- جيرالد هاوتنغ*
- ترجمة: أنس بن سعود الجروان
- اسم الكتاب: صناعة الأديان الإبراهيمية في العصور القديمة المتأخرة
- المؤلف: غاي سترومسا**
- الناشر: مطبعة جامعة أكسفورد.
- سنة النشر: 2015
- عدد الصفحات: 248
باستثناء المقدمة والفصل الثاني (أنماط العقلنة)، يتكون هذا الكتاب من مجموعة أبحاث مُعاد صياغتها، تعالج جوانب مختلفة في الديانات التوحيدية الإبراهيمية في العصور القديمة المتأخرة[1] نشرت سابقا في مختلف المجلات والكتب التي تحتوي على مقالات مجمعة. وقد انعكس هذا جليا في تكرار المواد والأفكار في فصول مختلفة. وكما يتوقع قراء أعمال البروفيسور سترومسا، فإن إحدى السمات البارزة للعديد من الأبحاث الموجودة في الكتاب، هي اهتمامه بتاريخ ومنهجية دراسة الأديان.
في حين أن بعض المقالات لا تهتم بشكل مباشر أو صريح بالإسلام (على سبيل المثال، الفصل الثالث بعنوان “مدعو النبوة في المسيحية المبكرة” والفصل السادس بعنوان “الديناميكيات الدينية بين المسيحيين واليهود في العصور القديمة المتأخرة”)، فإن انتقاء وإعادة صياغة هذه الأبحاث يهدف بشكل عام إلى ربط المواد والموضوعات التي تتناولها بظهور الإسلام. في الورقة الأخيرة، بعنوان “أثينا والقدس ومكة المكرمة: الاستعداد للقرآن“، يستشهد سترومسا براينولد نيبور حول العلاقة بين اليهودية والمسيحية، ويعلق: “اليوم … يجب أن نضيف الإسلام إلى هذه المعادلة”.
ومن بين المواضيع المتكررة ذات الصلة بظهور الإسلام، أن اليهود والمسيحيين كثيرا ما فسروا أحداث القرن السابع الميلادي (الغزوات التي قام بها الإيرانيون أولا ثم العرب) في ضوء توقعاتهم الأخروية؛ وهذه الأفكار حول النبوة، والحركات النبوئية، لا تزال مهمة على الرغم من أن الكنيسة ورجال الدين اليهود حاولوا قمعها بالإصرار على أن عصر الأنبياء قد ولَّى ومضى؛ وأن منطقة جبل الهيكل في القدس لا تزال مهمة على الرغم من تدمير الرومان للمعبد، والجهود المسيحية لنقل قدسيته إلى مواقع أخرى؛ وأن المسيحية اليهودية بقيت كعنصر مهم في التقاليد الإبراهيمية المتنوعة والمجزأة حتى الفترة الإسلامية، على الرغم من ندرة الأدلة الصريحة على وجودها.
لا يقدم الكتاب ما يمكن تسميته أطروحة قوية بشأن نشوء الإسلام، من خلال الإصرار على تأثير طائفة معينة مثلا، أو من خلال تحديد قضية معينة في الفضاء الديني في العصور القديمة المتأخرة كان الإسلام انعكاساً لها. في الواقع، يقول المؤلف، مؤيداً لما يسميه “مبدأ عدم التفرد”، “إن الطريقة الصحيحة تتطلب ألا نحدد مصدرا باعتباره الأصل الوحيد للمصطلحات أو الصيغ القرآنية باستثناء بعض الأمور … وفي عالم تدور فيه الأفكار الدينية بحرية وتحول نفسها باستمرار، يكاد يكون من المستحيل تحديد الأصل الدقيق لهذه الأفكار أو القنوات القريبة التي وصلت من خلالها إلى القرآن” (ص 149؛ انظر أيضا ص 158). بل إن التطورات الخاصة بالأفكار والممارسات الدينية تلفت انتباه القارئ، وكذلك الأشياء المتعلقة بها ضرورية لفهم نشوء الإسلام واستدعائها حينما يقتضي الأمر. وقد ثبت أن الإسلام نشأ كجزء من تاريخ التقاليد الإبراهيمية في القرون التي تلت بداية العصر المسيحي، وأن معرفة ذلك التاريخ ضرورية لفهم الإسلام المبكر. النقطة الأساسية هي أن المتخصص في تاريخ الديانات التوحيدية في العصور القديمة المتأخرة يعرض الإسلام باعتباره نتيجةً لذلك التاريخ.
