- دوج هينوود
- ترجمة: عبد الرحمن فتحي
سيخسر الهازئون وصناع المقالب الذين كانوا وراء فقاعة العام الحالي “جيم ستوب Gamestop” أموالًا طائلة، ولكنهم قد أسدوا إلى العالم أكبر خدمة، فلقد ذكّرنا هؤلاء بمدى عبثية وعدم جدوى سوق البورصة، هذه المؤسسة التي لا فائدة منها سوى أنها تجعل حفنة ممن لا يستحقون أثرياءً!
من دار بخلده أن لعبة “جيم ستوب” ستتحول هي ذاتها إلى أكبر لعبة؟
في الصيف الماضي، كان ينظر إلى متاجر البيع المباشر “القطّاعي” لألعاب الفيديو على أنها ستزول في القريب العاجل؛ فلقد كانت تتعرض للخسائر المالية باستمرار، وكانت المبيعات تتقلص سنة وراء سنة، وكذا أن حصة تداول أسهمها تقدر بأربعة دولارات. وفي الوقت الذي أكتب لك فيه هذا المقال الآن -أي بعد ظهر يوم الأربعاءن وفي السابع والعشرين من يناير تحديدًا- أخبرك أن سعر تداول أسهمها الآن قد وصل إلى 339 دولارًا. ففي نهاية تداول الثلاثاء القريب، لم تكن قد تخطت 148 دولارًا. هذا ليس عائدًا سيئًا إن قدرنا أن الأمر صار بين عشيّةٍ وضحاها، وبنسبة مئوية قدرها 129%. ولكن قبل ثلاثة أيام فقط كان السعر عند 38$؛ لقد تضاعف السعر عشرة أضعاف في أقل من أسبوع، فكيف حدث ذلك؟
للإجابة على ذلك ينبغي أولا أن أوضح مفهوم “البيع على المكشوف”[1] “Short selling”، والذي يستعصي على أفهام أغلب المدنيين. باختصار، إن البيع على المكشوف رهانٌ على أن سعر السهم (أو أي أصل آخر قائم على المضاربة كالذهب والسندات المالية) في طريقه إلى الهبوط في المستقبل القريب. ولكن لتستفيد من رهان كهذا، فإن عليك أن تبيع الشيء قبل تملّكُه بهدف شرائه فيما بعد بقيمة أقل، وهو ما لا يعد تصرفًا طبيعيًا. ولتحقيق ذلك، فإن عليك أن تقترض السهم ممن يملكه، وكما هو الحال مع أي قرض آخر، يتعيّن عليك كذلك دفع الفائدة إضافة للأصل المقترَض. كما يجب عليك أن تحتفظ ببعض الضمانات على الإيداع مع وسيطك كضمانة على أنك جادٌ في أمر المال. يكمن الأمل في هبوط سعر السهم فيما بعد، ومن ثم شراؤه بعدها بقيمة أقل من التس بِيعَ بها. وحينها يكون ربحك مساويًا للفرق بين سعر البيع المكشوف وسعر الشراء ناقصًا فقط الفائدة التي دُفعت نظير الأصول المقترضة [في الفترة ما بين البيع والشراء].
ولكن، ماذا لو أخطأت التقدير وارتفع سعر السهم بدلًا من أن ينخفض؟ حينها، مصيبتك مصيبة!
فأنت حينما تشتري سهمًا، فإنك تجازف بخسارة سعر الشراء بأكمله، ولكنّ خسارتك لن تتعدى هذ الحد.
ولكن في حالة البيع على المكشوف، فإنك إذا ما خاطرت وأخطأ حدسُك، فلن يمكنك حينها تعيين الحد الذي ستصل إليه خسارتك، إذا ما استمر سعر السهم في الارتفاع. وإذا حدث واستمر تصاعد السعر فعلًا، فحينها سيطلب الوسيط المزيد من الضمانات في صورة مال حقيقي؛ وحينها تكون أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن تنسحب من العملية -وتتبع نهج شراء التغطية[2] وتتحمل الخسارة- أو تستمر في ضخ الأموال والضمانات وتستمر الخسارة على أمل أن الأمور ستنقلب إلى صالحك في نهاية الأمر.
