- منصور الحذيفي
لا أتصور أن هنالك كاتبًا لا يُحدّق بصمت طويل في الأشياء التي يريد الكتابة عنها، حدَّ النفاذ فيها .. إن جزاءَ الصمت الطويل المتأمِّل هو: انهمار الكتابة؛ متى ما وُجدت الموهبة.. مبعثُ هذا المقال هو تساؤلٌ ألحّ عليّ وأنا في السيارة -وما أكثر الأفكار التي تُولد في السيارة-، ذلك التساؤل هو: كيف أُنمّي الحسّ الأدبي أو الكتابي في نفسي؟ هل بإمكاني أن أجعل قلبي متيقظًا لكل لمحة إلهام حولي؟! وما الإلهام؟ تقول الكاتبة هيلاري مانتل: “في رأيي: الإلهام هو اليقظة الدائمة والبقاء في حالة ترقب للمادة التي تكتسبها ليلاً أو نهارًا، في النوم أو اليقظة”.
الكتابة نفسها قد تأخذك إلى الإلهام، فلا تيأس وأنت تسير في دروبها من أن تُشرق في أفقك فكرةٌ ملهمة؛ لأنك بالكتابة تستحث الإرثَ الكامن في نفسك لكل السنوات التي مضت من عمرك، بما فيها من خبرات وتجارب وقراءات، وفكرة واحدة من ذلك الإرث قد تكون السبيكة الذهبية التي تُثري مشروعك الكتابي، حين تقتنع أن نفسك هي منجمك الأَولى بالتنقيب والاستكشاف !
وُلد هذا السؤال وأنا أحدّق في شجرةٍ أمامي، يُحرك الهواء أغصانها وأوراقها، وتُحلّقُ الطيور حولها، فقلت: هل يستحقّ هذا المنظر التأمل والنفاذ فيه؟ فضلًا عن الكتابة عنه؟ وماذا يمكن أن أكتب عنه؟
حقًا إن في الحياة ما يستحق منا أن نتيقظ له أشدَّ ما تكون اليقظة حسًّا وعقلًا؛ لتلقّي فيوضه وإلهامه. كنتُ أقرأ للمرأة الأعجوبة هيلين كيلر كتابها الصغير العميق: “لو أبصرتُ ثلاثة أيام”، وهي لمن لا يعرفها: امرأة أُصيبت بمرض في عمر ١٩ شهرا، أفقدها سمعها وبصرها، فنشأت في الظلام والصمت، ولكن الله سخّر لها معلمةً صبورة دؤوبة، أخذت بيدها إلى العلم، وأضاءت لها شيئا من تلك العتمة المخيمة داخلها، حتى أصبحت في أوج مجدها تُحاضر وتُلهم الملايين في أنحاء العالم.. كتبت كيلر هذا الكتاب، وبَنته على هذه الفكرة الرائعة: ماذا لو أبصرت ثلاثة أيام؟ قالت:
“لقد كان يلذّ لي أحياناً أن أسأل رفاقي الذين يبصرون، وقد زارتني في الأيام الماضية صديقةٌ من أعز صديقاتي كانت قد رجعت لتوها من جولة لها طويلة في إحدى الغابات المجاورة، سألتها ماذا رأت وماذا لاحظت؟ فكان جوابها بالحرف “لا شيء يستحق الذكر!!” ولو أنني لم أكن معتادة على مثل هذا الجواب لداخلني الشك فيما سمعت. لقد اقتنعت منذ زمن بعيد أن هؤلاء الذين يبصرون لا يرون إلا قليلاً ! قلت في نفسي: “كيف يكون من الممكن أن يتجول المرء لمدة ساعة من الزمن بين منعطفات الغابة ولا يرى شيئاً يستحق الذكر ؟!” يصرخ قلبي من أعماقه في بعض الاحيان وفي شوق متزايد ليشاهد هذه الأشياء، فإذا كنت أستطيع أن أحصل على متعة مثل هذه بمجرد لمس عابر، فأي جمال وأي بهاء أشعر به وأنا أرى ذلك رؤيا العين!”
إنها الدهشة الغائبة خلفَ حُجُب الإلف والتكرار.. أما حقيقة الأمر على ما هو عليه، فإن كل شيء حولنا في هذا العالم مُدهشٌ غريب، مليءٌ بما يستحق التجربة والمغامرة والغوص و… والكتابة.
إن أول من أخاطبه بهذه الكلمات: عقلي وقلبي، إنني أُرتّب نفسي من الداخل عبر الكتابة، وأحاول أن أجد لها موطئ قدمٍ في أرض الأحلام المحفوفة بالصوارف والزخارف، والتي لا ينفُذ إليها من خلال ذلك إلا دائبُ الحِسّ، منتبهُ العين والقلب..
الإلهام إذن وليدُ الحِسّ الدائب، والتأمل المتصل.. ولا شيء يُبلّدُ ذلك الحس كالغرق في المظاهر الخدّاعة، والبعد عن الطبيعة بكل تجلياتها، والترفّع عن النظرة الساذجة للأشياء! والتي تُثير أسئلةَ الأطفال عند كل مشهد..
أزعم أن حياتنا المعاصرة في الأغلب لا تُشجع على التأمل.. إنها تدفع أكثر الناس إلى التنعّم بمخترعات العلم دون أدنى نظر إلى أبسط أولوياتها.. إنها ازدحام عند السطح ونأيٌ عن الأعماق..شغفٌ بالمادة وبعدٌ عن الفكرة.
حتى على صعيد الاستهلاك: ما الذي يجعلني أفكر في سنابل القمح الفارعة الطول المنحنية بما فيها، وأنا أجد الخبز اللذيذ الساخن في أقرب مخبز في الحي؟! ما الذي يدفعني لأتعرّف على حجم كل تلك المتاعب التي خاضها الفلاحون، وكابدها عُمّال المصانع، وسائقو سيارات النقل حتى يصلني ذلك المُنتج، أو تلك الثمرة اليانعة والوجبة الفاخرة على ألذِّ طبق؟!
أيها اللاهي بجسدك عن روحك! لمن إذن هذه الأطيار مُسخَّراتٍ في جوّ السماء ما يمسكهن إلا الرحمن؟! لمن إذن هذا الليل يُسلخُ منه النهار فإذا نحن مُظلمون؟! لمن إذن هذا الشروق يمتدُّ بشعاعه، والغروب يُلوّن الأفقَ بشفقه؟! لمن الغابات الساحرة والبحار الزاخرة؟! لمن كل ذلك، إن كان كل واحدٍ منا لا ينظر إلى أبعد من موضع قدمه، ولا يفكّر في غير لذة جسده؟!
ما خُلقَ الحسُّ فيك إلا لتحيا حياةً أعلى، شاعرًا بالجمال والجلال، متفكرًا في الحال والمآل، وليكن أول ما تفعله من أجل تحقيق حُلمك هو أن تستيقظ!
اقرأ ايضًا: تربيةُ الحِسّ #2