- جايسون ليندر*
- ترجمة: د. حصة بنت عبدالله السنان
- تحرير: إيثار الجاسر
نقاطٌ أساسيَّة:
– صار التَّيقُّظ الذِّهنيُّ ممارسة مبالغ في تقديرها، وأُسيء فهمها، وأُفرِط في تسليعها.
– الآثار الصِّحِّيَّة الموثَّقة لهذه الممارسة مبالغ في تقديرها، وعدد محدود من المختصِّين في مجال الصِّحَّة النَّفسيَّة يتحدَّث عمَّا لا يُعرف، أو عن سلبيَّات لهذه الممارسة.
– ثمَّة طرائق أخرى لتسكين النَّفس وتهدئتها، ليست ممارسة التَّيقُّظ الذِّهنيِّ إلَّا واحدة فقط.
لأبدأ بالتَّصريح عن هذا: إنَّني من أشدِّ المعجبين بممارسة التَّيقُّظ الذِّهنيِّ، لقد مارسته أكثر من عشر سنوات وقرأت كثيرًا من الكتب والمقالات عنه، كما أنَّ لي مدوَّنة عن التَّيقُّظ الذِّهنيِّ على موقع (Psychology Today)، وأعتقد جدًّا بأنَّه الثَّورة القادمة في مجال الصِّحَّة. كما أنَّني أستخدمه دوريًّا بانتظام في تدريسي، وعلاجي مع المراجعين، وفي مجالات مهنيَّة أخرى. ومع ذلك، فقد حان وصار لازمًا أن نقرَّ بأنَّ التَّيقُّظ ممارسة قد بولِغ في تقديرها.
منذ عام 2000م على وجه الخصوص، ملأ الحديث عن التَّيقُّظ الذِّهنيِّ وسائل الإعلام العامَّة، والأدبيَّات العلميَّة [انظر إلى الرَّسم البيانيِّ أدناه]، وأصبح هو المتن بعدما كان هامشًا، وصار يشار إليه في كثير من الأحيان على أنَّه بديلٌ للعلاج النَّفسيِّ، وعاملٌ لتحقيق المرونة النَّفسيَّة، وسيلة رفاه للشَّركات، وطُبِّق على نطاقٍ واسعٍ كممارسة تعليميَّة (Van Dam et al., 2018). كثير من وسائل الإعلام ذات الشَّعبيَّة قد أخفقت في عرض الاختبار العلميِّ للتَّيقُّظ الذِّهنيِّ بدقَّة، وأطلقت تأكيدات مضخَّمة عن فوائده المحتملة والحالات الَّتي تفيد من استخدامه، حتَّى كانت ممَّا وُصِفَ به التَّيقُّظ الذِّهنيُّ بأنَّه ترياق للألم، بغضِّ النَّظر عن الحقيقة الَّتي مفادها بأنَّ التَّيقُّظ الذِّهنيَّ لم يُطوَّر أصلًا لمداواة الأوجاع والأمراض.
ومع تزايد توغُّل التَّيقُّظ الذِّهنيِّ حتَّى ليُوشِك أن يدخل في كلِّ مجالٍ من مجالات العلوم المعاصرة، تنامى تصوُّر خاطئ عن ماهيَّته [أدبيَّات التَّيقُّظ الذِّهنيِّ حتَّى يومنا هذا لا تحتوي على تعريف واضح وثابت له؛ انظر Van Dam et al., 2018]، من الَّذين يفيدهم؟ كيف يؤثِّر على العقل والجسم والدِّماغ. إنَّ المعلومات الخاطئة مع منهجيَّة ركيكة قد تضر أو تضلِّل، أو -على أقلِّ تقديرٍ- تحبط النَّاس (Van Dam et al., 2018).
وفقاً لتوجيهات (NCCIH) المركز القوميِّ للرِّعاية الصِّحِّيَّة البديلة والتَّكامليَّة في (NIH) المعاهد القوميَّة للصِّحَّة، فإنَّ أكبر الأضرار المحتملة لعلاجات الصِّحَّة النَّفسيًة -والتَّيقُّظ الذِّهنيُّ أحد هذه العلاجات- تتمثَّل في ادِّعاءات لا أساس لها عن فوائد هذا العلاج، بدون معرفة لآثاره العكسيَّة.
لقد أُغفِلت، إلى حدٍّ كبير، مسألة أنَّ التَّيقُّظ الذِّهنيَّ أو غيره من الممارسات المتعلِّقة بالتَّأمُّل، قد كان لها من بالغ الأذى ما جعلها تتطلب علاجًا إضافيًّا أو عناية طبِّيَّة، رُصِدَ هذا في أكثر من عشرين (تقرير حالة) منشور، أو دراسات (رصد ومتابعة حالة) (Davidson & Kaszniak, 2015).
