الجواب الناجع لا يبدأ بـ “الجواب”، بل بـ المقاربة المنهجية الملائمة للجواب. تكمن أهمية المقاربة المنهجية للجواب، في كونها تساعدنا على تقييم مدى صحة الجواب ومستوى نجاعتها، إذ إنها الحجة البالغة في الجواب، فهي تعكس جواباً لسؤال ضمني خفي مصاحب لكل سؤال: كيف وصلتَ إلى هذا الجواب؟ وكأن الطرف الآخر يقول: أقنعني بأن جوابك صحيح أو ناجع.
إذن، المقاربة للجواب هي ما يشكل القناعة بالجوابات التي نقترحها للأسئلة التي تُطرح علينا أو نفكر فيها. وقد لاحظتُ عبر سلسلة قراءاتي في حقول معرفية عديدة، أن بعض المؤلفين يكسب المعركة مع القارئ عبر المقاربة المنهجية ذاتها، ولو كان الجواب غير دقيق أو غير مكتمل، بل أحياناً يكون خاطئاً، ويظفر مع ذلك بثقة القارئ، وينعم بتصديقه.
والأكثر خطورة أن العكس في بعض الحالات يكون صحيحاً هو الآخر، إذ إن البعض يخسر في معركة “العبور” بجوابه إلى ضفة القارئ أو المتلقي، ولو كان الجواب جيداً أو حتى عميقاً، بسبب ضعف مقاربته المنهجية أو انعدامها .
من أهم المصطلحات التي تواجه الباحثين المبتدئين وطلاب الدراسات العليا مصطلح “المقاربة المنهجية”، إذ ثمة غموض في هذا المصطلح؛ من جهة دلالته المفاهيمية، ومن جهة منهجيته التطبيقية أيضاً، الأمر الذي يؤدي إلى ضعف الممارسة لدى كثير من هؤلاء، إذ إنهم لا يتوفرون على قدرات ومهارات كافية لتفعيله بشكل معمق في الممارسات والأنشطة البحثية.
وهذا ما دفعني لكتابة هذا النص المختصر لتجلية هذا المصطلح، وبيان كيفية تطبيقه، ولعله يُفيدُ كلَ مَنْ يرومُ تجويدَ المقاربة المنهجية (سوف أستخدم تالياً لفظَ المقاربة للاختصار) حيال الموضوعات أو الظواهر أو النصوص التي يشتغل عليها.
مصطلح المقاربة مُشتق من مادة ق ر ب، وقاربَ الشيءَ أي دنا منه واقترب، وقارب الخطوَ أي داناه، وقارب النهاية أي أوشك أن ينتهي. والمقاربة جاءتْ على وزن مُفاعلة وقاربَ على وزن فاعلَ، وفي ذلك عدة معان مفيدة في السياق البحثي التحليلي التفسيري، ومنها: المشاركة عبر التعدي للشيء الذي تتحدث عنه، فأنت إذا قلتَ مثلاً: جالستُ فلاناً، ففيه إشراكُ لهذا الفلان في المجالسة، بخلاف قولك: جلستُ، إذ قد تكون جلستَ وحدك، وهذا يعني أن الباحث حين يقول: قاربتُ، فهو يُشرك معه الموضوعَ الذي يُقاربه أو يسعى لمقاربته، وفي هذا تفاعل بين العارف والمعروف (الذات والموضوع).
ومن معاني هذا الوزن أيضاً الدلالة على التكثير، فقاربتُ تتضمن معنى القيام بعمل المقاربة كثيراً أو طويلاً، وهنا نظفر بمعنى الجهد والاجتهاد والحرص في أعمال المقاربة للموضوع الذي نشتغل عليه، وهي معانٍ لطيفة مطلوبة في النشاط البحثي الجيد.
