- ماسيمو بيليوتشي*
- ترجمة: غفران فراج
- تحرير: فائز بن شنيف
إذا كان هناك مفهومان يجب أن يكونا على النقيض تماما فهما العلم والأساطير. فالعلم رغم كل شيء، بدأ مع فلاسفة ما قبل سقراط[1]، الذين اتخذوا خطوة واعية جدا في رفض النظرة العالمية للشعراء لأناس مثل هوميروس[2]، وهسيود[3]، لصالح النظر إلى الكون كظاهرة طبيعية، يمكن على الأقل أن يفهمها العقل البشري.[4]
نطرح على سبيل المثال الفيلسوف اليوناني زينوفان في الفترة من 475 – 570 قبل الميلاد، كان الفيلسوف الأول الذي هاجم صراحة سلطة الشعراء، كما تم سرد ذلك بشكل جيد في الفلسفة الكلاسيكية للكاتب “بيتر آدمسون” بالمجلد الأول من كتابه “تاريخ الفلسفة بدون أي فجوات“. وبعيدا عن كون الإله هو المحرك للكون فقد اعتقد زينوفان أن الآلهة مصنوعة على صورة إنسان. وهكذا لم تخسر طروادة حربها ضد الإغريق لأن الآلهة انقسموا كما يبرر آدمسون ولكن بسبب الاختيار غير الحكيم لأفروديت[5] كأجمل آلهة (ومن ثَمّ تفوقت على المنافسين الآخرين، هيرا[6) وأثينا[7]). إنما خسروا لأسباب اقتصادية وعسكرية تتعلق بالموقع الجغرافي الاستراتيجي لمدينة طروادة في آسيا الصغرى.
اليوم، نعلم أنه بالطبع لم تكن هناك حرب واحدة على طروادة بل الكثير، حيث اكتشف علماء الآثار بقايا تسع طبقات مختلفة من المدينة، شملت حرب طروادة الأولى من الألفية الثالثة قبل الميلاد إلى عام 85 قبل الميلاد. من المفترض أن الأحداث الأسطورية التي يشير إليها هوميروس حدثت في حرب طروادة السابعة، نحو عام 1200 قبل الميلاد.
فالعلم نشاط بشري، وهو على هذا النحو بحاجة إلى أبطال وأشرار مثلما فعل الإغريق القدماء. بعبارة أخرى يأتي العلم مصحوبا بالأساطير.
ولنأخذ على سبيل المثال إسحاق نيوتن[8]، الذي يمكن القول إنه أحد أشهر العلماء في كل العصور، وبطل علمي حقيقي. فقد سمع مُعظم الناس عن كيفية حصوله على فكرة جوهرية لطبيعة الجاذبية عندما سقطت تفاحة من الشجرة فوق رأسه. تلك القصة ملفقة، على الرغم من مزاعم صحة أن نيوتن كتب لصديقه ويليام ستوكلي[9] أنه كان في حالة مزاجية تأملية، بعد العشاء مستظلا بشجرة تفاح، وأنه بدأ يفكر في الجاذبية حين سقطت واحدة من التفاحات نحو الأرض.
والأكثر إشكالية، أن نيوتن كان شخصا سيئا نوعا ما، حيث كان متورطا في الجدل مع جوتفريد فيلهلم لايبنتز[10] بخصوص اكتشاف حساب التفاضل والتكامل. ففي عام 1711، نشرت الجمعية الملكية تقريرا يتهم لايبنتز بالسرقة العلمية. حيث اتضح فيما بعد أن التقرير كتبه نيوتن نفسه، وهو ما يعد خطوة غير أخلاقية. ويتفق المؤرخون المعاصرون على أن لايبنتز ونيوتن توصلا إلى فكرة حساب التفاضل والتكامل بشكل مستقل.
وأنت تعرف عبارته الشهيرة، “إذا كنتُ قد رأيتُ أكثرَ من غيري، فذلك يرجع إلى وقوفي على أكتاف العمالقة الذين سبقوني”، تبدو العبارة في ظاهرها إعلان تواضع، لكنه كتبها في رسالة إلى منافس آخر له، هو روبرت هوك[11] الذي كان قصيرا وأحدبا، ربما ليسخر من حالة هوك الجسدية.
