- جوشوا روثمان
- ترجمة: د. نبهان سالم أبو جاموس
- مراجعة: مصطفى هندي
- تحرير: نادية موسى
إنَّ المرءَ ليضحك تلقائيًا عند رؤية إعلان قاموس “ميريام وبستر” -الذي نُشر في وقتٍ سابقٍ من هذا الشهر- يُصنّف “الثقافة” كلمة عامِ 2014م، في حين أنّ “الثقافة” هي بمثابة “بعبع” لكلمات العام لدى القواميس الأخرى، والتي من المفترض أنها تعكس ثقافة ما؛ فقد اختار قاموس أكسفورد كلمة Vape والتي تعني بخار، في حين اختار قاموس آخر كلمة selfie والتي تعني صورة شخصية. والجدير بالذكر أنّ هذه القواميس لم تخترْ في الواقع كلمة “ثقافة” كما جاء في الإعلان. تكبّد محررو ميريام وبستر عناءً شديدًا لتوضيح أنهم لم يحاولوا أن يقدموا “هراء Meta” (والتي، بالمناسبة، كانت ستكون كلمة ملائمة جدًا للعام 2000م). وأوضحوا أن كلمة “ثقافة” هي ببساطة الكلمة التي حظيت بكونها الأكثر استخدامًا في عمليات البحث على موقعهم؛ حيث كان الارتباك حول الثقافة جزءًا من الثقافة في عام 2014م. لقد كان الناس يتوقون بشدّة لمعرفة معنى “الثقافة”.
وغني عن القول أنّ “الثقافة” كلمة مربكة في هذا العام وفي أي عام. بناءً على ما ذُكِر في موقع “ميريام وبستر” فإنَّ الكلمة لها ستة تعريفات (بما في ذلك التعريف البيولوجي، كما هو الحال في “الزراعة البكتيرية”!) المشكلة هي أنّ “الثقافة” أكثر من مجموع تعريفاتها. وبغض النظر عن أي شيء آخر، فإن قيمتها ككلمة تعتمد على التجاذب والتنافر بين تلك المعاني. كتب الناقد ريمون ويليامز، في قاموسه “الكلمات الرئيسة” -والذي تطور لاحقًا- أنّ “الثقافة” لها ثلاثة معانٍ مختلفة: هناك الثقافة كعملية إثراء فردي، مثلَ قولنا أنَّ شخصًا ما “مثقف”. بينما كتب فرانسيس بيكون عن “ثقافة العقول وتأمينها” في عام 1605م باعتبارها “طريقة حياة خاصة” لمجموعة ما، كما هو الحال عندما نتحدث عن الثقافة الفرنسية أو ثقافة الشركة أو التعددية الثقافية، وهناك الثقافة كنشاطٍ ينتشر عن طريق المتاحف والحفلات الموسيقية والكتب والأفلام التي قد تشجعها وزارة الثقافة (أو تغطيها مدونة مثل هذه – أي ذا نيويوركر-). وتابع ويليامز أنّ هذه المعاني الثلاثة للثقافة مختلفة تمامًا، وتتقاطع مع بعضها البعض؛ حيث أننا في كل مرة نستخدم فيها هذه الكلمة، فإننا نميل إلى جانبٍ أو آخر: إما “الوسط” المشبع بالماء من خلال التناضح الإسموزي أو “الثقافة” التي نتعلمها في المتاحف، أو “الثقافة” التي تجعلك شخصًا أفضل أو “الثقافة” التي تربطك بالمجموعة.
للمصطلح معنى تاريخيّ أيضًا؛ حيث كانت “الثقافة” مثيرة للجدل. فقد أوضح ويليامز أنه في القرن التاسع عشر كانت “الثقافة” تعارض غالبًا “الحضارة”، وكان الاعتقاد السائد أن الحضارة هي نظام متجانس من قواعد فعالة وعقلانية مصممة لتشجيع الانضباط و”التقدم”؛ في حين كانت الثقافة على العكس: تعبيرٌ عن إمكانات بشرية لا يمكن التنبؤ بها من أجل تحقيق مصالحهم. ولهذا السبب فإن مصطلحًا مثل “صناعة الثقافة” يحمل في ظاهره تناقضًا لفظيًا في هذا الزمن؛ فنحن لا نستخدم في الغالب كلمة “حضارة” -وإنّما نفضل التحدث، بشكل أكثر ديمقراطية بمصطلحات “الثقافة”- لكن لاتزال هاتان الكلمتان متعارضتين. لا يسعنا إلا أن نلاحظ كيف تبدو الحياة “المتحضرة” لتسهيل الوصول إلى الثقافة وفي الوقت نفسه تعمل على القضاء عليها؛ حيث تجعل المتاحف من السهل رؤية الفن، لكنها تثقله أيضًا؛ كما تبدو موسيقى الروك آند رول في النادي أفضل منها في قاعة الحفلات الموسيقية.