أما فيما يتعلق بمحاولة دمج ظهور الإسلام في تاريخ الأديان الإبراهيمية في فترة العصور القديمة المتأخرة، فإن النتيجة هي صورة غير واضحة المعالم تكون فيها التفاصيل غير دقيقة. على سبيل المثال، يشار إلى الفكرة الفيبرية للنبوة باعتبارها قوة طرد مركزي، تعمل ضد محاولات الكنيسة والحاخامات لتطوير وحماية ما كانوا يرغبون في ترسيخه مذهبا أرثوذكسيًا= ذُكرت في أكثر من مناسبة، ولكن على وجه الدقة، يمكن بدلاً عن ذلك طرح كيف أن ظهور محمد نبيا في الحجاز في بداية القرن السابع الميلادي مرتبط بالحركات النبوئية الأخرى في العصور القديمة المتأخرة، وهو الاقتراح الذي يبدو أقرب للقبول بدلاً من الخوص في التفاصيل.[2]
في الواقع، يذهل المرء من الندرة النسبية للأدلة على النشاط النبوي، على الأقل في القرنين أو نحو ذلك قبل ظهور الإسلام. من الصعب الربط بين نبوة محمد من جهة والمونتانية والمانوية (اللتين ظهرتا في أوائل القرون المسيحية) من جهة أخرى، ما ذكره سترومسا في بحثه عن فكرة “ختم النبوءة” (الفصل 5)، يفند الفكرة التي نشرها البيروني وآخرون، من أن ماني أشار إلى نفسه بأنه “خاتم الأنبياء”. تبيان سترومسا مفيد للطرق الثرية والقيِّمة التي استُعملت فيها لفظة “خاتم” وهي استعارة في الكتاب المقدس والنصوص الأخرى، ولكن الصلة بين المادة التي طرحها والآية القرآنية (ولكن رسول الله وخاتم النبيين) لا يزال بعيد كل البعد. وبالمثل، فإن الفكرة التي طرحها هارناك وآخرون، بأن هناك صلة بين المفهوم المسيحي اليهودي ل “النبي الصادق”، وهي في الأساس نفس الروح التي سكنت أجساد أنبياء مختلفين من آدم فما بعده، ومفهوم النبوة في القرآن من الصعب إثباته، على الرغم من أن المفهوم قد يكون واضحاً، عند بعض الطوائف الإسلامية المبكرة.
يبدو أن سترومسا منجذب إلى الفكرة التي اقترحها كريستيان روبين وآخرين بأن هناك “حركة نبوئية” في أوائل القرن السابع في شبه الجزيرة العربية (ص 147)، لكن فطنته الناقدة جعلته متردداً في قبول الفكرة دون أدلة أكثر إقناعا. ويذكرنا بافتقارنا إلى المعرفة بتواجد مجتمعات مسيحية أو يهودية محتملة في الحجاز، وأنه لا توجد آثار متبقية لمجتمعات مسيحية شمال اليمن أو جنوب العقبة، وأننا نجهل طبيعة يهودية اليهود الذين -وفقا للتقاليد الإسلامية- شكَّلوا جزءا كبيرا من سكان يثرب. ويمكن أن نستنتج، استنادا إلى أدلة القرآن، أن “الاتجاهات الدينية الرئيسية الكامنة وراء التوحيد الإسلامي تأتي من الأوساط اليهودية والمسيحية” (ص 148)،[3] ولكن الآليات الدقيقة لانتقالها وتطورها لا تزال غير واضحة.
هذا الكتاب يقدم معلومات ويقترح أفكاراً للعلماء المهتمين بعلاقة الإسلام بالعصور القديمة المتأخرة، ولكن من المرجح أن يحبط أولئك الذين يتوقون إلى إجابة موجزة على السؤال حول كيفية ظهور هذه الديانة التوحيدية الجديدة من تشكلات سابقة عليها. بشكل عام، يبدو سترومسا أكثر حسما وحجية عند التعامل مع المسيحية في الفترة التي سبقت الإسلام، ولكنه يبدو متناقض نسبياً عند مناقشة الأفكار حول نشوء الإسلام. وينتج عما سبق سلسلة من الملخصات لنظريات الآخرين بدلا من عرض آرائه الخاصة، مما يجعل القارئ غير متأكد من موقفه منها. ويعوض ذلك إصراره على اتباع منهجية تقيم وزنا لتعقيد الأدلة، وأحيانا ندرتها، وترفض الاختزال.
إن المناقشات الأخيرة حول صحة مفهوم الديانات الإبراهيمية قد تصبح جدلية أو نظرية بلا مبرر. يؤكد هذا الكتاب قيمته كأداة للاستدلال تفيد للمؤرخ.
* جيرالد هاوتنغ: بروفيسور الدراسات الدينية والتاريخ في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية بلندن. (SOAS)
** غاي سترومسا: بروفيسور مقارنة الأديان في الجامعة العبرية في القدس، واستاذ الأديان الإبراهيمية في جامعة أوكسفورد.
[1] يقصد بها الفترة من القرن الثالث الميلادي وحتى القرن الثامن. (المراجع).
[2] من الضروري الإشارة إلى التميز الجوهري والنوعي بين نبوة النبي محمد ودعاوى من سبقوه أو عاصروه، فجميع ادعاءات النبوة الأخرى التي يشير لها الكاتب لم تكن على مستوى تعقيد وتركيب نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن جانب آخر لم يحفظ التاريخ من تفاصيلها ما حفظه في دعوة النبي. (المراجع)
[3] يغفل المؤلف هنا عن أن مجرد وجود تماثلات بين توحيد الإسلام وتوحيد اليهودية والمسيحية لا يعني بالضرورة أنه استمد منها أسس التوحيد (خصوصا وأن توحيد المسيحية مختلف تماما عن توحيد الإسلام واليهودية)، بل يرى بعض المستشرقين أن العلاقة جدلية، بمعنى أن القرآن كان يجادل أهل الكتاب ومن ثم فمن الطبيعي أن تكون هناك تماثلات في الخطاب. (المراجع)