهد لمجموعات من المستحِمين أو المستحِمات. كان له تأثير كبير على العديد من الحركات الفنية في القرن العشرين (الوحشية، التكعيبية، التجريدية). ويمكن أن نعتبر أن سيزان أبو للفن الحديث وذلك لأن أسلوبه كان بمثابة المرحلة الانتقالية لتغيُّر كبير في تاريخ الفن الحديث حيث انتقل فن التصوير بفضل تجاربه من المدرسة التي نشأت في نهاية القرن التاسع عشر إلي المدرسة التجريدية الحديثة التي تكونت في القرن العشرين. (المراجع)
[2] غولم هو مخلوق أسطوري من الثقافة اليهودية. وهي موصوفة في مزامير التلمود وتعني “جنين، شيء غير مكتمل، أو بلا شكل” (المترجمة)