وحتَّى تاريخ كتابة هذا المقال، فإنَّ الإرشادات الإكلينيكيَّة -الرَّسميَّة- المتعلِّقة بمدى مخاطر الممارسات الَّتي لها علاقة بالتَّأمُّل من الممارسات الَّتي تستهدف التَّداوي، ما زالت في مهدها، ولم يُصدِر سوى عدد قليل من المنظَّمات والهيئات التَّنظيميَّة بياناتهم بهذا الشَّأن. فقد أوردت الرَّابطة الأمريكيَّة لعلم النَّفس توصيفات حول ما ينتج عن التَّأمُّل من أعراض انفكاك المرء عن سماته الشَّخصيَّة (depersonalisation)، ومشاكل إكلينيكيَّة أخرى، أو موانع استعمال واشتراطات تمنع هذه الممارسات لأسباب طبِّيَّة، كلُّ ذلك أوردته الرَّابطة في الإصدارين الرَّابع والخامس من دليلها (الدَّليل التَّشخيصيُّ والإحصائيُّ للاضطرابات العقليَّة) (APA, 2000, 2013).
تنصُّ (NIH المعاهد القوميَّة للصِّحَّة) على أنَّ “التَّأمُّل يمكن أن يسبِّب مشكلات نفسيَّة معيَّنة أو أن يزيدها سوءًا” ولكنَّها لا توفِّر أيَّ إرشادات للممارسة سوى صيغة رسميَّة متداولة لإخلاء المسؤوليَّة: “استشر طبيبك” قبل أن تجرب التَّأمُّل (NCCIH, 2016). لذا، فهذا يعني أنَّ وسائل الإعلام والمختصِّين بالصِّحَّة يؤيِّدون هذه الممارسات بشدَّة، وهي لم تُفحَص وتختبر كما يجب.
تعتبر وثيقة (Mindfulness-Based Cognitive Therapy) مصادر تطبيق العلاج المعرفيِّ الَّذي يعتمد على التَّيقُّظ الذِّهنيِّ واحدة من أوائل الوثائق الَّتي تسرد المخاطر المحتملة، للتَّيقُّظ الذِّهنيِّ، على المشاركين، وتشمل هذه المخاطر: زيادة احتماليَّة الانتحار، الاكتئاب، مشاعر سلبيَّة، استرجاع الأحداث في الذَّاكرة، لمن قد تعرضوا في ماضيهم لصدمة. في الوقت الحاضر، اقتصرت إستراتيجيَّات إدارة المخاطر المحتملة، إلى حدٍّ كبيرٍ، على الاستبعاد والموافقة عن وعي.
قام كلٌّ من مركز التَّيقُّظ الذِّهنيِّ في جامعة ماساتشوستس و مركز أكسفورد للتَّيقُّظ الذِّهنيِّ بنشر معايير الاستبعاد الموصَّى بها لممارسات تقليل الضُّغوطات، الَّتي تعتمد على التَّيقُّظ الذِّهنيِّ (MBSR) و(MBCT)، وكلا الممارستين تستبعدان من له ميول انتحاريَّة حاليَّة و/أو يعاني من أيِّ اضطرابٍ نفسيٍّ حاليٍّ. من الواضح أنَّ المخاطر المحتملة لهذه الممارسات المعتمدة على التَّيقُّظ الذِّهنيِّ قد قُلِّل من شأنها، وأنَّها لا تزال غير مدروسة، في حين أنَّ احتماليَّة فعاليَّة هذه الممارسات في العلاج والقضاء على الألم قد ضخمت بشكل مؤسف. إنَّ تلك مخاطر الكبرى لم تأخذ حقَّها من العناية، ويمكن أن تعرض النَّاس للخطر.
متى تصحُّ لك ممارسة التَّيقُّظ الذِّهنيِّ؟ وكيف لك أن تعرف؟
على الرَّغم من المخاطر المذكورة أعلاه، فما تزال ثمَّة فوائد عديدة موثَّقة للتَّيقُّظ الذِّهنيِّ، ولكن، وكما يقول المثل: “إذا كانت لديك مطرقة فقط”، فإنَّ كلَّ شيء سيبدو لك وكأنَّه مسمار. في الواقع أنَّنا نحتاج أدوات عدَّة في: صندوق أدوات الصِّحَّة النَّفسيَّة، لمختلف المواقف والأوضاع الَّتي نتعرَّض فيها للضُّغوطات، والَّتي تلقيها الحياة في طريقنا. ماذا عن المنشار، مفكُّ البراغي، أو الزَّرديَّة؟ أحد العوامل المساهمة في هذا الوضع هو أنَّنا نعيش في بلد استهلاكيٍّ رأسماليٍّ أفرط في تسليع هذه الممارسة، وشُوِّهت بعض أصولها. لا يتحدَّث عدد كافٍ من الأشخاص -وخاصَّة أن المختصِّين في مجال الصِّحَّة هم باحثون- عن المخاطر أو موانع الاستعمال أو سلبيَّات الممارسة، على وجه التَّحديد، هم الأنسب لهذه الممارسة، ومتى.