هذا التحليل اللغوي كريم معنا في تقريب المقاربة، أليس كذلك؟ هذا يعني أن قراري بالبدء بهذا التحليل اللغوي كان مقصوداً لذاته وفق “مخطط منهجي” في رأسي، وهو جزء من مقاربة “المقاربة” في هذا النص الذي أكتبه لكم عن المقاربة.
نعم، كان ثمة بدائل أخرى للبداية في تناول هذا المصطلح أو الموضوع، ومن ذلك مثلاً البدء بالتعريف العلمي أو الاصطلاحي مباشرة، ثم الشروع ببيان أهمية هذا المصطلح وخطوات تطبيقه.
وهنالك مقاربة أخرى بديلة، تبتدئ بالممارسات الخاطئة للمقاربات وفق تحليل بعض الأنشطة البحثية الطلابية، وبيان أسباب الوقوع فيها، وقد نُلحقها بإيضاح الكيفية المثلى للمقاربات المنهجية الناجعة.
من الواضح أن المقاربة الثانية راعتْ أن قارئ نص المقاربة هو على بينة من مصطلح المقاربة ودلالته المفاهيمية، مما يسوّغ لنا وَفق تلك المقاربة قفز التمهيد الاصطلاحي، وفي هذا تأكيد على أن المقاربة المتوخاة تتأثر بعوامل عديدة، ومنها طبيعة الموضوع المبحوث وطبيعة نص المقاربة وهدفه والشريحة المستهدفة ونحو ذلك.
إذن، مارستُ في الخطوة السابقة (=خطوة البدء بالتحليل اللغوي) مقاربة محددة لموضوعي، وها أنا ذا قد أشرتُ إلى مقاربتي بشكل صريح، فلم أدعها ضمنية، والإشارة الصريحة للمقاربة على درجة كبيرة من الأهمية في كثير من السياقات، وبالذات السياقات البحثية التعليمية، حيث تؤكد للمقيّم أو المحكّم أن ثمة وعياً بالمقاربة المنهجية المختارة، من جهة إطارها المنهجي وتطبيقها العملي.
التحليل اللغوي للمصطلح مِهادُ للدلالة المفاهيمية، الذي يعكس الدلالة الخاصة التي أرتضتها الجماعة العلمية للمصطلح (لاحظ أنني أواصل الإفصاحَ عن مقاربتي).
مصطلح المقاربة Approach يؤمئ إلى اختيار أو بلورة مخطط أو إطار منهجي محدد لتناول موضوع ما. وهذا يعني أن المقاربة تشير إلى أن ثمة مخططات منهجية عديدة ممكنة لمعالجة الموضوع ومقاربته، وفي هذا تصوير لمهارة بحثية محورية، وهي القدرة على بلورة مخطط منهجي يلائم الموضوع الذي أسعى لمقاربته.
الإطار أو المخطط المنهجي يحكم تفكيري ويوجهه أثناء تلبسي بالمقاربة، أي أثناء السعي للإجابة عن الأسئلة الرئيسة في الموضوع أو الظاهرة أو النص الذي أشتغل على مقاربته.
ما سبق، يجعلنا نقول بأن المقاربة هي بلورة منهجية ملائمة لتناول موضوع أو ظاهرة أو نص من شأنها إظفار الباحث أو المقارب بإجابات جيدة مقنعة، تتأسس على الأدلة والشواهد الداعمة للنتائج أو الآراء التي خلُص إليها الباحث، مما يعني وجود تسويغ منهجي لكل خطوة أو عملية منهجية قام بها الباحث.
