- تحرير: عبد الرحمن بن سليمان الميمان
كان الزهري يقول: “يخرج الحديث من عندنا شبرًا فيرجع إلينا من العراق ذراعًا”، وما ذلك إلا لما يقع له من التصرف فيه سندًا ومتنًا، حتى يستحيل لونًا آخر[1].
وقد ذكرني هذا النصُّ ما جرى للمختصرات العلمية، من الجناية عليها، بتحميلها فوق طاقتها، والتربُّص بها غير ثمرتها، مع أن المقصود أصالةً من “الاختصار أخذُ أوساط الكلام، وترك شعبه، وقصد معانيه”[2]، وعلى ضوء ذلك كتبها علماء نصحة؛ لأغراض علمية شريفة، من أجلِّها: تطويع العلم حفظًا ودراسة ومراجعة؛ لأنها تجمع المعاقد، وتحوي المقاصد[3]، ومن ثمارها الكريمة: ما نُسب إلى الإسنوي أنه قال: “سمعت عن أشياخنا أنهم يقولون: لا يكون المرء فقيهًا حتى يمرَّ على الفقه كاملًا في كل سنة، وأقل ما يكون به النظر أن يمرَّ على المختصرات”[4].
بل إن من حذق المختصرات بتلقِّيها عن الشيوخ على وجهها صار حقيقًا باسم الفقيه، فقد كانوا “يسمون العالِم بمختصرات الفقه فقيهًا”، كما يقول القرافي[5].
ومن البين أن هذه منزلة متقدمة، بعد أن تصير المعاني فسيحة المغاني.
لكن المجازفة حينما يتلقفها الطلاب ليرتعوا فيها بعيدًا عن عيون شيوخ العلم، فقد يزل الناظر فيها زللًا كبيرًا ولو كان ذا مقام كبير، مما يضر بمنزلته العلمية، كما قيل عن الفقيه القليوبي: “لا يُعتمد قوله في الفقه؛ لأنه لفَرْط فهمه وذكائه يتلقَّى المسائل بفهمه لا بالنقل”[6]!
ومن عادة العلماء أن يُودِعوها مسائل دقيقة؛ لتستحكم الحاجة إلى الأستاذ، وقد صرَّح بهذا الشيخ عبد الحكيم الأفغاني، فقال: “إن الحكيم لا يجعل كتابه خاليًا عن المسائل الصعبة العويصة؛ لئلا يستبدَّ التلميذ بإدراك جميعه، بل يرجع في مجملاته إلى أستاذه…”[7].
وأنَّى للطالب أن يفهم تلك المعاني الدقائق وحده؟
ومما يؤكد هذا المعنى أربعة أمور:
أولًا: أن إيجاز اللفظ ربما بخَس المعنى حقَّه، فأورث لبسًا، وهذا ما حمل ابن رشد على قوله: “رأى الفقهاء قراءة الأصول أولى من قراءة المختصرات”[8].
ثانيًا: أن بعض العلماء لا يبذلون في المختصرات كرائم علمهم، وربما كان ذلك مدعاةً لنقدهم، كما في وصف التاج السبكي لعلاء الدين الباجي بقوله: “له مختصرات ليست على مقداره”[9]، فمن قنع بها فقد فاته علم غزير.
ثالثًا: أن إهدار القيود -كما هو الشأن في المختصرات- يجعل المعنى كسيفًا؛ لأن مظنتها المطولات، يقول الطحلاوي: “قد يصعب فهم الكلام من المبالغة في اختصاره، فالذي يعين على فهمه مطالعة المبسوطات، ولا يقتصر على مطالعة مصنف أو مصنفين مثلًا، فقد يُهمِل بعضُ المصنِّفين قيودَ المسألة، فلا بد من الإكثار من مطالعة المصنفات التي لا يجتمع مثلها لكثرتها على ترك شيء من القيود، فمن استعمل هذا كله حين المطالعة: خرجت له المعاني التي تحت الألفاظ طائعة”[10].
