د. عائض بن سعد الدوسري
عُرِفَ الفيلسوف والحاخام موسى بن ميمون القرطبي بمؤلفاته المتنوعة، ما بين كتب الفقه اليهودي والطب والمنطوالفلسفة، وكذلك من خلال مكانته الاجتماعية وأثره الثقافي والفلسفي والدِّينيِّ في محيطه اليهودي، وما تركه خلفه من تأثيرٍ كبيرٍ وعميقٍ، وما أحدثه خلال حياته وبعد مماته من اختلاف بين اليهود أو موافقة، قادت إلى قيام “تجديد” داخل الديانة اليهودية.
لقد أعجب موسى بن ميمون بالفلسفة والفلاسفة في الثقافة اليونانيَّة والحضارة العربيَّة والإسلامية، ونهل من علومها وتراثها المتنوع، وبسبب تأثره العميق بتراث الحضارة الإسلاميَّة عُدَّ من قبل كثيرٍ من البحثين –الغربيين والشرقيين- ضمن فلاسفة العرب والإسلام، بسبب عُمق خلفيَّته الحضاريَّة العربيَّة الإسلاميَّة، وشدة تأثره واقتباسه من علوم وثقافة علماء الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة.
فيذكر الباحث اليهودي إسرائيل ولفنسون أنّ موسى بن ميمون: “في مناقشاته لنصوص التوراة إنَّما يصدر عن فكر وثقافة إسلاميين”، ويقول أيضًا: “ولسنا نعلم رجلاً آخر من أبناء جلدتنا [=اليهود] غير ابن ميمون قد تأثر بالحضارة الإسلاميَّة تأثرًا بالغ الحدّ حتى بدت آثاره وظهرت صبغته في مدوناته من مصنفات كبيرة ورسائل صغيرة”. وتقول الباحثة المتخصصة في الفلسفة اليهودية تمار رودافسكي: “كان من بين الفلاسفة المسلمين الذين تأثر بهم موسى بن ميمون كل من الفارابي وابن سينا وابن باجة وعلماء الكلام المسلمين”. ويؤكد الدكتور محمد خليفه حسن أنَّ كتب موسى بن ميمون “أعادت صياغة الفكر الدِّيني اليهوديِّ على أُسسٍ كلاميَّة فلسفيَّة متأثرة بالاتجاهات الكلاميَّة والفلسفيَّة الإسلاميَّة، وشارحةٍ للدين اليهودي على أسسٍ عقليَّة تأثرًا بالاتجاه الإسلامي”. ويقول الدكتور حسن حسن كامل إبراهيم: “تتلمذ ابن ميمون على أيدي الأشاعرة والمعتزلة، والفارابي، وابن سينا، وابن الطفيل، وابن باجة، والغزالي، وغيرهم من علماء وفلاسفة العرب المسلمين…وتتلمذ موسى على أيدي المسلمين حاملي مشعل الحضارة والعلم في ذلك الحين”. بل بالغ بعض الباحثين المتأخرين والمعاصرين، فجعلوا موسى بن ميمون فيلسوفًا عربيًا إسلاميًا، حيث يقول الشيخ مصطفى عبد الرازق: “أبو عمران موسى بن ميمون…تخرج بدروس الحكيمين الأندلسيين الكبيرين: ابن طفيل وابن رشد…وإنني ممن يجعلون ابن ميمون وإخوته من فلاسفة الإسلام ومن فلاسفة العرب”. وكذلك الدكتور حسين آتاي الذي اعتبر موسى بن ميمون “فيلسوفًا إسلاميًّا” وإن كان غير مسلم، وكذلك الدكتور عبد الوهاب المسيري الذي عَدَّ ابن ميمون “مفكرًا عربيًّا إسلاميًّا”.