بالطبع لا شيء مما سبق ينفي إنجازات نيوتن المذهلة. فقد وضع نشاط العلم في منظور أكثر إنسانية وأقل أسطورية. فكأنه يقول لنا ليس في العلم أبطال ولا أشرار، بل بشر.
في عالم الفيزياء هناك أسطورة أخرى تتعلق بالتجربة الشهيرة التي أجراها جاليليو جاليلي[12] من برج بيزا المائل. تقول القصة إنه أسقط ثقلين من مواد وكتل مختلفة ليظهر أن الوقت الذي استغرقاه للوصول إلى الأرض كان مستقلا عن الكتلة، وبالتالي يتناقض مع نظرية أرسطو التي كانت راسخة لمدة طويلة. لكن جاليليو لم يقم بهذه التجربة أبدا، حيث يتفق معظم المؤرخين على أن الأمر كان تجربة فكرية.
تم إجراء “التجربة” في النهاية، بواسطة رائد فضاء أبولو 15 ديفيد سكوت، في عام 1971، على سطح القمر، حيث لا يوجد غلاف جوي، وبالتالي ليس هناك احتكاك، مما أعاق إجراء القياسات الدقيقة. لكن بحلول ذلك الوقت كانت عبارة عن مظاهرة وليست تجربة، حيث لم يتوقع أحد أن يكون جاليليو مخطئا.
تعود جذور أسطورة العلم الحديثة إلى الفلسفة. يبدو أن عددا مذهلا من العلماء البارزين يعتقدون أن ما يميز النظريات العلمية الجيدة عن النظريات العلمية الرديئة هو قابليتها للدحض، وهو مصطلح قدمه الفيلسوف كارل بوبر[13] في كتابه درس القرن العشرين.
كان بوبر مهتما بما يسمى مشكلة ترسيم الحدود، وكيفية التمييز بين العلمي وغير العلمي، وخاصة في العلوم الزائفة. لقد اعتقد أنه توصل إلى إجابة منظمة وعملية: “لكي تُعتبر النظرية أو الفرضية علمية، يجب أن تكون قابلة للدحض” بمعنى أنه يجب أن تكون هناك طرق تجريبية يمكن من خلالها إثبات أنها خاطئة إذا كانت في الواقع خاطئة. ووفقا لـبوبر، لا يمكن أبدا إثبات صحة النظريات العلمية بشكل نهائي مثل النظريات الرياضية. يمكن للمرء أن يقول فقط إن نظرية معينة لم يتم دحضها بعد؛ وهذا قد يتغير في أي يوم.
ميكانيكا نيوتن، على سبيل المثال، صمدت من القرن السابع عشر وحتى القرن التاسع عشر لكن بعد ذلك، تبين أن نظرية النسبية العامة لأينشتاين[14] هي تقريب أفضل بكثير للواقع، انقرضت نظرية نيوتن. في الواقع أن نظرية نيوتن لم تنقرض تماما، نظرا لأن التقديرات النيوتونية أكثر من جيدة بما يكفي لاستخدامها في العديد من التطبيقات العملية.
كانت مشكلة الحل الذي قدمه بوبر لترسيم الحدود بين العلم والميتافيزيقا هي أنه بينما كانت النظرية منظمة حقا، إلا أنها لم تكن عملية على الإطلاق، على الأقل في شكلها الذي قدمه بوبر، كما أدرك هو والفلاسفة الآخرون ذلك سريعا. ويمكنك أن تأخذ علم التنجيم مثالا جوهريا على العلوم الزائفة. حيث إن ادعاءاته قابلة للدحض بشكل واضح، وقد تم دحضها بالفعل مرارا وتكرارا. ومع ذلك، لا يزال علم التنجيم زائفا وليس علما حقيقيا.
وعلى النقيض من ذلك، فإن نظرية الأوتار الفائقة -المثيرة للجدل والمرشحة حاليا لتوحيد النسبية العامة وميكانيكا الكم- ليست قابلة للدحض. أو على الأقل، لا أحد يعرف كيفية دحضها. ومع ذلك، لا يجعلها هذا علما زائفا على الرغم من أنه يجعلها علما مشكوكاً فيه، أو الأفضل من ذلك، ميتافيزيقيا بمسحة علمية.
