عام

هل نهاية العالم أقرب للخيال من نهاية الإنترنت؟

  • جون تومسون
  • ترجمة: المعتصم الحراصي
  • مراجعة: الغازي محمد
  • تحرير: عائشة السلمي

هل يملك أحدٌ من العاملين في فيسبوك الإرادةَ أو حتى القدرةَ على التحكم بفيسبوك؟ كان هذا السؤالَ الذي طرحته مجلة نيويورك تايمز (New York Times) الأسبوع الفائت عن عملاق مواقع التواصل الاجتماعي. إنه من الواضح وعلى نحو متزايد أن نموَّ شركة فيسبوك وبقاءَها قائم على ضلوعها في قضايا عدة، منها فضيحة المشاركة الجائرة لبيانات المستخدمين الذي كشفتها “كيمبردج أناليتيكا”، وأيضا على محاولاتها العقيمة وغير الجادة في التصدي لدعوات تصعيد العنف التي تنشر على صفحات موقعها، النهج الذي فشل في التحكم بمسيرة منظمةٍ وموجهةٍ رفعت راياتِها قواتُ ميانمارَ المسلحةُ للقيام بإبادة جماعية لأقلية الروهينجا في البلاد. هذه المشاكل وما جرى جريها تبدو عصية على محاولات الشركة للتعديل والإصلاح، ولهذا ، قرر رؤساؤها العدولَ عن محاولاتهم واعتمدوا بدلا من ذلك أسلوبا دفاعيا شرساً، ومحاولةَ الضغط على مشرعي القوانين في البلاد، وإغفالَ الجماهير بإنكارهم للمسؤوليات الملقاة على عواتقهم أو إيهامهم بعدم أهميتها.

هل مشكلات الفيسبوك نقض للوعد اليوتوبي المثالي الذي أمَّـلَتْـنا فيه التكنولوجيا؟ أو أنها النتيجة المنطقية للإنترنت وبنيتِه والعواقبِ المترتبةِ على وجودِه؟ جيمس بريدل الكاتب والفنان والمهتم بشؤون التكنولوجيا يرى في كتابه الجديد أن الخيار الثاني يبدو أقرب للحقيقة. في كتابه: “عصر الظلام الجديد: التكنولوجيا و نهاية المستقبل” يرى بريدل أن الغاية الأساسية من وجود الإنترنت (وهي الجمع بين سرعة الحوسبة وربط شبكات المعلومات على نطاق عالمي) يرى أن هذا السعي وراء هذا الهدف هو ما أدى إلى بروز ظاهرة تجميع بيانات مستخدمي الشبكة العنكبوتية، وانتشار الأخبار المزيفة والمصطنعة، وبرامج المراقبة الجماعية. بتعبير آخر، لم تفسد الإنترنت قوى ومؤثرات خارجية، بل إنه يسير وفق أولوياته ومبادئه الأساسية. وبهذا فإن الإنترنت يشوش فهمنا لعالمنا، بل ويجعله أكثر خطورة.

هاك مثالا مصغرا يفسر لك فكرة بريدل: إني لأستطيع بفضل الإنترنت أن أحصلَ على تفاصيل النشرة الجوية في أي وقت وأي مكان. قد يحصل أن تكون النشرة الجوية أخطأت في توقعاتها، وقد أفاجأُ بمطر غزير يعطلني، ولكنني مع هذا ممتن أني خرجت وبحوزتي أفضل المعلومات الممكنة عن الحالة الجوية لهذا اليوم. أسوأ ما قد يحصل أن أبتلّ قليلا.

يأتي هنا بريدل ويصحح لي ما أخطأت فيه . إن النشرات الجوية -مثل أي حسابات تنبؤية للمستقبل- تفترض بشكل مطلق أن المستقبل سيكون تماما مثل الماضي. فهي تُـوَلِّف وتركب بيانات الماضي لتستقرئ بها المستقبل. لكنَّ التغير المتسارع لحالة المناخ الجوي في العالم يعني أن هذه الحسابات وما على شاكلتها  تصبح أقل دقة على المدى البعيد. إن المستقبل بذلك يبدو أقل شبهاً بالماضي. ولا يقتصر الأمر على هذا، بل إن الحسابات التنبؤية لحالة الجو صناعة تستلزم كميات كبيرة من الطاقة، وهو ما يعني أنها هي بنفسها تشارك في جعل توقعاتها أقل دقة بسبب الكميات الكبيرة من انبعاثات الكربون التي تصدرها. ولهذا يكتب بريدل: “إن الحوسبة هي ضحية للتغير المناخي ولكنها أيضا مشاركة في جريمة تغييره”. كلما أعيد تحميل صفحة النشرة الجوية، فأنا أساهم في الوقت ذاته بالحط من دقة هذه النشرة بمساهمتي في تغيير المناخ! هذا التغير المتسارع كشف عن أنماط جوية لا يمكن توقعها، وهو ما يؤذن بدمار آت لكوكبنا. لهذا، قد أجنب نفسي بلل المطر في ما أستقبله من أيام على المدى القريب ، ولكن على المدى الطويل فإن مدينتي بالكامل قد يكون مصيرها الغرق تحت الماء.