وبالعودة إلى شأن “جيم ستوب”، بدأ المستثمر ريان كوهين -والذي أسس متجر chewy الإلكتروني لطعام الحيوانات الأليفة وباعه بفارق ربحٍ وفير- بشراء أسهم “جيم ستوب”. وقد أخبر الشركة بأن عليهم أن يواكبوا العصر الرقمي، ويغلقوا هذه المتاجر وينتقلوا إلى البيع عبر الإنترنت. انطلق المستثمرون المتفائلون بمستقبلٍ أفضل لهذه الأسواق الآيلة إلى السقوط، يتسابقون على شراء حصص الشركة، وضاعفوا أسعارها ثلاثة أضعاف بحلول نهاية نوفمبر.
ربما يبدو هذا تفاؤلا غيرَ مبررٍ، ولكنه ليس غريبًا إلى هذا الحد؛ وعلى الجانب الآخر، بدأت بعض صناديق الائتمان -وأبرزها صندوق Melvin Capital Management- بممارسة البيع المكشوف لأسهم جيم ستوب، اعتقادًا بأن حكاية التعافي تلك حديثُ خرافة.
ما حدث أن بعض المترددين باستمرار على شارع وول ستريت فرع ريديت Reddit، وعبر حساباتٍ بمسمى قد اختاروه ممثلًا لقادة الحملة ومشعلي الفتنة وهو: DeepFuckingValue، قد تلقفوا اسم السهم وحدّثوا به وبشرائه. لم يحفز هؤلاء أية نيّة للتكسّب المالي، وإنما لمجرد السخرية والهزء بالصناديق الائتمانية ودفعها إلى الإفلاس. لقد شرعوا في شراء الأسهم تلو الأخرى وبكميات كبيرة “in size” كما يقال في شارع وول ستريت. فأجبر ارتفاع الأسعار الذي أعقب ذلك صندوقَ “ميلفن” وغيره على تغطية ما شروه. لقد أدى الطلب على السهم وما فعله رواد موقع “ريديت” إلى رفع سعر السهم بسرعة البرق.
لقد أضحت حادثة “جيم ستوب” واحدة من أضخم فقاعات عصرنا الحالي. فقد تخطى تداول أسهمها في الخميس الماضي شركة “آبل”، أي تخطى تداول السهم الأعلى على الإطلاق، مع قيمة سوقية إجمالية تبلغ 108 مرة ضعف متاجر التجزئة. وكما وضح جيمس ماكينتوش صحفي جريدة وول ستريت أن حركة السعر والتداول بهذا الحجم يشيران إلى أن “هناك اضطرابٌ واسعٌ لأحكام الناس”.
إن فقاعات كتلك دائما ما تنتهي بخراب الديار، ورواد الحملة على “ريديت Reddit” الذين لم يبيعوا حصتهم من الأسهم بعد، سينتهي بهم الحال خاليي الوفاض. (المدهش في الأمر أن خبر قيام “مِلفن” بتصفية موقف البيع يوم الخميس الماضي لم يخمد نيران الحملة؛ إن الفقاعات عادة ما تستمر طويلًا، بل أطول مما قد يخطر على بال أكثرنا عقلانية). ومن المضحك أن بعض رجال شارع الأموال “وول ستريت” في هذه الأثناء يشتكون من أن هناك ظلمًا وغبنًا في الأمر، حيث إنهم وحدهم من يمارس تلك الألعاب على الدوام مع بعضهم البعض أو مع عامة الناس. إنهم وحدهم من يملك الحق في رفع قيمة الأسهم أو خفضها، طبقا لما تقتضيه مصالحهم، ومن ثم فهم يتواطؤون على اللاعبين الضعفاء وغير المحصنين طيلة الوقت. إن الأمر وما فيه أن من تكفل بأمر المضاربات هذه المرة أسماء على شاكلة “DeepFuckingValue”، أي أن من يهاجمهم الآن بضراوة هم الناس الخطأ؛ فليس منهم من يقطن بمنزلٍ في غرينتش، ومن يحوي مرأبه عشرين سيارة.
بل إن التعليقات الجادة حول الأمر أشد تسليةً. كمن يحسب مثلا أن تلك الألاعيب ستفسد سوق البورصة. أو بحد قول كاتب عمود “بيزنس إنسايدر Business Insider” جوش بارو على تويتر:
“أعلم أن الناس يظنون أن الأمر مجرد مزحة، ولكني أسأل: لأي هدف تحسبون أن لدينا سوق بورصة؟ إن هذا السوق يسمح للشركات المنتجة بجمع رؤوس أموالها ومن ثم استثمارها في القيام بأشياء مفيدة. وفصل سعر أسهم البورصة عن قيمته الأساسية سيجعل حال الأسواق التي تخدم الاقتصاد الحقيقي مزريًا. (لاحظ أن قيمة”جيم ستوب” الآن تماثل تقريبا “Best Buy“!)”
