عثمان العمودي
(جوهرٌ سيَّالٌ مرطِّبٌ به قوام الحيوان ووزنه)، (جوهرٌ سيَّالٌ لطيفٌ متخلخل، يزول به العطَش)، (جوهرٌ سيَّالٌ به قوام الأرواح، وزوال العطش). هذه بعضُ محاولات المتكلِّمين في تعريف (الماء)! ولم يسلم أحدُ هذه الحدود من الإيراد، ومثل الماء لا يفتقر إلى تعريف.
غير أن هذه الحدود -كما ترى- لم تكتف بوصف الماء بالجوهرية والسيَلان، بل أتبعَته بقيود من قبيل: (به قوام الحيوان)، (يزول به العطش) ونحو ذلك؛ وذلك لأنَّ من الجواهر السيَّالة ما لا تقوم به الأرواح، ولا يروى به العطاش، وإن كان يتلوَّن وينماع ويتشكَّل بشكل إنائه! ودعني أحدِّثك عن واحدٍ منها.
صاحبُنا جوهرٌ سيَّالٌ بطبعِه، يتزيَّا بزيِّ الإسلام والإيمان، ويرتدي ثياب العلم والدعوة، ويقف مستظلاً براية الشريعة الخفَّاقة، يزمجر بأحوال المسلمين طورًا، ويندب سوء الأوساط العلمية تارةً، ويقتبس من نقولات الأئمة التي لم يتكلَّف فتح كتابٍ للبحث عنها، بل أغار على حسابٍ مغمور -كما أغار الفرزدق على بيتِ جميل- فاختطَفها منه، وربَّما اجتزأ صاحبُنا مقطعًا لأحد العلماء أو الوعاظ، وسعى في ذلك سعيًا حثيثًا… وظلت هذه حاله حتى حصد بعض الأرقام في صفوف متابعيه، واتَّسعَت رقعةُ علاقاته الاجتماعية بالمشهورين عند الناس، ورأى رأسَ ماله يربو وينمو بين يديه، وكلَّما ارتفَع ذكرُه بين الناس ورأى كلامه يُنشَر ويُعاد منسوباً إليه، برقَت عينُه وانتشى فؤادُه واختلجَت سريرتُه.
كان يعرف صاحبُنا المقولةَ المشهورة عند أهل الفقه والاقتصاد والتجارة: (الربحُ وقايةٌ لرأس المال)، ولعله كان لا يعرف معناها، أو أنه دخل سوقًا لا يعرفها تجار البضائع، وذلك أنَّ صاحبنا لما ارتفعَت به الأضواءُ أحسَّ ببساط التأثير يُسحَب من تحته، فغيَّر جلسته مرارًا لتتمكَّن مقعدته من البساط، وهيهات! فالسوقُ هذه أجنبيَّةُ الزبائن مفترقةُ الأهواء، لا يكاد يرضيهم شيء، على أنَّهم موسرون لا يضرُّهم أن يبذلوا المئات والألوف فيما أعجبهم.. فأخذ يتطلَّب إعجابهم بشتى الصنوف والطرق، وصار إذا نقل ينقل الغريبَ النادر، وإذا أفتى يفتي بالسهل الواسع، وإذا رأى عواطفَهم اهتاجَت لقضيةٍ انبرى مسرعًا يصطاد من مشاعرِهم ما يتهيَّأ له، فأمسى يبكي مع الباكين، ويضحك مع الضاحكين، ويصرخ مع الصارخين، سوى أنهم كانوا يبكون وكان يتباكي، وكانوا يضحكون ويصرخون أما هو فكان يدَّعي الضحك والصراخ… حتى وجد نفسه فقَد رأس ماله التليد، واستبدله بآخرَ طارفٍ يغرُّ الناظرين، ولا فرق عندَه ما دام الربحُ قائمًا!
لم يطُل الوقت بصاحبنا حتى أدرك أنَّه صار جوهرًا سيَّالاً يتشكَّل في إناء الجماهير والمواقف بأكثرَ مما يتشكَّل به الماءُ في الأسقية والزِّقاق، بل جاوز ذلك حتى صار يتبخَّر متى ما أريد له أن يتبخَّر، وأضحَت ثيابُ العلم والإيمان والشريعة -التي كان يلبسها- مفصَّلةً تفصيلاً على (ما يطلبه المستمعون)، و(ما يشتهيه المتابعون).. فنسِيَ ما كان يدعو إليه من قبل!