ولذلك، ليست ممارسة التَّيقُّظ الذِّهنِّي مناسبةً في كلِّ وقت وعلى كلِّ حال، كلُّ ممارِس مجرِّب للتَّيقُّظ الذِّهنيِّ من ذوي الخبرة قد جرَّب أن يكون شعوره أسوأ بعد جلسة الممارسة. عادة ما يستدعي التَّيقُّظ الذِّهنيُّ ما يدور في ذهنك أو تعزِّز ما يجري في جسدك. إذا كنت قلقًا بشأن أمر سيحدث في المستقبل، أو لا تستطيع أن تكفَّ عن التَّفكير في موقف قد حصل في الماضي، قد تضخم ممارسة التَّيقُّظ الذِّهنيِّ من قلقك، وارتباكك، ومعاناتك المتعلِّقة بهذا الأمر. وإذا كان الحال كذلك، فإنَّ ثمَّة طرائقَ أخرى لتسكين النَّفس وتهدئتها، غير التَّيقُّظ الذِّهنيِّ؛ ذاك واحد من أدوات كُثُر في هذا الباب. ولعلَّه يصحُّ هنا، أكثر ما يصحُّ، قولهم: “خير الأمور أوسطها”؛ فالإفراط حتَّى في النَّافع من الأشياء قد يضرُّ، فلا يخفى على أحدنا ما للإفراط في شرب الماء من سلبيَّات، أو مضار النَّصيحة الغذائيَّة بالاقتصار على الأكل النَّباتيِّ لمن يعاني من سوء تغذية.
خاتمة
حتمًا قيل لك من بعضهم أن تتعلَّم التَّيقُّظ الذِّهنيَّ من خلال تطبيق (app)، أو أن تمارس التَّأمُّل أكثر عندما تكون مشاعرك سلبيَّة، أو إذا ما كنت تحت ضغط، أو كنت متوتِّرًا أو قلِقًا. هذا، وقد أصبح التَّيقُّظ الذِّهنيُّ، فيما يبدو، جزءًا من العديد من العلاجات النَّفسيَّة، ومع ذلك، فإنَّ ممارسة التَّأمُّل والتَّيقُّظ الذِّهنيِّ هي واحدة من عدَّة أدوات وممارسات وإستراتيجيَّات لتعزيز التَّعافي، والوعي، والهدوء. ومن الأهميَّة بمكان أن يكون عندك وسائل أخرى في صندوق الأدوات، وأن تعرف متى يصحُّ لك أن تتعلمها أو أن تمارسها، ومتى لا يصحُّ. كما من المهم أن نفهم المخاطر، وألَّا نبالغ في تقدير المنافع المحتملة حتى يُثبتها إثبات رصين.
ممارستك للتَّيقُّظ الذِّهنيِّ عندما لا تكون مُهيَّأً له ذهنيًّا أو نفسيًّا، أو عندما يكون ما تحتاج إليه قيلولة أو غفوة، أو طعام، أو يكون كلُّ ما في الأمر أن تعمل، أو إجراء محاورة مهمَّة مع من تحب؛ فإذا مارست التَّيقُّظ في هذه الحال فإنَّ ذلك حريٌّ أن يُنشِئ صعوبات أكثر من تلك الَّتي كنت تحاول التَّخفيف من حدِّتها.
- جايسون ليندر: دكتوراة في علم النفس الإكلينيكي.
مراجع
- American Psychiatric Association. (2013). Diagnostic and statistical manual of mental disorders (5th ed.) Washington, DC.
- Kuyken, W., Crane, W., & Williams, J. M. (2012). Mindfulness-based cognitive therapy (MBCT) implementation resources. Oxford, England: Oxford University.
- National Institutes of Health. (2016). Adverse event and serious adverse event guidelines OHRP guidance on reviewing and reporting unanticipated problems involving risks to subjects or others and adverse events, OHRP guidance. Bethesda, MD: National Institutes of Health, Office for Human Research Protections, U.S. Department of health and Human Services.
- Davidson, R. J., & Kaszniak, A. W. (2015). Conceptual and methodological issues in research on mindfulness and meditation. American Psychologist, 70, 581–592. doi:10.1037/a0039512