إن ما يثير السخرية في هذه التعليقات -هذا بغض النظر عن حملهم الأمر على محمل الجد، بكوميدية هابطة- هو عدم وجود علاقة بين جمع الأموال وبين الاستثمارات المنتجة للأشياء المفيدة. فإن أغلبية الأسهم المتداولة في سوق البورصة -بما فيها سهم “جيم ستوب”- قد تم إصدارها منذ أعوام؛ أي أن حياتنا اليومية لا تساوي فلسًا عند تلك الشركات. فالشركات تصدر الأسهم بين الحين والآخر، فيما يعرف “بالإصدارات الأولية العامة” IPOs، ولكن على مدار العشرين عامًا الأخيرة، وطبقًا لبيانات أستاذ المالية جاي ريتر فإن الإصدارات العامة قد جمعت إجماليًا تراكميًا قدره 657 مليار دولار أمريكي، أي أقل بكثير من 2% من إجمالي الاستثمار التجاري في أشياء مثل المباني والمعدات خلال الفترة نفسها. فالأمر في الواقع إذن عكس ما توهمه بارو، لأن الشركات تجمع غالبية أموال الاستثمارات داخليًا، أي من الأرباح؛ فبدلًا من أن تجمع الشركات أموالها من المساهمين (حملة الأسهم)، فإنها تخصص لهم بحارًا من الأموال.
فمنذ عام 2000، أنفقت الشركات الكبرى ــوأعني بها الشركات المالية التي تشكل مؤشر أسهم إس آند بي 500ــ ما يعادل 8.3 تريليون دولار أمريكي على شراء أسهمها الخاصة لرفع سعرها، أي أكثر من نصف أرباحها على مدى هذه الفترة، وما يعادل قرابة 20% من الاستثمار التجاري على مدى عقدين. إن عمليات إعادة شراء الأسهم لا تصب في مصلحة المساهمين وحدهم فحسب، وإنما تسمّن كذلك أرصدة الرؤساء التنفيذيين CEOs، وذلك لأن الرؤساء في هذه الأيام يضعون أموالهم في أسهم البورصة.
وإن تغاضينا عن هذه المهزلة، فإن دراما التصاعد اللانهائي في أسعار أسهم البورصة منذ عام 2009 -والذي توقف لفترة وجيزة إبان أزمة كورونا في مارس الماضي- لهي علامة على أن النظام المالي لا علاقة له إطلاقا بالواقع الاقتصادي. فإن تريليونات من المساعدات الحكومية للأعمال والدفعات التي يضخها الاحتياطي الفيدرالي في الأسواق المالية، قد خلقت تدفقًا وحشيًا لأموال لا توضع بأي مكان خلا أصول المضاربة، وذلك في الوقت الذي تكون فيه وحدات العناية المركزة في على أشدها، وفي الوقت الذي يخبر فيه 24 مليون مواطنًا موظفي مكتب الإحصاء السكاني بأنهم يواجهون مشكلة في الحصول على ما يكفيهم من الطعام؛ يجب لهذا الأمر أن يقلقك أكثر يا بارو!
[1] البيع على المكشوف، أو البيع الفارغ: هو بيع ورقة مالية قبل تملكها بهدف شرائها لاحقا بقيمة أقل وبالتالي تحقيق ربح مساو للفرق بين سعر البيع المكشوف وسعر الشراء ناقصا الفائدة التي يدفعها المستثمر نظير اقتراض الورقة المالية في الفترة ما بين البيع والشراء. وتستخدم سياسة البيع المكشوف إذا توقع المستثمر هبوط سعر ورقة مالية كسهم تجاري أو سند في المستقبل القريب، وهي سياسة معاكسة لسياسة الشراء بغرض الربح من ارتفاع الأسعار في المستقبل (المترجم)
[2] ويعني شراء نفس الورقة المالية التي تم بيعها في البداية بسياسة البيع على المكشوف، وإعادة الأسهم المقترضة في البداية. (المترجم)