- عبد الله الوهيبي
- تحرير: سهام سايح
(1)
وصَف عمرو بن العاص رضي الله عنه الموت عند وفاته، فقال:” أجدني كأنّ على عنقي جبال رضوى، [وفي رواية] وكأنّي أتنفَّس من سَمِّ إبرة، وكأنّ غصن الشوك يُجَرُّ به من قدمي إلى هامتي”. الموت يظهر هنا كألم خالص، ألمٌ جسدي بحت. كان هذا الوصف إجابة لطلب من عبد الله بن عمرو رضي الله عنه. كانت محاولة لتبديد بعضًا من الخوف الطبيعي في غُموض الموت، فوصف الشيء ومنحه شكلًا لغويًا يُشعر النفس بالتملك، ويُوّلد نوعًا من التوقُع الذي يُخفف من وقع المجهول. ومع ذلك فقد كانت المحاولة – مع توسُّلها بإمكانات التصوير والمجاز الممكن- لا تزال تعاني من قصور جوهري في توصيف “ألم” الموت. وهذه إحدى معضلات الألم بوصفه ظاهرة ملازمة للجسد والروح. ليس الأمر مجرد قصور لغوي، بل أعمق من ذلك، فشدَّة الألم –أجارنا الله- في سكرات الموت كما يقول أبو حامد الغزالي”لا يعرفها بالحقيقة إلا من ذاقها، ومن لم يذقها فإنّما يعرفها إمّا بالقياس إلى الآلام التي أدركها، وإما بالاستدلال بأحوال الناس في النَزع على شدّة ما هم فيه”، وهذه المعرفة الثانية ليست معرفة على الحقيقة، وإنّما على التقريب، فالشعور بالألم نموذج لليقين الذاتي – كما يعبِّر بعضهم-. في حين أنّ الشعور بألم الآخر نموذج للشّك، لأنّه لا يمكن التحقق منه، فـ”الألم ليس مُعطى تقرره المظاهر البيولوجية، وإنّما أولًا إحساس فرد. وتقويمه يتم انطلاقًا من تصريحات المريض، وهو لا يخضع للبرهان، بل للإحساس والتجربة”. ومما يستتبع هذا المعنى، ما قد يُورثُه الألم في صاحبه من تقوية “الشعور بالوحدة، لأنّ المتألم ينطوي على نفسه ويبتعد عن الآخرين، ويتضخم هذا الإحساس عندما يرى المتألم ألا أحد قادر على فهم معاناته”، وعدم فهم المعاناة الذاتية نابعٌ جزئيًا من استحالة نقل الشعور الذاتي المؤلم، إلاّ بعبارات تقريبية قاصرة، كوصف ألم البطن بأنّه كطعن السكاكين، أو ألم باطن القدم بأنّه يشبه المشي على الزُجاج، وألم الصُداع بكونه يشبه ثقب المسامير، وتتفاقم الوحدة الشعورية إذا كان الألم لا تُعرف له ماهية طبية محددة، ومن الصورة المدروسة طبيًا في ذلك، ما يسمى بـ”اضطراب الألم“، وهو اضطراب يصيب بعض الناس ويتكوّن من أعراض معينة لا يمكن تفسيرها بالكلية بنتائج الفحوصات الطبية.
(2)
يُمثل الألم مدخلًا من مداخل فهم الظاهرة الإنسانية، لكونه ظاهرة فريدة تتواشَج في داخلها أنماط متنوعة من الدلالات والرموز والارتباطات الداخلية والخارجية، يقول الأنثروبولوجي الفرنسي دافيد لوبروتون:
“يتَوسّل الفرد في رؤيته للعالم أمام الألم قِيَمه الدينية أو العلمانية ومساره الشخصي، لأنّ وظائف أعضاء الإنسان لا تعمل بنقاء خالص، فليس هناك عذرية بيولوجية تضع الإنسان خارج التاريخ والوعي وخارج ما هو مجتمعي. فالإنسان تتخلله بكثافة الرمزيات الاجتماعية والثقافية”.
وهكذا فلا يقع الألم على جميع الناس بنفس الدرجة، فمن المعروف –مثلًا- أنّ الطبقات الشعبية والأفقر هي الأكثر تحملًا للألم. ويرصد النمساوي جان أميري (ت1978) -أحد الناجين من معسكرات النازية- ما شاهده إبّان الاجتياح الألماني في 1941 من قدرة الروس الفائقة في تحمُّل الوحشية والفظائع، بالمقارنة مع بقية المعتقلين الأوروبيين في سجن بوخنفالد، “أجسامنا ليست سيَّان أمام العنف والتعذيب” كما يقول. لا يتعلق الأمر بالصّلابة البدنية فقط، لأنّ هذا لا يفسِّر صمود العديد من الضحايا الذين يقاومون بأجساد ضئيلة منهكة وحشية الجلاّد، الأمر يتعلق أحيانًا برسوخ المعتقد، وعُمق الإيمان.