ولمَّا كانت لصاحبنا صلةٌ بالعلم -وإن كانت بعيدةً- أعانه ذلك على التشبُّث ببعض النصوص التي لا دلالةَ فيها على ما يذهب إليه، وصار إذا أتى منكرًا من القَول وزُورًا يشفَع ذلك بآيةٍ أو حديث، حتى تدثَّر بثوبٍ غريب لا يتَّسق، واختلط بخليطٍ نتنٍ لا ينتظم، ولكن طبيعتَه السائلة يسَّرَت له ذلك، ثم إن زبائن سوقه لا يعجبهم غير هذا الصِّنف، الذي ينماعُ في رغباتهم انمياع الملح، وينساق إلى شهواتهم انسياق الشاء، ويتشكَّل كما يريدون، ويتغيَّر على ما يطلبون، فما أجودَ هذه السلعة!
ومثلُ هذا تجد أعظمَ صفاتِه -وليس فيها عظيم- طولَ أنفه الذي يُحسِن أن يحشره في كلِّ صغيرةٍ وكبيرة، وكيف يقِرُ اسمه في قلوب الناس إلا بمثل هذا؟ فلا يرتفعُ في جديدِ الأنباء خبرٌ إلا وجدتَ لصاحبنا فيه رأيًا سقيمًا، ولا تنزل بأحدٍ من الخلق نازلةٌ إلا ويعرضُ فيها عقلَه على طبقٍ مهترئ، فتراه يعلِّق مرةً على حدثٍ رياضيٍّ أقبل الناسُ عليه، ويدعو حينًا إلى حضور دورةٍ تستهوي قلوب الناس، ويعزفُ تارةً على وتَر العواطف إذا حدث ما يدعو إلى هذا، وإذا فتر الخطُّ الزمني للأحداث، ولم يجد ما يبتدئ فيه الرأي؛ تماجَن وتخالَع بما يجذب انتباه القوم إليه، أو تسلَّط على كلام غيرِه بأنواع التعقُّبات السخيفة التي تُظهِره بمظهر الناقد الحاذق.. فهو لم يقتصِر على وصف السيَلان وحَسب، بل هو (سيَّالٌ ساخن)، دائمُ النشاط، كثيرُ الوصال، واسع الحركة، لا يتكلم إلا متلهِّفا لما بعد الكلام، ولا يتحدَّث إلا مترقِّبًا ما بعد الحديث، والناس تحبُّ -مِن الشَّراب- السائلَ الساخن، وقد تعوَّد صاحبُنا أن ينزل عند رغباتهم.
وقد هيَّأ له الاسمُ المستعار الذي عرفَه به الناسُ أن يتشبَّع بما لم يُعطَ، ويتمثَّل بما ليس هو له بأهل، فأصبح ينتقي من الكلمات ما يضفي عليه سنحةَ الحكيم المجرِّب، ويركب من المراكب ما تضطرب من ركوبه فحول العلماء قديماً وحديثا، وصار يتخوَّضُ دِقاق المسائل بعباراتٍ نحو: (في رأيي)، (الذي أراه)، وإذا ما حُوقِق فيما استبان به جهلُه قال: (هذه مسألة دقيقة لا يفهمها إلا القلة)، (الأمر واسع)، (لعله، لكني أقرر كلام العلماء)، ثم هو أسرع الناس إلى التخلُّص من تلك المضايق بحذقٍ عجيب يثبِّت قدمَه في طريقه الذي اختطَّه من استمالةِ قلوب العامَّة والبحث عن الأضواء الساطعة، ولا غرو فالماء لا يبقى بيد قابض! عفوًا: السائل لا يبقى بيد قابض؛ فليس حظُّ صاحبنا إلا السيَلان.