وفي هذا السياق، نشدد على أهمية إيجاد تسويغ للخطوات أو العمليات التي كان يسع الباحث القيام بها، بيد أنه أشاحَ عنها لسبب ما، فالقارئ أو المحكّم أو المقيّم للعمل الذي أنتجه الباحث سيكون ذهنه مشتغلاً بسؤال: تُرى، هل يعرف الباحثُ الخطوات والعمليات الأخرى التي لم يستعملها؟ ربما يجيء في خاطره، أن الباحث لا يعرف غيرَ ما طبقه أو اختاره في بحثه، مع زعمه بأنه قد اختاره لهذا السبب أو ذاك، وهنا يتخلق شك في الذخائر المنهجية للباحث وفي قدراته ومهاراته البحثية أو الكتابية التواصلية، مما يُضعف من درجة التقييم لعمله. إذن، ثمة أهمية كبيرة للتسويغ لكل: ما قمنا به، وما لم نقم به من الخطوات أو العمليات المنهجية الرئيسة في السياقات المحورية في العمل البحثي التي تستلزم ذلك.
تشبه المقاربةُ المنهجية سعيكَ لدخول بيت ما لغرض ما، إذ يتوجب عليك حينها أن تعرف أين يقع، وأن تدرك جيداً تموضعه في الخارطة وما يحيط به، كما أنّ عليك أيضاً أن تعرف أفضل الطرق الموصلة له، والوقود اللازم (=مشروعية المبحوث)، وأن تمتلك أخيراً المفتاح، للولوج إليه من الباب، لا من النافذة (=مشروعية الباحث). إذا طُرح عليك سؤالٌ ما، فلا تفكر ابتداءً في الجواب وإنما في كيفية بلورته.
وهذا ما ينقلك إلى رحاب المقاربة. قبل الإجابة، تمهَّل، وقلِّب النظرَ في السؤال وفتَّته إلى أجزاء، وصنِّفها إنْ لزم الأمر، وفكِّر ملياً في المعالجة الذهنية الملائمة، أهي: استنتاج أم استقراء أم مزيج منهما، وفي البيانات التي تحتاجها، وكيف تحللها؛ مع التسويغ المقنع لكل ذلك، واجلب البراهين الكافية. هنا تكون قد امتلكتَ مقاربة منهجية للجواب، ويسعك إذ ذاك أن تَعبُر نحو بلورة الجواب الاجتهادي المنشود.
في الأجزاء السابقة، إيماءة لكيفية تطبيق المقاربة، وهي إيماءة تطبيقية في أكثر أبعادها، حيث عمدنا إلى أيضاحها عبر قالبتطبيقي على هذا النص الذي تقرأه الآن في مقاربة مصطلح المقاربة. وطلباً لمزيد من الإيضاح، يمكننا وضع جملة من الخطوات العملية للقيام بمقاربات جيدة:
1- قبل مباشرة الكتابة في الموضوع أو الظاهرة أو النص المبحوث، يتوجب التفكير في سؤال: كيف نُقارب ذلك؟ في هذه المرحلة، عليك أن تحدد الآتي:
أ- ما طبيعة الموضوع أو الظاهرة أو النص؟
ب- ما هدف المقاربة؟
ج- ما الأسئلة المحورية في الموضوع أو الظاهرة أو النص؟
د- ما آلية تقييم المقاربة ومعاييرها من قِبل المحكّم أو المقيّم أو القارئ؟
هـ – ما الشريحة المستهدفة بنص المقاربة وما خصائصها؟ ومن ثمَّ ما اللغة المناسبة؟
2- أعد التفكير في طبيعة الموضوع والأسئلة، وحدد بدائل المقاربة الممكنة (المخططات أو الأطر المنهجية)، وهي كثيرة جدا ومتنوعة، وقد أسهمتْ حقولٌ معرفية عديدة في إثرائها من جهة التنظير والتطبيق، ومنها على سبيل المثال:
أ- التحليل اللغوي والمفاهيمي وفق تفصيل وعمق ملائمين.
ب- التحليل النوعي /الكيفي وخطواته المنهجية المتعارف عليها (كلها أو بعضها).
ج- التحليل والتجريد والتركيب.
د- التحليل والتفسير/التأويل.
هـ- المدخل المنظومي: مدخلات، تفاعل (تشغيل)، مخرجات.
و- مدخل منطقي يُنبى داخل نص المقاربة وفق تسلسل ظاهر واضح مقنع.
