عام

تربية الحس #2

  • منصور الحذيفي

ماذا يفعل بنا تبلّدُ الحس تجاه الوحي ما دمنا نؤمن أنه كلام الله، أنزله من السماء على قلب نبيه صلى الله عليه وسلم، ومَنّ علينا ببقائه فينا، مَعينًا ورِواء، وهدىً وشفاء؟ نؤمن بذلك، ثم يكون حظنا من هذا الكتاب الكريم أن نهُذّه هذًّا في الفينة بعد الفينة، دون أن نتلقّى نورَه وفيوضه، ودون أن نسمح لتياره المتدفّق أن يهزّ أعصابنا فتقشعرّ منه جلودنا ثم تلين جلودنا وقلوبنا إلى ذكر الله!

إن مما لا شك فيه أن من أكبر عوائق هذا الحسّ الإيماني: المعاصي.. إنها حجاب، وإقفالُ أبواب! {كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ}، إن هذا الكتاب العزيز الذي هو هدى للمؤمنين يكون -هو نفسه- عمىً على المعرضين عن الإيمان، فلا يفهمونه: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ۖ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ۚ أُولَٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} فكيف يسمعون صوتَ المنادي؟!

يخبرنا هذا الكتاب العزيز أن نظرَ أولي الألباب لهذا الكون يختلف عن نظر غيرهم: {إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}  ، لقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث كريب مولى عبد الله بن عباس أن عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – أخبره أنه بات عند ميمونة زوج النبي – صلى الله عليه وسلم – وهي خالته قال: فَاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ الْوِسَادَةِ، وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا، فَنَامَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ، اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – فَجَلَسَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الآيَاتِ الْخَوَاتِمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ (إن في خلق السماوات والأرض …) ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ، فَتَوَضَّأَ مِنْهَا فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي.

وفي الحديث الآخر الذي رواه ابن حبان في صحيحه :

“لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَاتٌ وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا:﴿ إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ … ﴾ ” إلى آخر الآيات.

لقد قال العربي الأول: “إن البعرة تدلّ على البعير، والأثر يدلّ على المسير، فسماءٌ ذات أبراج، وأرضٌ ذات فِجاج، وبحارٌ ذات أمواج، ألا تدل على السميع البصير؟”.

إن هذا الإنصات لما تنطق به هذه الأجرام العظيمة، وما يشهد به هذا الكون الفسيح لَهو اليقظةُ الأولى التي تحدث في قلب الإنسان، حين يتحسس المكان الذي وُجدَ فيه، ويعلم أن لهذه العظمة الباهرة، وهذه الحركة الدائبة المتسقة للكواكب والنجوم في صفحة السماء- شأنٌ وأي شأن! حتى قبل أن يهديه الدينُ إلى ذلك. فإذا ما هداه الدين كان نورًا على نور، هذه اللفتة الكريمة إلى أثر العقل الراشد في الاهتداء بآيات الله، تجعل هذا العقل من أعظم أسباب الحسّ وأوسع موارده.. {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}

إنّ الخسائرَ الحقيقية لتحدثُ حين نفقد الإحساس.. حين لا نحسّ بالغاية من وجودنا، وإن كنا نعرفها.. حين لا نستشعر نعمةَ الصحة والأسرة والأصدقاء والأحباب، وإن كنا نفهم ذلك نظريًا.. حين لا يدفعنا هذا الإحساس المُلحّ إلى العمل والتقدم والإنجاز.

إن صاحب الحِس ليسمع لعجلة الزمان جلبةً وقرقعةً، تأخذه من التمادي في البطالة كلما شعر بتفلّتِ الدقائق والثواني من بين يديه على وعيٍ شديدٍ منه، فيتملّكه عند ذلك إحساسٌ يمتزج فيه الخوف بالحسرة، حين يرى اللحظة الحاضرة تهرب منه وتسقط في وديان الماضي السحيقة!

‏سمعت أحد أساتذة الفيزياء يقول:

“أنا أفهم الماضي والمستقبل، وأعجز عن فهم اللحظة الحاضرة! “.

هذه اللحظة التي يعجز المرء عن القبض عليها متلبِّسةً بالفرار! هذا الإحساس المرهف بالزمن ما أحراه أن يأخذ بيد صاحبه إلى العمل الجاد الصادق، إن كان للصدق أثرٌ في قلبه!

وفي المقابل: يُصوّر العلامة محمود شاكر -رحمه الله- في قصيدته الرائعة (اعصفي يا رياح) شيئًا من المشهد الدرامي لمسيرة الإنسان على هذه الأرض، وحسِّه المتبلّد، وغفلته عن سُنن الزمان، وغُلوِّه في هموم العمران:

“انظري يا رياح يا وَحشة الطرف إذا دار يَمنةً أو يسارا

ما الذي تبصرين أشباحَ فانين مرارًا تُرى وتخفى مرارا

وُجِدوا ثم أَوْجدوا ثم بادوا واحتذى نَسلُهم فزاد انتشارا

وتمادى البقاءُ فيهم دواليكَ فشيءٌ بدا وشيءٌ توارى

أوغَلوا في الحياة جيلًا فجيلًا وتجلّى طريقهم وأنارا

عمروا الأرضَ زينةً ومتاعًا ثم نودوا: كفى البِدار البِدارا !

ثم مَرّوا أشباحَ فانين ما تملك في حَوْمة الزوال قرارا

لم يكن غير خطفةِ البرق إذ تبني وتُعلي ولم يكد فانهارا

ذهبت ريحُهم وهبّت رياحٌ فأقامت على القبور الديارا”.

اقرأ ايضًا: تربيةُ الحِسّ #1

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى