- أندريان كيري
- ترجمة: فاطمة مصطفى
- تحرير: عبدالعزيز بن فرج المسعودي
كانت هذه من اللحظات المهمة في المجال العلمي، تلك اللحظات التي تتمنى لو كنت حاضرًا وقت وقوعها. في صيف العام الماضي في سونوما، حضر علماءٌ في الاقتصاد السلوكي من ثلاثة أجيال وعقدوا اجتماعًا أدارته شركة إيدج فاوندايشن (Edge Foundation).
الاقتصاد السلوكي هو: مجالٌ علمي معنيٌ بتحليل حركة السوق من وجهة نظر المستهلك.
أبرز ثلاثة محاضرين كانوا:
دانيال كينمان، وهو بروفيسور علم النفس في جامعة برينستون وحائز على جائزة نوبل لعمله الرائد في الاقتصاد السلوكي، وشَرِيك “كينمان” الشاب: ريتشارد ثالر، وهو بروفيسور في مجال الاقتصاد السلوكي في شيكاغو والمعروف بالأب الروحي للاقتصاد السلوكي، والأخير: سيندهال مولاينتان، الذي كان طالبًا لدى ثالر وحقق سمعة لا يستهان بها، ويشغل الآن منصب بروفيسور الاقتصاد في جامعة هارفارد، وهو المسؤول عن تطبيق نظرية الاقتصاد السلوكي والسيكولوجيا على ظاهرة الفقر.
من الحضور كانت هناك شخصيات كبيرة، والأبرز من بينهم: جيف بيزوس الرئيس التنفيذي لشركة أمازون، ونائب الرئيس وأحد كبار التنفيذيين في جوجل سالار كامانجر، ومؤسس بلوجر (Blogger) والرئيس التنفيذي لتويتر: إيفان ويليامز، والرئيس السابق لقسم التكنولوجيا في مايكروسوفت نايثان مايهرفولد، ومؤسس باي بال (Pay Pal) إيلون ماسك، وشون باركر الذي شارك في تأسيس فيسبوك. مثَّـل هؤلاء جميعًا العقول التي تشكل الجزء الناجح من الاقتصاد الحديث.
إن كُنتَ مهتمًا بالأمر وتريد استيعاب الانهيار الحالي للاقتصاد العالمي أنصح بقراءة نسخة من ملف هذا الاجتماع، قد لا تجد شروحات كاملة وأجوبة مباشرة، لكن ستجد تفسيرات بسيطة وردت فيه ستكون مفيدة دون شك.
في الوقت نفسه، لا أعتقد أنه من الحكمة أن نضع أملًا كبيرًا ونتفاءل بالعلوم الجديدة لشرح مجريات الأحداث الحالية. فكلما زاد عدد مسببي الضرر بمستوىً عالٍ، أو بتعبيرٍ أدق على صعيد عالمي؛ كلما ازدادت صعوبة التوصل لشرحٍ دقيق ووافٍ. مع تفشي الضرر وانتشاره تصبح التفسيرات المنطقية أقرب للخيال. على سبيل المثال: انتشر معتقدٌ خرافي في بداية التسعينات في أفريقيا الغربية نتيجة كساد إقليم، تفشّت خرافة “لصوص الجنس” (Voleurs du sexe) وتناقلها الناس لدرجة رهيبة في بلدان مثل ساحل العاج، والسنغال، وبوركينا فاسو. حسب ما جاء في الخرافة، يقوم سحرة بسرقة الأعضاء التناسلية لرجال أبرياء عبر ترتيل التعاويذ وهم يصافحون ضحاياهم. وبالطبع لم يتم تأكيد صحة أيًا من هذه الحالات، ومع هذا ظهر أثرٌ جانبي فتّاك لهذه الخرافة. إذ انطلق صائدو السحرة ورجال العصابة في غضب يلاحقون لصوص الأعضاء المزعومين حتى يمسكوا بهم، وفي الأخير يرجمونهم حتى الموت.
وجد بعض الأطباء النفسيين في السنغال تفسيرًا مثاليًا لهذه الظاهرة. يعود الكساد الإقليمي الذي حصل وقت انتشار الخرافة لانخفاض الفرنك في أفريقيا الغربية، والعملة الإقليمية تعتمد بالكامل على الفرنك الفرنسي وعلى منح وعطاءات البنك الفرنسي.
