كلنا -تقريباً- حصلنا على نسختنا من كتاب (عايزة أتجوز)، الذي صدر 2008 عن دار الشروق في (سلسلة جديدة للمدونات العربية المتميزة)[1]، ومازلت أذكر -وأنا إذ ذاك أدرس الماجستير- حين كلمتُ عمتي وهي في زيارة للقاهرة: “عمتي بأوصيك تييبين لي كتاب”، وظنّتْ هي أنه من كتب التخصص، ثم تقطعت كلماتي في موجة ضحكي، إثر ردة فعلها، وأنا أحاول أن أقول لها أنْ ليس هذا “دليلاً إرشادياً”، ولكنه تدوينات ساخرة، لصيدلانية شابة، تحكي تجاربها. وأذكر إحدى الصديقات، كذلك، قالت إنها قرأت الكتاب في رحلة عودتها من القاهرة، في المطار والطائرة، وأنها طوت الغلاف الأول على ظهر الغلاف الأخير، وتحسّباً -زائداً على ذلك- وضعتْ ورقة صفراء لاصقة على العنوان.
ونشرتْ مجلة (حياة للفتيات)، السعودية، تدوينات الكتاب في حلقات، تصرّفتْ في بعض عباراتها. فمن لم تقرأه منا كتاباً، فقد تكون قرأته تدوينات على الشبكة، أو حلقات في المجلة، أو شاهدته على الشاشة مسلسلاً من ثلاثين حلقة، عُرض في 2010. أنتجت نتيفلكس (البحث عن علا) في 2022.
وعلا عبد الصبور هي شخصية القصة، الصيدلانية التي كانت غادة عبدالعال تحكي لنا “المواقف والتجارب” التي تمر بها في “دوامة العرسان وعروض الزواج وزواج الصالونات”[2]، وهو “موضوع حساس جداً، وصعب جداً إنكو اتلاقوا حد يتكلم فيه بصراحة، خصوصاً بالنسبة للبنات”[3]، ظهرت وهي امرأة قد بلغت الأربعين والطلاق معاً، في مسلسل من ست حلقات على نتفلكس عُرِض في 2022.
علا تبحث عن ماذا؟
وعلى أداء هند صبري (علا) المتقن والسلس، وتجسيدها لخفة ظل غادة عبدالعال، فإني أثق بغادة وهي تكتب من مدونتها عن مشاعر وتجارب اختبرتها، ومرت بها، أكثر مما أثق في نص أنتجته (نتفلكس)، في مسلسل يزاحمه ضيوف الحلقات، وتملؤه عبارات مباشرة، ورسائل واضحة لا تخطؤها منذ الإعلان الترويجي للمسلسل، تشي بكسل درامي، أو توجيه فج، أو كليهما.
ثمة متعة بصرية هائلة في المسلسل، ثياب أنيقة، وبيت مرتب خال من الكراكيب في أي زاوية، وفضاء زاهي الألوان، حيثما التفتَّ، على نحو قد يذكّرك بزوايا الصور في إنستقرام أكثر مما يذكّرك بالواقع.
البيوت قائمة على صبر النساء
تظهر علا في أول مشاهد المسلسل ربة منزل وزوجة وأم، ترعى أولادها وبيتها، راضية عن ضجيج الحياة، وزحام المسؤوليات، و “منغصات الحياة اليومية” “العادية”، يفاجؤها زوجها، في ليلة عيد ميلاد ابنهما، بقراره بالطلاق؛ أنه “مش قادر يكمل”، يرحل هو ببساطة، أو ينسل، أو ينعتق، وتبقى هي مثقلة بمسؤوليات مضاعفة. مشهد يتكرر في الحياة، تظهره الدراما، مشاعر علا، زحمة المسؤوليات، محاولاتها البائسة أو اليائسة لإصلاح كل شيء. يذكرك هذا بما تعرفه وتراه؛ أن كثيراً من البيوت قائم على صبر النساء.
غير أن ذلك غاية ما يقدمه المشهد؛ وأقصى ما يعكسه، لا شيء أكثر من ذلك عن تراكمات الأحداث وتداخل العلاقات، تعقيد الظروف والمشاعر، زوج في منتصف الأربعين ينسل، وزوجة تبكي على وسادتها وترجوه ليعود، ثم تقوم لتركض في البيت وخارجه لتدبير أمور العائلة. وتبقى أنت تنتظر مشاهد ذكية أو معبرة عن لمحات أكثر لفهم هذه الظاهرة أو تجسيد أكثر تعبيراً لها.