كان موسى بن ميمون كطبيب وعالم وفيلسوف أحيانًا يدعو إلى الأدب في التعامل والترفع عن السباب والشتائم في الخلاف، ويدعو أصحابه وتلامذته إلى ذلك، حيث يقول موجهًا كلامه إلى أحد تلامذته اليهود وهو يوسف بن عقنين، ويبدو أنَّ ذلك كان بسبب نزاعٍ داخلي بين اليهود؛ بين الموافقين والمخالفين له: “أنا لا أطالب أحدًا أن يحترمني، حتى إنني أتنازل عن الإهانات الكثيرة، ذلك أنَّ احترامي لذاتي، ورُقِي أخلاقي، أسمى لدي من أن أهزِمَ الحمقى، أطلب منك إن كنتَ تلميذًا لي، أن تيسر على نهجي وأخلاقي، فهذا أفضل لك، وليسبوك ولا تسبهم، ولتكن من المُهانين لا من المُهِنين”.
كان يمكن لموسى بن ميمون -مع هذه المكانة والتأثير الكبير- أن يصنع دورًا إيجابيًا ويفتح مجالاً مهمًا في نشر وترسيخ روح التسامح وتقبل الاختلاف، وحسن التعامل مع الآخر، ولا شك أنَّه لو فعل ذلك لكانت لتعاليمه دورها العميق والمؤثر في ترسيخ تلك المبادئ، وخصوصًا بسبب ما كان يتمتع به من سلطة روحيَّة وعلميَّة ودينيَّة وفلسفيَّة.
إلا أن كتبه ورسائله –مع شديد الأسف- التي كتبها بالعربية أو العبرية -مع مناقضتها لتنظيره السابق عن رقي أخلاقه- تعج بالسباب والشتائم المُوجَّه إلى المفكرين والعلماء الذين يختلفون معه، من اليهود والنصارى والمسلمين، وكان كثيرًا ما يظهر احتقاره وسخريته من علماء المسلمين وجمهورهم، وينعتهم بأشد الألفاظ، مع عِظَم استفادته من تراثهم وتحريراتهم العلميَّة. هذه اللغة التي يستخدمها موسى بن ميمون، ذلك الفيلسوف الكبير، تجاه المسلمين مع أنَّه كان يعيش بين المسلمين في مصر وغيرها، وكانت له منـزلة كبيرة ومنصب رفيع، ويعامل باحترام وتقدير، وعُين طبيبًا لصلاح الدين الأيوبي وابنه، وعين بدعم من صلاح الدين أو من طرفه رئيسًا للطائفة اليهودية، ومع ذلك كان يكره المسلمين والعرب ويدعو عليهم بأن يهلكهم الله، مع استفادته من علمهم، ووجوده في مكان مرموقٍ بينهم. لقد كان موسى بن ميمون أحد علماء اليهود وفلاسفتهم الذين استفادوا من الحضارة الإسلامية واقتبسوا من فلاسفتها ومن علماء الكلام والجدل، وعاشوا فيها غالبًا بأمن بالمقارنة مع أمثالهم في أوروبا، وحصلوا على مكانة رفيعة بين المسلمين، والتقدير لهم والتقديم في المنصب، ومع ذلك كان يحمل في قلبه تلك المشاعر السلبية تجاههم!
لقد كان موسى بن ميمون يُكِنُّ مشاعره تلك، ويستخدم التقيَّة داخل المجتمع المسلم الذي يعيش فيه، ولا يريد لمشاعره السلبيَّة وعبارات الكراهيَّة أن يتم الإطلاع عليها من الآخرين. فهو هنا يقول في رسالة يهاجم فيها الإسلام ونبي الإسلام عليه الصلاة والسلام، بعث بها إلى حاخام يهودي آخر، يحذره من تسرب محتوى تلك الرسالة، حيث يقول: “خذ إجراءات كافية حتى لا تتسلل محتوياتها إلى الأغيار [غير اليهود] على يد شخصٍ شريرٍ، فيأخذنا الحظ العاثر، عصمنا الله منه”. وفي تلك الكتب والرسائل يفضي موسى بن ميمون بمكنون قلبه ويبوح بمشاعره الحقيقيَّة، حيث يقول داعيًا ومبتهلاً إلى الله: “العرب أهلكهم وأذلهم الله سريعًا”. وكان موسى بن ميمون بجوار دعائه على العرب وشتمه للمسلمين، يشتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويسخر منه وينعته بلفظ اعتاد كفار قريش نعته إياه، بل امتد سبه وشتمه أيضًا إلى المسيح عليه السلام، حيث قال فيه أشد الألفاظ وأقسى العبارات!