رابعًا: أن من المعلوم أن من خصائص المختصرات: طيُّ الخلاف وعدم نشره، ومن اقتصر عليها فقد فاته حظ عظيم من العلم، يقول ابن السبكي: “إن المرء إذا لم يعرف علم الخلاف والمأخذ لا يكون فقيهًا إلى أن يلج الجمل في سَمِّ الخياط، وإنما يكون رجلًا ناقلًا مخبِّطًا، حاملَ فقه إلى غيره، لا قدرة له على تخريج حادث بموجود، ولا قياس مستقبل بحاضر، ولا إلحاق شاهد بغائب، وما أسرع الخطأ إليه، وأكثر تزاحم الغلط عليه، وأبعد الفقه لديه”[11].
وعليه فإن “فهم قواعد العلم وتطبيقها حتى تحصل ملكة استعمالها هو المقصود من الدرس على الشيوخ”، كما يقول ابن باديس[12].
وإذا تقرر ذلك فقد استبان وجه قول أبي الفتح ابن جني: “لمثل هذا الموضع يُحتاج مع الكتب إلى الأستاذِيْن”[13].
ولا يصح التهاون في هذا الباب مطلقًا، وفي العلم على وجه أخص؛ إذ إن “من حق العاقل أن يضيف إلى رأيه رأي العقلاء، ويجمع إلى عقله عقول الحكماء، فالرأي الفذ ربما زل، والعقل الفرد ربما ضل”[14].
وليس كثيرًا ما يُهراق من ماء الحياة في سبيل العلم النافع وإن كان شاقًّا؛ لأن “شأن كل عظيم القدر ألا يحصل بالطرق السهلة”[15].
*العنوان: من أراد التوسع فيما يتصل بالمختصرات؛ فعليه بالدراسة الحافلة: «المدخل إلى علم المختصرات- المختصرات الفقهية أنموذجًا».
[1] – جاء في كتاب «مكانة السنة في التشريع»: “وضع الحديث .. أول من تجرأ على ذلك، هم الشيعة، فيكون العراق أول بيئة نشأ فيها الوضع، وقد أشار إلى هذا أئمة الحديث حيث كان الزهري يقول: (يخرج الحديث من عندنا شبرا فيرجع إلينا من العراق ذراعا). وكان مالكٌ يسمي العراق (دار الضرب) أي تضرب فيها الأحاديث وتخرج إلى الناس، كما تضرب الدراهم وتخرج للتعامل”.
وقال ابن تيمية: “ومنها: أن كثيرًا من الحجازيين يرون ألا يحتج بحديث عراقي أو شامي إن لم يكن له أصل بالحجاز، حتى قال قائلهم: نزِّلوا أحاديث أهل العراق بمنزلة أحاديث أهل الكتاب، لا تصدقوهم ولا تكذبوهم. وقيل لآخر: سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله حجة؟ قال: إن لم يكن له أصل بالحجاز فلا! وهذا لاعتقادهم أن أهل الحجاز ضبطوا السنة فلم يشذ عنهم منها شيء، وأن أحاديث العراقيين وقع فيها اضطراب أوجب التوقف فيها…” «مجموع الفتاوى ٢٠ / ٢٤١».
[2] – «حلية الفقهاء» (ص: 29): لابن فارس.
[3] – «الشامل في أصول الدين» (ص: 105): للجويني.
[4] – بحثت عن هذا النقل في مصدر معتبر فلم أقف عليه بعد.
[5] – «نفائس الأصول في شرح المحصول» (1/ 158).
[6] – «عطية الله المجيد وحثوه المزيد لتراجم أعيان القرن الرابع عشر من علماء اليمن وزبيد» (3/ 747)، وهو مخطوط، واهتديت إلى هذا النقل والعزو بواسطة أخي الشيخ حسن معلم داود أثابه الله.
[7] – «كشف الحقائق شرح كنز الدقائق» (ص: 4)، ط. 1، 1318 هـ، طبع بالمطبعة الأدبية بسوق الخضار القديم بمصر.
[8] – «البيان والتحصيل» (3/ 407).
[9] – «طبقات الشافعية الكبرى» (10/ 342).
[10] – «غاية الإحكام في آداب الفهم والإفهام» (ص: 66).
[11] – «طبقات الشافعية الكبرى» (1/ 319).
[12] – «آثاره» (4/ 203).
[13] – «المنصف شرح كتاب التصريف لأبي عثمان المازني» (ص: 210).
[14] – نسبه الماوردي في «أدب الدنيا والدين» (ص:300) إلى بعض البلغاء.
[15] – «الذخيرة» (5/ 298): للقرافي.