ولكون الألم ليس مُعطى عُضويًا بحتًا، وإنّما نتيجة تفاعل غامض بين مزيج متنوع من العوامل الجسدية والثقافية والاعتقادية والاجتماعية يلجأ الناس لدفع الألم بألوان من الطرائق كالانشغال بالمفرحات الذهنية والحركية، وتقوية الاعتقادات، أو تشتيت الانتباه، وتركيز الذهن خارج موضع الألم، فابن تيمية رحمه الله كان يحاجج الطبيب حين قال له: “أضر ما عليك الكلام في العلم والفكر فيه والتوجه والذكر”، فقال: “ألستم تزعمون أنّ النفس إذا قويت وفرحت أوجب فرحها لها قوة تعين بها الطبيعة على دفع العارض، فإنّه عدوها فإذا قويت عليه قهرته”، فقال له الطبيب: “بلى”، فقال:” إذا اشتغلت نفسي بالتوجه والذكر والكلام في العلم، وظفرت بما يشكل عليها منه فرحت به وقويت، فأوجب ذلك دفع العارض”، فهنا يستخدم ابن تيمية لغة الطب في زمنه لتأكيد المعنى المشار إليه من كون الألم ليس نتيجة عضوية محضة، وإلاّ لما أمكن التغلُّب عليه بمحض الاشتغال الذهني، وفي هذا الصدد أيضًا كان بليز باسكال يقاوم آلام الأسنان الموجعة بالانهماك في حل معضلة رياضية، وكانط يتناسى آلامه بالتركيز على أحد الأسماء أو الأشياء، ولذا ممَّا يقاوم الألم الكلمة الطيبة التي تقال للمتألم، واليد الممدودة، أو الجلوس الحميم فحسب قرب سرير المريض. وفي المصادر الحديثة – التي تناولت هذا المعنى- قصص مثيرة، فمن ذلك ما رصده بعض الأطباء عن الفرق بين آلام الجرحى في الحروب والمصابين في المستشفيات المدنية، فالجندي المصاب يخف عليه وقع الألم، لمّا يرى من أهوال الحرب، ولما يشاهده من جراح رفاقه، ولكون الجرح يبعده عن موقع المخاطر المباشرة المترقبة…الخ. ومن ذلك أيضًا حكاية لأحد المرضى الذي أصيب بحروق قاسية، وكان يطلب زيادة المسكنات لشدة الآلام، فجاءته فتاة وأخذت تُحادثه، واسترسل في الحديث عن حياته وذكرياته، حتى نسي الألم، بل وحين جاءت الممرضة قال لها أنه لا يحتاج للمسكِّن، ثم نام نومًا هادئًا بعد ذلك بدون مُسكنات، وكان يتعجب من حال نفسه كيف ذهب عنه ما يجد بمجرد الحديث. وكل ذلك أو بعضه مما يدركه أكثر الناس بالتجربة الذاتية. والخلاصة كما يؤكد لوبروتون أن “الألم ليس واقعًا بيولوجيًا محضًا، بقدر ما هو رهين الدلالة التي يُضفيها الإنسان عليه”.
(3)
لا يمكن للإنسان أن يستغني عن الألم تمامًا، فكيَانه المادي مرتهن جزئيًا في سلامته لشعوره الواضح بالألم، فهو “يحفظ الإنسان من عدة تهديدات يمكن أن تحطمه، وهو يحمي البدن بالانسحاب الآني الذي تقتضيه اللحظة، وبالأثر الذي ينقشه في الذاكرة، والذي يُحفزه على الفعل. وهو أيضًا وسيلة تربوية ناجعة للطفل المعاقب على ارتكاب فعل غير مقبول، فهو يتعلّم التأنّي الضروري الذي يعوّض الهشاشة الطبيعية للوضع البشري”.
بل إنّ انتفاء الشعور بالألم مطلقًا يُعدُّ في ذاته مرضًا خطيرًا، قد يسبب فساد الأطراف وتهشمها لعدم التوقِّي الناتج عن الألم، وفشل الطب الحديث في صنع نموذج صناعي بديل يشابه نظام الألم المعقد الذي يحفظ توازن الجسد. وهذا التناقض الكامن في ضرورة الألم للصحة من مواطن التأمل في عجيب خلق الله وعظيم حكمته تعالى.