هذا هو الحال الذي يقودنا إليه الإنترنت والذي يصفه بريدل في كتابه ب”عصر الظلام الجديد“، إنه يستوعب تماما صورة العالم الحالي بحلوه ومره والحالةَ التي يجب أن يتغير إليها، وفي الوقت نفسه فإنه يخفي تورطه في صنع مستقبل مضطرب البنيان. إن المستقبل الذي وجهنا إليها نواظرَنا لَيفارقُ في مسعاه و مسراه الماضيَ الذي بنينا عليه رؤانا وخططنا، وإنه لكذلك، حتى يفجأَنا واقع الحال أننا نعلم عن المستقبل قليلا و نجهل كثيرا.

أحد أسباب ما سبق هو ما يشير إليه بريدل في كتابه، وهو أن البنية التي قام عليها الإنترنت لم تكن تعتزم خلقَ معارفَ وعلومٍ موضوعيةٍ ومحايدةٍ. على سبيل المثال ، فإن الذي طور حساباتِ الأرصادِ الجويةِ هو اتحاد أنجلو-أمريكي ذو أهداف عسكرية واقتصادية سعى إلى تزويد القوى الغربية بالقوة الجوية الاستراتيجية وتأكيدِ تفوقه بالأسلحة النووية أثناء الحرب الباردة. ثم قام مهندسو هذا المشروع لاحقاً بتأسيس “وكالة برنامج البحوث العالية للدفاع”، وهي المؤسسة الحكومية التي شكلت الإنترنت كما نعرفه نحن اليوم. إن أي افتراض يزعم أنه بإمكاننا إيصال الانترنت إلى جماهير الناس مع قدرتنا على بتره عن أهدافه الرئيسية الأولى التي أُسس من أجلها -وهي توسيع نفوذ رأس المال الغربي واستقصاءُ أرباحِ مؤسساته- لهو قول ساذج. بل إن استخدامنا لهذه التقنيات يساهم في تشكيل عالم تصبح فيه تلك الأهداف وثيقة الرسوخ.

كل فصل من فصول كتاب “عصر الظلام الجديد” يَمُدُّنا بعدسة مختلفة عن سابقتها، ويرينا من خلالها كيف استطاعت هذه الأهداف أن تخترق علاقاتنا الاجتماعية وكيف جعلت العلم الحقيقي مبهما وغامضا. يناقش فصل “المناخ” فكرة مجتمعاتنا المربوطة شبكياً والمتقدمة تقنياً، فهي لا تسرع تغير المناخ وحسب، ولكنها فوق ذلك تدمر مصادر “العلم المادي” (مخازن البذور، والبقايا الأثرية المتجمدة) بفعلها هذا. و يُـبَـيِّـنُ فصلُ “التعقيد” كيف أن تقنيات الحوسبة المستخدمة في المعاملات المالية الكبيرة تشوه معلوماتنا عن الاقتصاد وتسرع وتيرة اللامساواة. أما فصل “المؤامرة” فيتحدث عن الخوارزميات المستخدمة في تنظيم الإنترنت وتسييره وكيف يوجه استياء الناس -الذين تملؤهم مشاعر الظلم واللامساواة وانعدام الحيلة- نحو الأقليات. ويركز فصل “التزامن” اهتمامه على يوتيوب، فيوتيوب يسعى إلى زيادة عدد الساعات التي يقضيها فيه متصفحوه (وهو ما يضخم أرباح جوجل) من طريق زيادة عدد المقاطع المرئية الموجهة للأطفال المحتويةِ على مشاهد العنف الشديد . يحكي بريدل عن ذلك في نسخة معدلة من هذا الفصل (التزامن) نشرها على موقع “ميديم” (Medium) السنة الفائتة، فقد يترك أحد الآباء طفله ليشاهد كرتون “بيبابيج”، ثم يرجع لطفله فيجده يشاهد “بيبابيج” يتعرض للعنف والتعذيب!

