- محمد فاضل بلمومن
نبذة تاريخية
ولد الشيخ مولاي الحسن بن عبد العزيز القادري البغدادي التلمساني في ندرومة سنة 1896م بولاية تلمسان وسط عائلة شريفة محافظة، ويرجع نسبه إلى الإمام القدوة عبد القادر الجيلاني رحمه الله.
حفظ القرآن الكريم في صغره ثم التحق بالزاوية العلوية بمستغانم واشتغل كاتباً لدى الشيخ العلوي ومشاركاً في كثيرٍ من المهمات؛ كالإشراف على الطباعة وإدارة جريدة “لسان الدين” ودعوة المريدين والتأليف في التعريف بالطريقة وشيخها. ثم التحق خلال هذه الفترة بالكفاح المسلّح رفقة الأمير عبد الكريم الخطابي وكان كاتبَه الخاص بمنطقة الريف المغربية التي ظلّت تُقاوم العدو المزدوج الفرنسي-الإسباني إلى غاية استسلام الأمير سنة 1926م، حيث أُلقي القبض على الشيخ الحسن البغدادي وسُجن مدة قصيرة رفقة الأمير عبد الكريم الخطابي ثم أُفرج عنه بالعودة إلى مسقط رأسه بتلمسان، أما الأمير فتمّ نفيه إلى جزيرة الرينيون بالمحيط الهندي.[1]
ثم لم يلبثْ الشيخ أن تحوّل إلى الخطِ الإصلاحي السلفي بعد قدوم الشيخ البشير الإبراهيمي[2] إلى تلمسان سنة 1932م ودرس بين يديه ثلاثة عشر عاماً، أخذ فيها عنه صحيح مسلم روايةً ودرايةً وغير ذلك من الإجازات. كما كان الشيخ البغدادي من مؤسّسي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة 1931م ومن مؤسسي مدرسة دار الحديث بتلمسان سنة 1937م.[3] وفي سنة 1950م التحق بالأمير عبد الكريم الخطابي الذي فرّ من الفرنسيين محتمياً بالملك فاروق بأرض مصر. عُرف البغدادي بكثرة سياحته وتجواله فقد زار المغرب والسودان ومصر والشام وباكستان والهند وتونس والحجاز، كما التقى خلال رحلاته بشخصيات علمية وفكرية وأدبية كثيرة مثل: الشيخ صبحي الصالح، والأستاذ محمد نصيف، والشاعر محمد الشاذلي خزندار، والشيخ ناصر الدين الألباني، والعلامة أبو بكر جابر الجزائري، والأستاذ علي الحمامي.. وغيرهم كثير.
تزوّج الشيخ أكثر من مرة في الجزائر والمغرب ورُزق بولدين، الأول وهو عبد العزيز وأمه مغربية والثاني وهو جمال الدين وأمه جزائرية، وبعد خروج الاحتلال الفرنسي عاد إلى الجزائر العاصمة وعُيّن إماماً خطيباً في مسجد الرحمة العتيق بمدينة برج الكيفان وبقي فيها إلى غاية وفاته يوم 21 مايو 1984م وكانت جنازته جنازةً مشهودة رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
خبر المكتبة
أكثر ما كان يميّز الشيخ الحسن البغدادي أنه كان صاحبَ ثقافةٍ واطّلاع إضافةً إلى علوم الشريعة؛ فقد كانت له مكتبةٌ زاخرةٌ في بيته حَوتْ العديد من الفنون والتخصصات، و كان ذا عنايةٍ بجمع الكتب المتخصصة والمخطوطات النادرة والمطالعة فيها والتجوّل بالمكتبات والتواصل مع أهل العلم والثقافة والسفر في البلدان والأمصار،[4] ووصفه الدكتور يحي بوعزيز بأنه “خطيب مصقع، وذو ثقافة متينة وله لحن جميل عندما يؤذن، ويتلو القرآن الكريم”.[5] وكان الشيخ : حين يصادف بعض الكتب المهمة -وكانت الكتب في تلك الأزمان عزيزةً- فإنه يُعاود نسخها بخطّ يده في كرّاسات مدرسية، وظهر له اهتمامٌ مضاعفٌ بالتاريخ عبر ما كان ينسخ من عناوين، مثل كتاب: ”نظم الدر والعقيان، في بيان شرف بني زيان، وذكر ملوكهم الأعيان، ومَن مَلَكَ من أسلافهم فيما مضى من الأزمان“ للحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الجليل التنسي، و”بهجة الناظر، في أخبار الداخلين تحت ولاية الإسبانيين بوهران من الأعراب كبني عامر“ للعلامة عبد القادر بن أبي جلال المشرفي الأغربسي، وشرح نظم الحلل السندسية بما يتعلق بفتح وهران في عهد الأتراك للشيخ بورلس، و”تاريخ قسنطينة“ لمحمد صالح العَنتري، ونَسْخِه أيضاً لكتاب ”نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر“ للعلامة ابن الجوزي وما ضاع أعظم.