وهذا الطريق -كما تعلم- يُشفي سالكُه على السقوط في هاوية التناقض والاضطراب والغباوة، فيحتاج قدرًا كبيرًا من اقتناص ثقة الناس ليسلم من بعضِ هذا، وخيرُ ما تُقتَنص به ثقةُ العامة من الناس: البروزُ مع أهل العلم والفضل والاختيالُ بصحبتهم ومجالستهم، فإذا حضر مجلس أحدٍ من العلماء جلس يلوكُ فاه بذلك شهرًا، ولا يتكلم إلا ويَعرِض في كلامه لذلك اللقاء، ولا ترى صاحبَنا بعد تلك الجلسة اليتيمة يسمِّي ذلك العالمَ إلا: (صديقنا أبا فلان)! وإذا أنكرتَ عليه مثل هذا وجدتَ عقلَه أكثفَ من أن يفهم عنك، ورأيته يذكر فضل مخالطة العلماء ومجالستهم، ومحلُّ الإنكار إنما هو في الاختيال بتلك المصاحبة والزهو بها، وهذا وجهٌ خبيثٌ من الرياء أشار إليه أبو حامد الغزالي في «الإحياء» وغيره..
ولا أدري كم مرةً راجعتُ نفسي في تسميته (طالب العلم السيّّال)، فمثلُ هذا يكون أبعد الناس من وصف (طلب العلم)، يُحسِن تعاطي كلَّ شيءٍ إلا العِلم، ومنتهى حظه من التحقيق -إن كان-: الباب الرابع من «كتاب التوحيد»، أو باب إزالة النجاسة في «زاد المستقنع»، وإن اشتدَّ عزمُه في دراسة «بلوغ المرام» فسيبلغ قول النبي صلى الله عليه وسلَّم: (من أتى الغائط فليستتِر)، على أنَّ صاحبنا يأتي غائطَ الكلام والأفعال والأفكار، ثم لا يستِتر!
ومن جهِلَت نفسُه قدرَه
رأى غيرُه منه ما لا يرى!
هذه المظاهر السيَّالة المائعة كلُّها تدعو كلَّ طالب علمٍ إلى التفكُّر في حاله اليوم، فالأضواء البارقة كثيرةٌ خاطفة، والحوامل على السفَه واسعةٌ منتشرة، ولا يمتنع أن يكون بعضُ الناس زئبقًا أخذَ من السيَلان بحظّ، ولذلك فطلبةُ العلم اليوم أحوج الناس إلى مراجعة نياتهم وتعاهد قلوبهم، وهم أولى الخلق باستحضار غاية العبودية العُظمى التي خُلِق لأجلها الخلق، وما يكونُ الرجلُ إن لم يكن عبدًا لله؟!
وإنَّ من أعظم المثبِّتات -والله- كثرةَ التفكر في المآل والعاقبة، وإدامةَ النظر في المصير والخاتمة، واستحضارَ الوقوف بين يدي الله في الدار الآخرة، ومَن عرف حقيقة الدنيا وما جُعِلت فيه من الحقارة والتفاهة هان عليه كلُّ ما يفقد، وبذل لبلوغ الغاية كلَّ ما يجد!
ثمَّ ليعلم كلُّ من وسَم نفسَه بوسام (طلب العلم) ورفَع رايته بين الناس: أن اللائمة تتوجه إليه أكثر من غيره، وأن الذنب في حقه أكبر، والجُرم من جهته أعظم، وهو -إن لم يتق الله- على شفا جرفٍ هار؛ فإن بعضَ الناس يتبعونه اتباعَ النجم السَّاري، فيا لله والأنجمِ المُضِلَّة!
ولا بدَّ لنا أن نعلم -حقَّ العلم- أنَّ سُنَّة الله جرَت بتمييز الخبيث من الطيب، وأن دين الله لا يقوم به إلا الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، القوم الذين لا تلفِتهم الأهواء، ولا تُغريهم الأضواء، ولا يزالون مستهدين بنور الله، معتصمين بكتاب الله، يرجعون على أنفسهم بالتهمة، ويسارعون إلى ربهم بالتوبة، ولا يحيد بهم عن الحق حائد، قال تعالى: ﴿أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [سورة المجادلة: 22]