ولو قارنت هذا، مثلاً، بفيلم Marriage Story الذي أنتجته نتفلكس[4] (عام 2019)، تجده يبدأ في الدقائق السبعة الأولى، مناصفةً، بسرد للزوجين، كلاهما يذكر دقائق من أطباع صاحبه، ثم مشهد في نقد كليهما للآخر، ثم حوار يتحول إلى شجار عنيف، حنين تحت رماد الغضب، ما يداخل رعاية الطفل من تعقيدات، مشاهد تعكس جوانب عدة من علاقة الزوجين وما يشتبك بها ومعها من ظروف اجتماعية وجوانب اقتصادية وقانونية. ثم تتذكر أنت أن مسلسلاً كهذا لا يعدك بتقديم أي معالجة، وإنما بأن “يعكس الواقع”، غير أنه ينقض وعده بعبارات موجهة فجة لا تنتقد سلوك الزوج بقدر ما تنتقد بنية الزواج. وفي ظل هذا التوجيه، تكاد تكون أبعاد العلاقة الزوجية متوارية فلا تظهر من دور علا كزوجة وأم إلا ما يصلها بدورها الوظيفي، بوصفها امرأة تدبر شؤون أفراد عائلتها وترعاهم. لا مشاهد، مثلاً، عن أمومة خالصة functionless أو ذكرى خاصة، في اغتراب كامل عن ذاتها، وشبه كامل عن أفراد عائلتها (تنطلق علا من هذا الاغتراب لتبني رؤاها عن مؤسسة الزواج).
في Marriage Story تظهر نيكول، مثلاً، على طاولة التفاوض على الطلاق، في طاولة تجمع الزوجين بمحامييهما، يأتي نادل يقدم لكل منهم لهم لائحة الطعام ليختار وجبة خفيفة، يقلب تشارلي اللائحة، يبدو مشتتاً: “لا أدري”، تمد نيكول يدها، تأخذ اللائحة من يده وتطلب له وجبته. في (البحث عن علا) يتكرر المشهد: تظهر علا مع هشام على طاولة طعام في حديقة يستعدان لإخبار طفليهما بقرار الطلاق، يبحث هشام عن دواء الحموضة، بعدما تناول وجبة دسمة فيما يبدو، يسأل علا فتجده في حقيبتها: “للأسف شايلاه”. هذا أقصى ما تعرفه علا عن هشام: فهي لا تعرف ماذا يحب، ولا ما تحب هي، إلى حد أن هشام “يتحداها أن تجيب أصلاً” عن سؤاله فيما تعرفه عنه وعن نفسها، بأسلوب سطحي فارغ، يُعفي النص من المعنى.
قد يكون هذا واقع تحكيه الدراما (ليس على علا وهشام أن يكونا كنيكول وتشارلي على أية حال، لا أحد يطلب ذلك)، فحياتنا لا تشبه الحياة الغربية، وليس علينا أن “نستنسخ” منها إلا بقدر ما يسمح بأن تدار كؤوس الخمر على طاولات، لا تدور عليها أصلاً حوارات كاشفة أو معبرة.
طلاق سائل، حياة سائلة
لا يظهر “الطلاق” باسمه كثيراً، ففي مدرسة نادية وسليم (ابنا علا) يسمونه افتراق عن وعي consciously uncoupling، وهي صيغة سائلة تعبر عن حالة تفرّق (لا يكون عن زواج بالضرورة)، في مقابل حضوره (الطلاق) فيما يبدو كحالة طبيعية[5] في “معظم المدرسة”. فالأخصائية الاجتماعية التي تدخلت في إبداء رأيها في الزواج: اعتبرت الزواج “كلام قديم جداً”و”المتجوزين دلوقتي [أقلية]“، وما يبلغ ثلاثة أرباع الأطفال في المدرسة “من بيوت consciously uncoupled ناجحين جداً”، هي نفسها اعتبرت دعوة الأم لحضور الأب في حياة ابنه “أمور عائلية المدرسة مبتدخلش فيها “.