لكن المؤلم في خبر الشيخ هو مصير مكتبَته وما حوتْه من كنوز ونوادر[6] حيث بقيت حبيسة الإغلاق في بيته بعد وفاته رحمه الله، ولم يكن يُسمح لأحدٍ من أهل العلم والثقافة بالاطلاع عليها، ثم تفاقم الوضع بين أن تعرّض بيت الشيخ للمُصادرة ليتمّ إخراج كل ما كان بداخل البيت ورميه في الشارع بما في ذلك المكتبة! لتضيع الكتب يمنة وشملة ونُقل بعضها إلى المسجد وتعرّض ما تبقّى منها للإهمال والرطوبة فكان مصيرها التّلف للأسف؛ بل إنّ بعض الإخوة أخبرني أنه عثر على بعضها وسط صناديق القمامة فأخذها واحتفظ بها!
وكان لهذه الحادثة أسبابٌ كثيرة أدّت إليها، من بينها غلبة الجهل وقلة الاهتمام بالثقافة والمعرفة على الشعب عموماً في تلك الفترة من الزمن، بالإضافة إلى أنّ معارف الشيخ كانوا قلّة في المدينة الجديدة التي استقرّ بها فلم يكن على ذلك القدر من التواصل مع غيره من المشايخ والعلماء والمثقّفين، ثم إنّ ابن الشيخ وأحفاده لم تسمح لهم الفرصة بالمحافظة على ذلك التراث الثمين مراتٍ مقصّرين ومراتٍ للظروف القاهرة، خاصة لما اضطروا لمغادرة البلاد إلى أوروبا بعد مصادرة البيت بما فيه، كما أنه لم يكن للشيخ رحمه الله تلاميذ أخذوا عنه وحفظوا علمه وآثاره وإلا لكانوا اعتَنوا بالمكتبة وخدموها وحفظوها لنا ولمن بعدنا. ويلحق اللّومُ الاهتمامَ الرسميّ الذي يعوّل عليه لانتشال تلك المكتبة وإيقافها لطلبة العلم والمعرفة.
وجرّاء ذلك بقيَ هذا العَلَم من أعلام الجزائر المعاصرة مجهولاً والمعلومات عنه نادرة، فغفر الله لكل من كان سبباً في ضياع المكتبة وذلك التراث العظيم وما فيه من سيرة الشيخ وأخباره وثمرة تجاربه في خدمة الدين والأمة والوطن.
الهامش:
[1] في الصورة المرفقة مع المقال من اليمين إلى الشمال: العلامة محمد البشير الإبراهيمي، الأمير عبد الكريم الخطابي، والشيخ الحسن البغدادي بالديار المصرية في خمسينيات القرن الماضي.
[2] حسن البغدادي، حرب الريف، مخطوط، ص229
[3] خالد مرزوق ومختار بن عامر، مسيرة الحركة الإصلاحية بتلمسان، ص23
[4] اُنظر: حسن البغدادي، رسالة الحق في الميزان، ص11
[5] يحيى بوعزيز، أعلام الفكر والثقافة في الجزائر المحروسة، ص70-71
[6] من المخطوطات النادرة التي عُثر عليها في مكتبة الشيخ كتابٌ مفقود في العالم في الأربعين حديثاً للعلامة الغُبريني.
مقال مهم . شكرا لصاحب المجهود… هل من إمكانية للتواصل مع كاتب المقال؟