يقول موسى بن ميمون في المسيح عليه السلام: “يسوع الناصري الذي أرجو أن تسحق عظامه، وعلى نحو رمزي فقط دُعِيَ يسوع ابن حرام، وإنَّما نسميه ابن حرام على جهة المعاملة، [وكان يسوع] من وقحاء إسرائيل وخوارجهم”. ويقول عن اليهود الذين (قتلوا يسوع الناصري): “أما الحاخامون، طيب الله ذكراهم، وقد أدركوا خططه قبل انطلاق شهرته بين الشعب…فخصوه بما يليق به من العقاب، وشعر الحخميم [=الحاخامات] طيب الله ذكرهم لغرضه قبل أن تتمكن شهرته في الملة، ففعلوا به ما كان أهلاً له”.
وكان موقف موسى بن ميمون مع المخالفين جميعًا من كافة الأديان في غاية القتامة، حيث يقول كطبيب وإنسان وفقيه وفيلسوف يفترض أن يكون رحيمًا منفتحًا متسامحًا: “يحرم أن تُعالج أُمَميَّاً [=غير يهودي]، حتى ولو كان بمقابل أجرة”. ويقول الباحث اليهودي إسرائيل شاحاك: “ويجب على الطبيب اليهودي [بحسب موسى بن ميمون] بصورة خاصة أن لا يعالج مريضًا غير يهودي. وابن ميمون كطبيبٍ شهيرٍ هو نفسه واضح تمامًا حول هذا الأمر”. ويقول موسى بن ميمون وهو الطبيب الذي من المفترض أن يكون متسامحًا ورحيمًا: “الكُفَّار الذين لسنا في حالة حرب معهم…يحرم إنقاذهم إذا كانوا على وشك الموت؛ فعلى سبيل المثال، إذا ما شُوهِدَ أحد هؤلاء يسقط في البحر، فلا ينبغي إنقاذه، لأنه مكتوب [=في التوراة]: (لا تقف على دم قريبك [لا تكن سبب هلاكه]) ولكن الكافر ليس قريبك”.
ويقول مخاطبًا ومحَرِّضًا جمهور اليهود الذي كان يعيش بسلام ووئام وسط المسلمين غالبًا في ذلك العصر: “إننا لا نتبع شرائع غير اليهود ولا نتشبه بهم في ملبسهم، أو في شعائرهم، وما شابه ذلك، ويجب أن يكون الإسرائيلي مختلفًا ومميزًا عن الآخرين، في ملبسه، وفي سائر أعماله، مثلما هو مختلف عنهم في علمه وآرائه”.
بل حتى موقفه مع اليهودي المخالف له كان شديدًا جدًا، حيث كَفَّر كل من يُنكر تفسير التوراة التي تُسمى (التوراة الشفهيَّة)، وهي أقوال الشيوخ التي تناقلوها جيلاً عن جيلٍ، ويقولون إنَّ موسى عليه السلام أوصى بها، حيث يقول موسى بن ميمون: “من لا يؤمن بالتوراة الشفاهيَّة هو من الكفرة”. وقال مُبَيِّناً حكم اليهودي المُخالف الذي له آراء اجتهاديَّة يختلف فيها مع علماء اليهود: “حين يقوم أي من الهراطقة [=اليهود] لإفساد الشعب [=اليهودي]، فهم إنَّما يقوضون أسس إيمان الشبان فلا يجدون لهم مُخَلِّصًا. احذروا منهم واعرفوا أنَّه مباح قتلهم برأينا”.
وهكذا، فعِوضًا عن أن تكون لآراء الفقيه والطبيب والمنطقي والفيلسوف موسى بن ميمون مساهمة إيجابيَّة وسط مجتمعه، تحثهم على تقبل الاختلاف وفَهم الآخر ومد جسور الحوار، وهذا المتوقع -عند كثيرٍ من النَّاس- من طبيبٍ وفيلسوف ومنطقي، لكن في الواقع كانت لآرائه دورها السلبي العميق في تعميق وتجذر الكراهيَّة ونبذ الآخر، ونفخ روح العداء وترسيخه في النفوس محيطه.