لا يطرح المسلسل حالة (الافتراق عن وعي) هذه حلاً، لا يروج لبيئة طلاق صحية، هو يطبّع حالة “الافتراق” كحالة أساسية سائدة، تُنتج -أو تَنتج عن- حالات ارتباط قد لا يكون الزواج أصلاً هو الشكل الأساسي أو الوحيد فيها.
الطلاق “حدث مهم جداً” يستحق الاحتفال (كما تقول نسرين)، والزواج “صورة”، وكل محاولات علا في استدامته هي محاولات لإنقاذ “شكل الصورة” (كما يقول لها هشام)، والزواج “[عقد] بين اتنين واحد فيهم بس هو اللي بيستفد، التاني مش بيستفيد خالص”، “والكسبان مرات يمشي” كما تقول سيدتان، لا تعرفهما، نادمتهما على طاولة الشراب (وأسقينها خدعةً عصير برتقال مخلوطاً بخمر)، “تحتفلان” معها بطلاقها، وكانت إحداهما قد “احتفلت” بموت زوجها فور موته إذ اكتشفت، أنه كان متزوجاً بأخرى، في مشهد لا تبدو فيه قيمة الزواج وحدها هي المهدرة.
البحث عن السوق
وفي مقابل تهاوي كل قيمة، يحضر السوق قيمة ذاتية وعليا تنطلق منها علا لتتعافى، بعد اغترابها عن ذاتها في الأمومة[6]، بعد أن كانت أمومتها (مع مسؤولياتها الأسرية) عبئاً وسبب شقاء، تغترب علا عن أمومتها في قيمتها الاقتصادية، وتتراجع أمومتها في مقابل دورها كيد عاملة منتجة. ترفض علا، في سبيل تحقيق ذاتها (أو لأسباب أخرى)، ما يعرضه طليقها من دعم مالي مقابل رعايتها لأبنائهما، وتُنشئ مشروعها الخاص، بمساعدة من طارق زهدي، رجل أعمال مشهور، متخصص في إرشاد المشروعات الناشئة، عرض عليها خدماته في إرشادها لإقامة المشروع، وهو دعم يقدمه لها مخلوطاً بما أسمته علا “تلميحات مشوشة” يعرّض فيها بشعور أو رغبة، حقيقية أو مزيفة، تشوّش مشاعرها وتربكها، وهي في حالة ضعف واحتياج أصلاً.
لا بأس أن يفعل ذلك، فهو “راجل” وهي “ست حلوة”، وعالم الأعمال “ملعب، والملعب هات وخد”، وهي “فاهمة أن الحياة يا أبيض يا أسود مع أنها مش كده”. يصرّح طارق بهذه العبارات، بينما يتجنب أي حديث عن كل قيمة سوى ما له قيمة في السوق. من كان عليه أن يرشدها في العمل في السوق، يجعل من كل شيء سلعة.
أما نسرين (صديقتها وشريكتها في المشروع)، فلا تكترث بموقف هذا الرجل، إلا بقدر ما يتحصل من منفعة ربحية عائدة على المشروع، فالمشروع التي أرادت علا أن يتحقق به استقلالها وتحقيق ذاتها، يستغلها من حيث هي امرأة أولاً (استغلالاً يُبرّر- يا للمفارقة)، فعليها أن تخضع أو تتعامل أو تتكيف مع قوانين السوق. وبينما ترى علا -فيما تقوله في نصيحتها لشباب صاحبتهم من مواليد التسعينيات والألفين أن “المشكلة في مؤسسة الجواز، بتقلبنا ممثلين، كل واحد فينا بيلعب دورو لحد ما واحد يصحى بقى يصحي التاني”، تقبل هي من السوق ما أنكرت مثله في الزواج (وكأنها صارت تقبل من سلطة السوق والمنفعة التجارية ما رفضته من سلطة الأسرة)، يذكرني هذا باقتباس[7] أن النسوية جعلت النساء يقبلن من رب العمل ما يرفضنه من أزواجهن.
في إعلانها للمنتج الذي أقامت عليه مشروعها (منتجات للعناية بالبشرة ومقاومة التجاعيد)، نشرت علا صورة لوالدتها المحجبة، بغير حجاب، كانت قد التقطها، تبين أثر المنتج على علامات التقدم في العمر، نشرتها في إنستقرام، وفي إعلان ترويجي للمنتج، دون علم والدتها. حصدت الصورة مشاهدات ومبيعات، وحصلت الأم -التي ساءها نشر الصورة ابتداءً- على نسبة مرضية من الإيرادات، رضيت بعدها عن الإعلان. في مشهد قد يلخص كل شيء: (صورة الأم) “تستعمل” للمربحة.