هذه أسباب قوية تجعلنا نبحث دائمًا عن مصطلح “الثقافة” في القاموس. لكن، لماذا بحثَ عنها عددٌ أكبر من المعتاد هذا العام؟ في الحقيقة، لَمْ يُولِ المحررون في ميريام وبستر هذا الأمر الكثير من التأمل؛ هم فقط لاحظوا أن “المصطلح يُحوِّل نوعًا من الاهتمام الأكاديمي إلى سلوكٍ منهجيّ”. إليك نظريتي: بحث عدد أكبر من الناس هذا العام عن كلمة “Culture” -أو ثقافة بمعناها الإنجليزي- لأنها أصبحت كلمةً مقلقة؛ كانت “الثقافة” شيئًا جيدًا، أما الآن فلم تعد كذلك. هذا لا يعني أن الثقافة الأمريكية أصبحت أسوأ، يمكن القول بأنّ الأمر قد ازداد سوءًا من بعض النواحي، لكنه تحسَّنَ من نواحٍ أخرى، ممّا يعني أن الكلمة قد اتخذت انطباعًا سلبيًّا. يبدو الجانب الأكثر إيجابية من “الثقافة” فكرة أنّ الإثراء الشخصي والإنساني قد أصبح الآن أبعد، بينما فكرة الثقافة باعتبارها تفكيرًا جماعيًّا غير واعٍ آخذة في الصعود.
في عقود ما بعد الحرب، ارتبطت “الثقافة” بالسعي لتحقيق النمو الشخصي حيث يمكنك اللجوء إلى “الثقافة المضادة” حتى وإن رفضتَ ثقافة “المؤسسة”. في الثمانينيات والتسعينيات وأوائل الألفية كان ذلك مصدر فخر؛ فقد جعلتنا الأخلاقُ متعددةُ الثقافاتِ نتعرف على ثقافاتنا. أمّا اليوم، أصبح للثقافة جانب ماكر وغامض وسخيف. ففي كثير من الأحيان، عندما نربط كلمة “ثقافة” بشيءٍ ما، فإن ذلك يشير إلى أن له تأثيرًا منتشرًا وخبيثًا (كما هو الحال في “ثقافة المشاهير”). وقد تُستخدم “الثقافة” بطريقة طموحة من الواضح أنها لا تمتّ للواقع بِصِلة: مثل المؤسسات التي تتغنى بأن لديها “ثقافة الشفافية” أو “ثقافة المساءلة”، وهي في الحقيقة أبعد ما تكون عنها في كثيرٍ من الأحيان. ويمكننا أن نرى “الثقافة” تستخدم بطريقة تافهة على كل المستويات؛ فمثلاً، لا توجد ثقافةٌ حقيقية في “ثقافة القهوة” (رغمَ أنّ القهوة في مقهى اسبريسو الثقافة القريب من مكتبي ممتازة!) لكن من الصعب أن نتخيل -في الوقت نفسه- تطبيق كلمة “ثقافة” حتى على “المؤسسات الثقافية” الأكثر أصالة. فنحن لا نقول أنّ متحف الفن الحديث يعزز “الثقافة الفنية”؛ لأن وصف الفن على أنه “ثقافة” هو تصرف ماكر لتشويه سمعته. عندما تأسست مجلة Film Culture أو ثقافة الفلم عام 1954م كان لاسمها وقع جذابٌ لمحبي الأفلام، وأما اليوم، فإنّ الأمر يبدو تعجرفًا غير مبرر.
كان هناك حضورٌ قويّ لمصطلح “ثقافة الاغتصاب” هذا العام رغمَ أنّ المصطلح موجود منذ زمن بعيد؛ حيث ظهر لأول مرة في فيلم وثائقي عام 1975م بعنوان “ثقافة الاغتصاب”، والذي ركز جزئيًّا على منظمة تسمى السجناء بقضايا الاغتصاب. وتُعرّف آرييل ليفي -في مقال حديث في هذه المجلة (مجلة ذا نيويوركر) – ثقافة الاغتصاب بأنها “نظام قيمي تكون فيه المرأة عملة، والجنس هو شيء يحصل عليه الرجال -أو يأخذونه- منها”. لم يغير انتشارُ فكرةِ “ثقافة الاغتصاب” من نظرتنا إلى الاغتصاب، بل ما تغيّر هو نظرتنا للثقافة! والجدير بالذكر أنَّ مصطلح “ثقافة الاغتصاب” يستخدم كلمة “ثقافة” بطريقة لا تنطوي -على أي مستوى- على فكرة الإثراء الشخصي، وإنما يتَّكئُ كل ثِقل المصطلح على جانبين آخرين من الثقافة -طِبقًا لكتاب ويليامز-: الأول هو المعايير الداخلية التي تحدد هوية المجموعة -مثل كراهية النساء والهيمنة- والتي تشجع على العنف ضد المرأة، والجانب الثاني هو المؤسسات الثقافية -مثل الأفلام وأندية الرجال- التي تنشر هذه المعايير. وإنّ جزءًا من قوّة المصطلح يكمُن في تنافر شقّيه؛ فلا يمكنك رؤية كلمة “ثقافة” بجانب كلمة “اغتصاب” دون مراجعة أفكارك حول معنى “الثقافة”.