أغلب سكان أفريقيا الغربية واجهوا صعوبة في فترةٍ ما، وفي أغلب الحالات يكون السبب الأساسي لهذه المحن هو الجفاف، والفيضانات، أو الحروب. لكن التقشف الاقتصادي هذه المرة ليس ناجمًا عن كوارث طبيعية وإنما انخفاض في قيمة العملة مما سبب حيرة وإرباك. وُلدَت الخرافة نتيجة الحيرة. يمكن تفسير الخرافات التي ولّدها هذا الارتباك الاقتصادي بمفاهيم سيكولوجية بسيطة: عندما أصبح العائل ضعيفًا حد العجز؛ استحال قلقه لخوفٍ من أن يتم إخصاؤه من لصوص الأعضاء، فيعاقب اللصوص بالقتل لحماية نفسه.
يوضح جنون لصوص الأعضاء التناسلية في أفريقيا الغربية تضارب المعرفة والمعتقدات في الاقتصاد. تظل عقلية “الإنسان الاقتصادي” مجرد افتراض، مَن منا لم يلاحظ حالة السوق الهيستيرية في الشهور الأخيرة؟ أم أنه لا مكان للتعقل في الاقتصاد بعد الآن؟
يحاول الاقتصاد السلوكي تطبيق الأدلة العلمية على المجال الاقتصادي؛ فينتهي باستنتاجٍ مفاده أن دوافعنا العاطفية ستطغى على المنطق في النهاية. حتى أبسط التغيرات في البيئة كفيلة بالتأثير على سلوكنا ونمط تفكيرنا. ففي أحد التجارب التي أجراها ريتشارد ثالر، قام بوضع شاشة كمبيوتر في زاوية غرفة كان يأتيها متطوعون لتعبئة استبيان والإجابة عن بعض الأسئلة، جعل ثالر شاشة التوقف صورة لأوراق نقدية. هذا العنصر البسيط جعل المتطوعين أكثر عرضة للمجازفة بأموالهم لاعتقادهم أن المخاطرة سينتج عنها عوائد مالية ضخمة.
هدف علم الاقتصاد السلوكي هو تطوير آليات تجعلنا قادرين على تمكين “الدافع” وإبقاء سيكولوجيا الانسان الاقتصادي تحت السيطرة. علم الاقتصاد السلوكي موجهٌ بالكامل لنشر هذه الآلية حتى تحل العقلانية محل الحيرة في ذهن الانسان الاقتصادي؛ ليدّخر أمواله أو على الأقل يوجهه لاتخاذ القرار السليم الذي يحقق مصلحته. يُلحق هذا التعريف مباشرةً بالنقد، يُرد عليهم أن ما يسمى بـ”الدافع” مبنيٌ في أساسه على آليات مشابهة لـ”ردود الفعل” في البحوث السلوكية التقليدية.
إلى أن تتقدم الدراسات والبحوث في هذا المجال سيظل المجتمع يبحث عن مذنبين، أي أناس مسؤولين عما يحدث للاقتصاد. لكن الاقتصاد يريد أن يصبح نظامًا يتميز بقوى السوق، ويتجرد من تأثير الانسان الذي تنسب له فداحة الفشل والذنب. الاقتصاد ميّال للصد عن هذه الاستفسارات وينعطف عنها ببساطة. أعطى رئيس البنك الهولندي جوزيف أكريمان أهميةً للمسؤولية الإجتماعية في خطابٍ ألقاه في مدينة فرانكفورت في شهر يونيو الماضي. وكان متيقنًا من هوية المذنبين عندما قال: “من جانب، العناوين الرئيسية السلبية في الإعلام عن الشركات والإداريين لا تضع الاحتيال على عاتق الإداريين مباشرةً وهي تشجعهم بذلك. وفي الجانب الآخر، وهو الأهم، يتزايد عدد الخائفين من الفشل -والمعرضين له- في وجه المنافسة الشديدة في ظل العولمة.” من هذا المنطلق قد نستشفُّ أن لصوص الأعضاء ومن يلاحقونهم هم المسؤولين عن الأزمة، وليسوا نتاج الأزمة.