عايزة أتجوز، مش عايزة أتجوز
تظهر علا في مشاهد في المسلسل وهي تبحث عن زوج مرة أخرى، لا ضير في أن تريد ذلك أو لا تريده لنفسها، أو حتى أن تتداخل مشاعرها بشأن ذلك، غير أن نسرين (التي احتفلت بطلاقها، وتنهاها “never ever أبداً أبداً تقولي أن في راجل عندو حق، فاهمة؟”) تأخذها إلى السوق (السوبرماركت) لتلاحق الرجال هناك، في موقف مبتذل مستفز.
صحيح أن علا (برافو عليها) لم تقبل بأي من الرجال المزيفين الذين التقت بهم بتطبيقات التعارف بهدف الزواج، غير أن الركض في السوق كان، فيما يبدو، هو القيمة الحاكمة على الذات أولاً، ثم الأسرة، في تسليع واضح ومباشر لكل شيء، تُبتذل فيه العلاقات الإنسانية، والمشاعر الخالصة، وصورة الأم، أو تستخدم جسور عبور لمنفعة مادية، مطروحة للتبادل بأي مقابل، في مسلسل لم يعرض من مشاعرنا وعلاقاتنا وبنانا الاجتماعية، بقدر ما عرض علينا ما جعله منتجاً للسوق وقيم السوق.
* الكاتبة: هذه المقالة مهداة إلى الذي حين سمع عبارة واحدة من العبارات التي تنقض مؤسسة الزواج في هذا المسلسل، اكتفى من رده عليها باستعاذة، لم يحتج أن يحاجج قيم الرأسمالية والفردانية والحداثة، وأجندات نتفلكس.
[1] وكانت غادة عبدالعال، المؤلفة، قد أنشأت مدونتها في عام 2006 تقريباً، بعد تخرجها في كلية الصيدلة “وأطلقتُ عليها اسم “عايزة أتجوز” وعرضتُ من خلالها التجارب والمواقف التي مرّت بي بأسلوب ساخر” (عايزة أتجوز 2008: 176)
[2] عايزة أتجوز (2008: 176)
[3] نفسه (2008: 5)
[4] وهذا لا ينطوي على حسن ظن بنتفلكس، على أي حال، ولكنه التفاتٌ إلى المفارقة.
[5] لسنا نقول أن الطلاق ليس حالة طبيعية، بل هو كذلك، غير أننا نعارض تسييله من جهة، وعرضه بما يجعله منطلقاً لهدم منظومة الزواج، وإنما هو إجراء به تتعزز منظومة الزواج (انظر: همام يحيى: منظومتنا الزواجية الكاثوليكية الحداثية).
[6] انظر: (أروى الطويل: اغتراب الأمومة في عالم السوق والحداثة)
[7] مرّ بي هذا الاقتباس مترجماً، ولم أحتفظ بلفظه ولا باسم قائله.
حجج قيّمة دكتورة، شكرًا على المقال.
رغبت بمشاهدة المسلسل حنينًا لأيام المسلسل القديم، لكن عدلت عن ذلك حين علمت أنه إنتاج شركة نتفلكس، فلا أريد درس اجتماع إجباري لا يناسب قيمي. وفيما يبدو أن قراري كان صحيحًا!
بمجرد ذكر نتفليكس تعرف أجندته الهادمة لكل فيم وأخلاق طيبة وما تحمله من رسائل باطنه لبرمجة العقول للانحراف عن الفطرة السليمة. وبني يعرب ما عندهم الا التقليد وبغض الطرف عن ما يخالف مبادئهم مقابل المال الا من رحم. حيث يكون واعي لما يدور ويخطط لنسف منظومة الأسرة والتي لا تقوم الا بالزواج. الحمدلله لم أشاهد المسلسل ولم أضيع وقتي بقراءة مدوناتها حينها. ولكن بقدر الهدم الذي عرض عن سلبية الزواج لابد من ابراز مزاياه العظيمة التي قلة من يصرح بها خوفا من الحسد أو نواياه الشيطانية بعدم الرغبة باعمار الكون.