إن ما يسمى بـ “حروب الأوتار” بين هؤلاء الفيزيائيين الذين يدعمون نظرية الأوتار باعتبارها أكثر الطرق الواعدة للمضي قدما، وأولئك الذين يعتقدون أنها طريقٌ مسدود جزئياً، يعتمد على فكرة العلماء الجزئية العتيقة، ومن المذهل أن المفهوم الذي يطلق عليه الفلاسفة “قابلية الدحض” هو معيار مفيد لفصل العلم الجيد عن الرديء. لكنه ليس دليلا قويا على تضمين مصطلح ساذج.
إليكم أسطورة أخرى تحظى بشعبية كبيرة بين العلماء. حيث سمعت أكثر من مرة زميلي ريتشارد دوكينز[15] يقول: إن العالم الجيد لا يرغب في شيء أفضل من أن يظهر على أنه خطأ، لأن هذه الطريقة هي ما تحرز بها البشرية تقدما في سعيها إلى الحقيقة. وأعتقد أن دوكينز لم يتجول لفترة من الوقت في المختبر، لأن هذا بالتأكيد لا يفعله العلماء أغلب الوقت. وعلى النقيض من ذلك، هناك الكثير من الأدلة القصصية والمنهجية من علم اجتماع العلم على أن العلماء مثل أي إنسان آخر: عنيدون، يبحثون عن المجد، والمال، والجنس (ليس بالضرورة بهذا الترتيب)، و بكل تأكيد هم غير سعداء للغاية عندما يتبين أنهم مخطئون. لدرجة أن الفيزيائي ماكس بلانك[16] قال في مقولة شهيرة: “الحقيقة العلمية الجديدة لا تنتصر بإقناع خصومها وجعلهم يرون النور، بل لأن خصومها يموتون، وينمو جيل جديد يتأقلم مع ذلك” (في كتاب: سيرة ذاتية علمية وأوراق أخرى، 1948، ترجمة فرانك جاينور). بعبارة أخرى، العلم يحرز تقدما كل مرة في كل جنازة، خاصة إذا كانت الجنازة لعالم بارز للغاية، وبالتالي فهو مؤثر.
ذلك يقودني إلى أكبر أسطورة وأكثرها خطورة على الإطلاق: أن العلم غير مبني اجتماعيًا. فقبل أن تصل إلى سلاحك المناهض لما بعد الحداثة، دعني أضيف أنني لا أذهب إلى طريق بعض الفلاسفة وعلماء الاجتماع الراديكاليين في التسعينيات، الذين انخرطوا فيما يسمى بحروب العلوم من خلال الادعاء بأن المعرفة العلمية مبنية بشكل كبير أو حتى كلي على أساس اجتماعي.
فبدلا من ماركوس أوريليوس[17] أنا أنحاز إلى فلاسفة أكثر تفكيرا مثل هيلين لونجينو ورونالد جيري[18]، الذين جادلوا بأن العلم لم ولن يحقق أبدا وجهة نظر من العدم، أي الموضوعية العالمية، وذلك لأن العلم نشاط بشري، يقوم به البشر، ويتأثر برغبات واحتياجات الإنسان، كما يسعى لتحقيق مصالح الإنسان. وبغض النظر عن التظاهر بالتحليل النزيه من قبل العديد من العلماء والكتب المدرسية العلمية فإن الأمر لا يقتصر على عدم وجود خطأ، بل لا توجد طريقة أصلا لتجنبه.
إن الاعتراف بالعنصر البشري في المشروع العلمي له عدد من النتائج العملية. اسمحوا لي أن أتحدث بإيجاز عن اثنين: النتيجة الأولى أشارت إليه لونجينو بقولها العلم يحقق مكاسب من التنوع. فعلى سبيل المثال عندما أصبحت النساء والأقليات جزءا مهما من مجتمع البحث الطبي، تحول التركيز بعيدا عن افتراض أن صحة الرجال البيض في منتصف العمر كانت بحكم الواقع ممثلة لصحة النساء والسود والأطفال وما إلى ذلك. هذا مثال جيد على حقيقة أن العلم – الذي يقوم به البشر – يعكس مخاوف وافتراضات وتحيزات وتصورات مسبقة لدى البشر الذين يقومون به. وعند توسيع وتنويع المجموعة، سيبدأ ذلك التحيز في التوازن من خلال التحيزات المضادة، مع تحقيق نتائج أفضل للجميع.