إن أحد اللبنات الأساسية لهذه المشاكل هي ما يدعوه بريدل : “التفكير الحوسبي”. يفترض “التفكير الحوسبي” وجود بيانات ومعلومات مثالية عن الماضي، ويزعم أن بالإمكان أخذها وتحليلها وتركيبها لتعطي معلومات عن المستقبل. في إحدى فصول كتابه والذي أسماه “التواطؤ”، حاجج بريدل أن هذه هي العقلية التي شكلت ظاهرة المراقبة الجماعية التي تقوم بها الحكومات. فإن سياسة “جمع كل ما يمكن جمعه”، وهي السياسة المعروفة لوكالات الاستخبارات التابعة للحكومة، لا تحمل في سجلاتها أي دليل على تحسينها للأمن العام أو لحدها من العنف (ووضوح هذه الحقيقة دفع إحدى اللجان الرئاسية في أمريكا في 2013 للإعلان أن المراقبة الجماعية ليست أساسية لمنع هجمات العنف). المشكلة كما يقول بريدل هي أن هذه الممارسات “ذوات طابع قصاصي وذات أثر رجعي”. وهي تفترض أن كشف هذه الممارسات ولو بشكل بسيط غاية في حد ذاته. وأن المشكلات ستهتك سترها بيديها، بل ستعالج نفسها بنفسها، إذا ما سلطنا عليها النور وحسب.

هذه الغرور الواهم لا ينحصر في الحكومات المريبةِ أفعالُها فقطُّ، بل إن الصحفيين كذلك تلبسوا بهذا الذنب. ضرب بريدل لنا مثلاً عما حدث في 2013، حين قام إدوارد سنودن -الموظف سابقاً في وكالة الأمن القومي- بقرع أجراس الإنذار، وكشف كشوفات مهمة للعالم، تلك الكشوفات التي عجلت تأسيس هذا الموقع (The Intercept). وعلى الرغم من صيحات الاستنكار -في بداية الأمر- على كشفه بدقة عن الآلية التي تعمل بها المراقبة الجماعية في الولايات المتحدة وحلفائها، فإن الإصلاحات كانت طفيفة وحسب على أكثر تقدير، ثم انتقل اهتمام الجماهير وبسرعة إلى موضوع آخر! إن المشكلة كما يرى بريدل هي الظن أن كشف المشكلة سيتبعه تلقائياً فهمها ثم العمل على حلها. وهذا المنطق الموهوم و المضطرب هو الذي تشترك به الصحافة مع الحوسبة والمراقبة. فهي تهمل فهم الواقع والمستقبل فهما صحيحا، وتمعن في محاولاتها الواهية لرسم الصورة المثالية للماضي. وهو يحذر قائلا: “قد اقتنعنا اقتناعاً أن تسليط الضوء وحسب على قضية من القضايا يماثل التفكير فيها والقدرة على التأثير فيها.”

إن ما يتقدم به كتاب “عصر الظلام الجديد” لحل هذه المشكلة ليس دعوة للعمل، بل هي طريقة جديدة للتفكير. فهو يكتب في الصفحات الأولى من كتابه قائلا: “نحن لا نحتاج إلى تقنيات جديدة، بل إلى استعارات جديدة”. وعلى  الضد من طريقة التفكير “الحاسوبية” التي تدعي إمكانية معرفتها كل الحقائق عن العالم، فإنه يقترح طريقة تفكير جديدة يسميها “التفكير الضبابي”، وهو كما يقول بريدل التفكير الذي يعترف بجهله بما لا يستطيع معرفته، وينشد تنوير بصيرته بطرق أخرى. في الحقيقة، أراد بريدل أن يرى القارئُ عنوان كتابه فرصة لرؤية الجانب المشرق لا المظلم من الأمور. ولكي نستطيع استغلال هذه الفرصة فعلينا أولاً أن نتخلى عن تظاهرنا بقدرتنا على معرفة كل شيء ، ثم أن نتبنى منهجاً معتدلاً للشك، تقوده معرفتنا أن شبكة المعلومات التي نحيا ونعمل فيها مستمرة في جعل فهمنا عن العالم الحقيقي مبهماً وغامضاً ، وهي بذلك لا تقلل من وجود الظلم والجور في العالم بل تزيد الأمر وبالاً.