وفوق ذلك، فإنّ للألم فضائل وجودية، تقرِّب الإنسان من حقيقة هذا العالم، وتُذكِّره بهشاشته، وتنبهه لحقيقة مصيره، وتكسر من ترفعه وعنجهيته، وتهيئه لتقبل موته. وكما أنّ اللذائذ الدنيوية الناقصة نماذج تحثُّ العبد على تطلب الملاذ الأخروية الكاملة، فكذلك الآلام الدنيوية الناقصة تحث العبد على توقِّي الآلام الأخروية الكاملة، فـ”الآلام الضعيفة التي تناله من العثرات الصغيرة نُذُر تأتيه من عالم الغيب؛ لتحذره من الآلام الشديدة التي تناله من السقطات الكبيرة” كما يقول المنفلوطي رحمه الله.
(4)
إن هذا التَواشُج الرمزي والدلالي في ظاهرة “الألم” يفسر لنا التحوُّل في موقف الإنسان الحديث من الألم، على النحو الذي ترصده العديد من الدراسات الأنثروبولوجية والسيسيولوجية، وذلك أنّ صراع الحداثة مع المعاناة، هو صراعٌ مع الألم، وقد أخذت الحداثة على عاتقها مكافحة كافة أشكال الألم/المعاناة، وهذه المكافحة والوعد اليوتوبي بتقليص الآلام البشرية تقع في قلب أيديولوجية التقدُّم الحداثي. وقد “دشّن التخدير في الممارسة الطبية بداية تغيير للعقليات الجماعية أمام ألم كان محتومًا، وبهذا تغيرت النظرة إلى الألم الذي لم يعد قدرًا مكتوبًا في عيني المرضى الذين كانوا مقتنعين -عن حق أو باطل- بأنّ الطب هو الجواب والطريق المسكِّن لآلامهم”.
وحين برهن الطب على كفاءته عبر تأكيده لقدرته في علاج الألم، جعلت الأيديولوجية الطبية الحديثة الألم أمرًا بشعًا لا يطاق، وجردته من دلالاته المعنوية والثقافية. كما أسهم توفر المُسكِّنات وتنوعها وتنافس شركات الأدوية في تطويرها ورخص أسعارها في دفع الأفراد للبحث عن علاج مباشر وفعّال لكل ما يطرأ من آلام. وهذه الحالة الحديثة في التعامل مع الآلام – مهما صغرت- أفقدت الإنسان الحديث الكثير من إصراره على إظهار الصبر والصلابة، والتي كانت تعدُّ فيما سبق علامة أكيدة على الرجولة أو الانتماء إلى الجماعة، كما أفقدت الأنماط القديمة لمواجهة الألم – من المواساة والدعم والمعنى الديني للابتلاء- تجذُّرها الاجتماعي، مما خفض عتبة التحمُّل، بالتوازي مع شيوع أنواع المسكنات، كما يشير لوبروتون في كتاباته المتعددة عن “الألم”.
وفقدان الألم لمعناه ودلالاته الدينية والثقافية في ظل المعيشة الحداثية حوَّله لظاهرة مرعبة، وغير محتملة، وقد “أظهرت الكثير من الاستطلاعات أنّ الخوف من المُعاناة أصبح يثير رعبًا أكبر من رعب الموت نفسه، بعدما فقد الألم معناه تمامًا، ولم يعد يُرى سوى أنّه تعذيب محض”.
الجراح الأمريكي بول براند سجل ملاحظته لهذا التحوُّل ومخاطره من واقع خبرته الطبية، يقول: “ترى النظرة الحديثة للألم على أنّه عدو، الغازي المشؤوم الذي لا بد من طرده. وإذا ما تخلّص المُنتج (س) من الألم خلال ثلاثين ثانية أسرع من غيره، فبها ونعمتْ. لهذا المنهج تبعات خطيرة ووحشية: فإذا ما عُدّ الألم عدواً وليس إشارة تحذيرية، فإنّه يفقد قدرته على التوجيه. إسكات الألم دون اعتبار رسالته يشبه فصل جرس إنذار الحريق لتفادي سماع الأخبار السيئة”.
يواصل القول: “أشتاق [إلى رؤية] إعلانٍ تجاري يُؤكد على الأقل بعض منافع الألم: “أولاً، أنصت إلى ألمك. إنّه جسمك يتحدّث إليك”. أنا أيضاً أتناول الأسبرين لتسكين صداع التوتر، لكن ليس قبل أنّ أتوقف وأفكّر بالذي سبب الشدّ العصبي الذي أفضى إلى الصداع. أتناول علاجاً لألم حموضة المعدة، لكن بعد التفكّر بما أكلته حتى يتسبب لي بهذا الألم. هل أكلتُ كثيراً؟ سريعاً؟ الألم ليس عدواً غازياً، إنما رسولٌ مُخلص مُوفَد من جسدي ليُحذرني من الخطر”.
وقد لاحظ براند بعد عمله لفترات طويلة في الهند: “أنّ المُجتمعات الأقل تَحضراً لا تخشى الألم البدني بهذا القدر [كما في الغرب]. شاهدتُ الإثيوبيين يجلسون بهدوء، ودون تخدير، يُعمِل طبيب الأسنان ملقطه ذهاباً وإياباً حول الأسنان المتسوّسة. غالباً ما تُنجب الأمهات في أفريقيا أطفالهن دون استخدام العقاقير وبلا إشارة تدل على الخوف والقلق. لربّما افتقرت هذه الثقافات التقليدية إلى المُسكّنات الحديثة، إلاّ أنّ العقائد والأنظمة العائلية الداعمة ثبَّتت أوتادها في الحياة اليومية لتُعين الأفراد على التعامل مع الألم. يعرف القروي الهندي العادي ألم المعاناة جيّداً، ويتوقّعه، ويقبله بوصفه إحدى صعوبات الحياة التي لا مفرّ منها. بطريقة استثنائية، تعلّم شعب الهند التحكّم بالألم على مستوى العقل والروح، وتشكّل لديهم الصمود الذي يصعب علينا نحن في الغرب أن نفهمه. الغربيون، على العكس، يميلون لرؤية المعاناة على أنها ظلمٌ أو إخفاق، انتهاك لحقّهم المكفول في السعادة“.
(5)
من أعظم الدلالات الشرعية التي تؤسس لموقف منظم وشامل أمام الألم، حتميته في الزمان الدنيوي ” لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ”، وارتباطه المباشر بالزمان الأخروي، يقول صلى الله عليه وسلم:”ما يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِن نَصَبٍ ولَا وصَبٍ، ولَا هَمٍّ ولَا حُزْنٍ ولَا أذًى ولَا غَمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بهَا مِن خَطَايَاهُ”، وكما يقرِّر ابن رجب رحمه الله فـ”كلّ ما يؤلم النفوس ويشقُّ عليها فإنَّه كفارة للذنوب، وإن لم يكن للإنسان فيه صنعٌ ولا تسبب، كالمرض وغيره، كما دلت النصوص الكثيرة عَلَى ذلك”؛ فهذه مقدمة عظيمة تضع الألم في سياق ممتد، وتمنح الألم المعنى اللازم، الذي يجاوز به الإنسان مجرد الشعور العبثي الممض والقاسي وغير المحتمل، إلى آفاق من الأمل بالأجر، والرغبة بالثواب، ومن شاء الاستزادة فلينظر في كتاب “المرض والكفارات” لابن أبي الدنيا.
وهذا المعنى الشريف استولى على أقوام من الصالحين، وربّما وقع لهم الزيادة فيه، لشدة تملُّك قلوبهم له، فصدر من بعضهم أقوال في التلذذ بالألم، وحين أشار ابن القيم رحمه الله إلى ذلك لم ينكر وقوع التلذذ العارض بالألم، بل هو مُتصوَّر عقلًا – لما أشرنا سابقًا ارتباط الألم بشبكة دلالات ومعاني تُجاوز المعطى الحسي-، وإنّما أنكر مناقضة ذلك التلذذ – أو التطلب للألم- للطبيعة البشرية وللسنة النبوية، فقال رحمه الله: “نحن لا ننكر أنّ العبد إذا تمكَّن حب الله في قلبه حتى ملك جميع أجزائه فإنّه قد يتلذذ بالبلوى أحياناً، وليس ذلك دائماً ولا أكثرياً، ولكنّه يعرض عند هيجان الحب وغلبة الشوق، فيقهر شهود الألم، ثم يراجع طبيعته فيذوق الألم”.
وأشار إلى أنّ الوهم قد يُفضي بصاحبه إلى اعتقاد أنّ عِظم المحبّة بمجردها تقلِّب الشعور بالألم “. وهذا خيال فاسد وتقدير في النفس، وإلاّ فالحقيقة الخارجية تكذِّب هذا الخيال الباطل، بل لو صبّ عليه أدنى شيء من عذابه لصاح واستغاث وطلب العفو والعافية، وحكمة الله تقتضى تعجيز هذه النفوس الجاهلة الرعناءِ الحمقاءِ بأدنى شيء يكون من الألم والوجع، حتى يتبيّن لها دعاويها الكاذبة، وشطحها الباطل، وهذا سيد المحبين وسيد ولد آدم استِعاذَته بالله من عذابه وبلائه وسؤاله عافيته ومعافاته، معلومة في أدعيته وتضرُّعه إلى ربّه وابتهاله إليه في ذلك، وهى أكثر وأشهر من أن تذكر”، فنسأل الله العفو والعافية، والمعافاة الدائمة، في الدين والدنيا والآخرة.