والنتيجة الثانية التي ناقشها جيري، تؤثر في طريقة تفكيرنا فيما يفعله العلم، وكذلك ما نعنيه بالحقيقة. فعلى الرغم من عدم وجود شيء يسمى وجهة النظر، فإن ما يفعله العلم هو السماح لنا بالنظر إلى جانب معين من العالم من مجموعة متنوعة من وجهات النظر، خاصة في حالة المناهج متعددة التخصصات. فأنا كعالم أحياء تطورية، اهتمامي ينصب على كشف الحياة على الأرض.
الفهم الأفضل للتطور على مدى العقدين الماضيين نتج عنه تبني عدد من وجهات النظر التي ندرس من خلالها الظاهرة. فلدينا وجهة النظر التي يوفرها علم البيئة، ووجهة النظر الجزيئية الحيوية التي هي مجال علم الأحياء الجزيئي، ووجهة النظر الأساسية للفيزياء والكيمياء، ووجهة النظر المعلوماتية لعلوم الكمبيوتر، والجيولوجية لعلم الحفريات، وما إلى ذلك.
لكن أياً من هذه الأساليب في حد ذاتها، لا تجلب لنا الحقيقة كما أنها لا تفعل ذلك عندما تكون مجتمعة. فالشيء في ذاته، كما وصفه إيمانويل كانط[19] بالألمانية (ding an sich) بعيد المنال. وبمجرد أن نقبل هذه الفكرة فإنها في الواقع ستحررنا. العلم يتعامل إذن مع ما وصفه كانط بمجموعة الظواهر التي يُفترض أنها نتيجة التفاعل بين العالم كما هو ووسائلنا المختلفة للبحث التجريبي. إذا كان هذا لا يبدو جيدًا بما يكفي بالنسبة لك فهناك احتمال واضح بأنك تسعى وراء العلم باعتباره أسطورة، وليس حقيقة. لكن إذا أخذتَ على محمل الجد الخطوة التي قام بها كزينوفانيس وآخرون قبل سقراط ، فسوف تكون سعيدا بالابتعاد عن الأساطير والانطلاق للقيام بعمل حقيقي.
- ماسيمو بيليوتشي أستاذ الفلسفة بكلية مدينة نيويورك، تدور أعماله حول علم الأحياء التطوري، وفلسفة العلوم، وطبيعة العلوم الزائفة.
[1] فيلسوف يوناني عاش تقريبا في الفترة من 399-470 قبل الميلاد.
[2] شاعر إغريقي عاش في القرن التاسع قبل الميلاد من أشهر أعماله الأدبية الإلياذة والأوديسة.
[3] شاعر إغريقي عاش في القرن الثامن قبل الميلاد.
[4] ظاهر كلام الكاتب هنا يعني أن هناك قطيعة حدثت بين العلم اليوناني والميثولوجيا اليونانية، وهي مسألة محل نقاش، ولا يمكننا الجزم بهذا الأمر خصوصا وأنه من غير الممكن أن ينفصل العلم عن الدوائر الاجتماعية الأخرى، كما لا يمكن إهمال السياق الميثولوجي للعلم اليوناني وتأثيره فيه. -الإشراف.
[5] آلهة الحب في الأساطير اليونانية تعالى الله عن كل شريك وند.
[6] آلهة في التاريخ الإغريقي تعالى الله عن كل شريك وند.
[7] آلهة الحكمة الإغريقية تعالى الله عن كل شريك وند.
[8] عالم فيزياء إنجليزي توفي عام 1727م.
[9] طبيب وعالم آثار توفي عام 1765م.
[10] عالم ألماني متخصص في الرياضيات توفي عام 1716م.
[11] فيلسوف ومعماري إنجليزي توفي في عام 1703م.
[12] عالم فلك إيطالي توفي في عام 1642م.
[13] فيلسوف نمساوي توفي عام 1994م.
[14] عالم فيزيائي ذو أصول ألمانية توفي عام 1955م.
[15] عالم أحياء والمبشر الأول تقريبا للإلحاد الجديد.
[16] عالم فيزياء ألماني توفي عام 1947م.
[17] إمبراطور وفيلسوف يوناني توفي في نهاية القرن الثاني الميلادي.
[18] أظن هيلين ورونالد فيلسوفيْن معاصرين.
[19] فيلسوف ألماني توفي في بداية القرن التاسع عشر الميلادي.