ز- التحليل المتخصص، وقد يكون مثلاً:
- التحليل الأدبي المناسب.
- التحليل السوسيولوجي الناجع.
- التحيل النفسي الملائم.
- التحليل الاقتصادي المواتي
3- اختر بديل المقاربة الأفضل (=المخطط أو الإطار المنهجي)، على أنه يمكن اختيار أكثر من مخطط مما سبق في مقاربة واحدة، وذلك بحسب طبيعة الموضوع وأبعاده وهدف المقاربة والشريحة المستهدفة ونحو ذلك.
4- أفصح عن المخطط المنهجي المختار للمقاربة بشكل ملائم، وفي حالة استخدام أكثر من مخطط منهجي للمقاربة، تتعين موضعةُ كل مخطط في نص المقاربة بشكل دقيق، وبيان حدود كل مخطط، وإيضاح أسباب الاختيار من جهة والترتيب لها من جهة ثانية، وذلك في: تسلسل منهجي، وانسيابية سردية، وأناقة أسلوبية.
5- حالَ اشتغالك على مقاربتك، تذكَّر مرة أخرى القارئ أو المحكّم أو المقيّم ومعاييره وآلياته، ووجه سؤالاً لنفسك: هل هذه المقاربة جيدة فعلاً ومقنعة له؟ هل ثمة ثغراث فيها أو في تطبيقي لها؟ هذه المراجعة الذاتية ناجعة جداً أثناء الكتابة، إذ سيكون من شأنها التصحيح والتحسين لأجزاء من العمل، وقد تؤدي إلى تغيير المقاربة برمتها، أو تعديلها أو تطويرها بطريقة تراها أكثر ملاءمة لتحقيق الهدف المتوخى. هذا جزء من النقد الذاتي، وكلما مارستَ نقداً صارماً لذاتك أثناء العمل قلّلتَ من صرامة النقد الذي يمكن أن يقابلك تُجاه عملك. ولكن حذارِ، أن يصل ذلك إلى الوسوسة أو التردد والبطء الشديد في العمل. مارس النقد الذاتي برشاقة، وسر صوب النهاية.
6- لا يمكن لأي مخطط أو إطار منهجي للمقاربة أن يكون كاملاً أو تاماً أو مثالياً، مما يعني وجود نقاط ضعف أو ثغرات أو سلبيات في هذا المخطط أو الإطار، وهنا يحسن ذكر ذلك بطريقة مناسبة في نص المقاربة، وفي موضع مناسب منه، وهو ما يندرج أحياناً في الأبحاث العلمية تحت مفهوم قيود أو حدود أو ثغرات البحث Research Limitations، مع السعي لتلمس طريقة للتقليل من آثارها ما أمكن، مع تقديم ما يمكن من أفكار من قبل الباحث ولو بصور أو قوالب أولية، و التوصية للأنشطة البحثية المستقبلية ببلورة بعض الأفكار المطورة في هذا السبيل.
وفي الختام، نَصبُّ الدلالةَ المفاهيميةَ لمصطلح المقاربة في عبارات موجزة، بغية أن تكون المقاربة محفورة دوماً في الأذهان:
1- المقاربة هي إنزال النص على أساس منهجي.
2- المقاربة هي تلوين النص بالمنهجية.
3- المقاربة هي حقن النص بإجابات مُسوَّغة.
4- المقاربة هي إقدار النص على العبور للقارئ.
5- المقاربة هي كسوة النص بالقبول.
سيكون تنظيرنا السابق مفيداً للغاية في حال تَشرُّب الباحث أو الكاتب دلالاته المتنوعة العميقة، وقيامه بتنفيذ خطواته وعملياته في نصوص تطبيقية عديدة، مع تقبله للنقد الصارم، واستعداده الصادق للتطوير، منهجاً وأسلوباً، أو لنقل: مقاربة!
كل يوم نتعلم منكم الجديد …زادكم الله من فضله