لم تُستخدم “الثقافة” ذريعةً -بشكلٍ مماثل- فيما يتعلق بوفاة مايكل براون وإريك غارنر وغيرهم من الأمريكيين من أصل أفريقي، والذين قُتلوا مؤخرًا في مواجهات مع الشرطة؛ لكن تلك الأحداث دفعتنا إلى التفكير في “الثقافة” كقوة غير إنسانية وحاقدة. وأظنّ أنّ العديد منا يسجّلون داخلهم الصورة التي ظهرت بها “الثقافة” تباعًا على أنها الشيء الذي تريد “الحضارة” التخلص منه.
هذا لا يعني بالضرورة أن ثقافة الموسيقى أو ثقافة الفن أو ثقافة الكتاب قد ساءت، أو أن أسلوب حياتنا الجماعي قد انحدر، بل شعورنا بكلمة “ثقافة” هو الذي أصبح أكثر قتامة وأكثر حيرة وشكًا. ولكن إذا اعتبرنا الكلمات أدوات للتفكير، فإنه يمكننا القول بأن استخدام “الثقافة” هذا العام جاء للتفكير في أجزاء مجتمعنا الضعيفة، والذي قد يكون علامة -بطريقة ما- على تحسُّنٍ في ثقافتنا؛ إذا كانت طريقتنا التحليلية والاجتماعية في التفكير حول “الثقافة” تساعدنا على تحسين الثقافة فهذا تطورٌ إيجابيّ. والغموض الذي يكتنف معناها المتغير باستمرار هو سبب وجيه للبحث عن “الثقافة” في القاموس، كما أنها طريقة مفيدة في فهم العالم وتحسينه.
كل هذا قد يجعلك تتساءل: هل من المنطقي أن تكون هناك كل هذه الاستخدامات المتباينة لكلمةٍ واحدة؟ ربما لا! وقد كتب ويليامز أن العديد من الناس وصفوا مصطلح “الثقافة” بأنه مصطلح “فضفاض أو غامض”. من الممكن أن نتخيل نظامًا أكثر عقلانية؛ حيث تصف كلمة واحدة أنشطة الحياة الفنية والفكرية، وأخرى تصف الهوية الجماعية، وثالثة لمعاييرنا وطرق عيشنا. هذه المصطلحات -مهما كانت- ستكون أضيق وأبسط، لكنها ستكون أقل دقة -أيضًا- لأنها ستحجب التداخل بين الحياة والفن والسياسة.
وستكون فقيرة في المعنى أيضًا؛ فقد تنفصل “الثقافة” عن الداخل، لكنها تمثل -بطريقة ما- رغبةً، حيث الرغبة في أن تكتشف مجموعةٌ من الناس -معًا- طريقةً جيّدة للحياة؛ وأنّ أسلوب حياتهم الجيد قد يعبر عن نفسه في عاداتهم ومؤسساتهم وأنشطتهم، وأنَّ هؤلاء بدورهم قد يساعدون الأفراد على الازدهار بطرقهم الخاصة. ويمكن القول بأنَّ أفضل ثقافة هي تلك التي لا تتعارض فيها معاني “الثقافة” الثلاثة مع بعضها البعض. مع الأسف، هذه ليست الثقافة التي نملكها في الوقت الحاضر؛ فثقافتنا ممزقة، وبالتالي فإنّ معنى كلمة “ثقافة” لدينا ممزّقٌ ومشوّشٌ أيضًا. ولكن من الممكن أن نتخيل عالَمًا تعزز فيه مواقفنا ومؤسساتُنا الجماعيةُ النموَّ الفرديَّ للمرء، وفي مثل هذه العوالم -ربّما- سيكون معنى “الثقافة” أكثر وضوحًا، لدرجة أننا لن نضطر إلى البحث عنها.