يبين بريدل: “لم يكن ما سبق حجة ضد التكنولوجيا، فإني إن أفعل يكن ذلك حجة على أنفسنا”. التكنولوجيا أداة لتشكيل العالم، وهي أيضا مجاز لنفهم العالم من خلاله. قد يكون بريدل محقاً، ينبغي علينا أن نتعلم أن نتوقع أشياء مختلفة من علاقتنا مع  التكنولوجيا. لا يمكن أن نؤمل أنها ستعطينا المعلومات الكاملة والمثالية أو إجماع الرأي العام على ما تقدمه من نتائج. يجب أن نكون مستعدين لنعمل وفق المعلومات التي تمدنا بها المصادر الموثوقة، بدلاً من أن نعلق آمالنا على التكنولوجيا لتحلل وتتحقق من كل ما بين يدينا من معلومات. فإنه من يطل الانتظار فقد أساء الاختيار.

لكن، قد يكون من السذاجة أن نأخذ نصيحة بريدل بشكل كامل من غير أن نناقش ونتصدى للحال التي آل إليها الإنترنت. ومع أن بريدل محق في وصف حياتنا بالصعوبة إذا ما تخلينا عن الإنترنت، إلا أنه يقع أحياناً في نوع من الحتمية والتفاؤل الساذج. فهو يقول أننا لا نستطيع فكاكاً من الانترنت وصورته الحالية التي معنا وهذه هي الحتمية. أما تفاؤله المبالغ فمكمنه في أنه يرى أننا بمجرد أن نفكر في الانترنت بشكل مختلف فإننا نستطيع التحكم بالنهايات المأساوية لمجتمعنا التي سيتسبب بها الإنترنت.

إن مشكلة الإنترنت هي أنه ليس شيئاً افتراضياً أو رقمياً وحسبُ، ولا حتى بالدرجة الأولى؛ فإنه ليس متاحا إلا عبر شبكة واسعة من الأسلاك التي تخترق المحيطات، والعمارات المرعبة التي تشق السحاب، ومجمعاتٍ ضخمةٍ للبيانات والمعلومات التي تحتاج قدراً من الطاقة يوازي ما تحتاجه مدن بأكملها. كل هذه البنى التحتية رؤوس أموال لحكومات ومؤسسات كبيرة، وهي تنتظر جني أرباحها يوم حصادها. قد قدم لنا بريدل وكذلك الكاتب انجريد بَرينجتون خدمة عظيمة بتصويرهما وتفسيرها للطبيعة المادية للبنى التحتية التي يتأسس عليها الانترنت. ويعرض بريدل كذلك العائدات المادية الضخمة التي تحفز الاستثمار المستمر في تنمية الانترنت وتطويره. فهو يقول في كتابه: “لا يمتد سلطان الامبراطوريات بامتداد أراضيها كما في السابق، ولكن بامتداد البنى التحتية التي تمتلكها، وتغذي قوتَها ونفوذَها الآنَ شبكاتُ المعلومات”.

لكن مع الأسف فإن بريدل لا يلتزم بلوازم  كلامه حتى منتهاه. إذ أن القوة لا تستلب بمجرد التفكر والنظر، بل بالعمل الجاد. إن تكن البنى التحتية للإنترنت تديرها مطامع لإمبراطورية بنَت مجدها باستغلال السواد الأعظم من الإنسانية واستنزافه، فكيف لنا أن نرجو من الانترنت أن يعمل لصالح  نفس المستضعفين ولأجلهم؟!

إن كل الدعوات لوضع الانترنت تحت تصرف العامة، أو المطالب التي تدعو إلى حيازة الجماهير للتحكم به، قد تبدو غير واقعية من اللمحة الأولى، ولكنها – على الأقل- تعرضت لهذه المواضيع. إنه لمن المخيب للآمال أن لا يحاول الكتاب الذي كان واضحاً تماماً بشأن النهايات المأساوية التي تنتظر الحضارة البشرية، أن لا يحاول حل هذه المشكلة. لعل تصور نهاية العالم أقرب لعقولنا من تصورنا نهايةَ الانترنت، لكن الكتاباتِ التي ستبنى على عمل بريدل بهذا الشأن لا مناص لها من أن تنظر في السؤال الذي رغب عنه بريدل وأبى طرحه وهو: إما أن يكون السبيل الوحيد لإنقاذ الإنترنت وكوكبنا هذا، هو أن نبسط سيطرتنا على بنيته التحتية (من مراكز تجميع البيانات وصولاً إلى مفاتيح الكهرباء) وننتزعها من القوى التي تحكمها حتى لا يكون الإنترنت إلا وهو يخدم العدل والمساواة، أو أن يكون واقع الأمر أن من مصلحة البشرية أن ندمر الانترنت كلياً!

المصدر
theintercept

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى