- بروس لورانس
- ترجمة: د. منصور بن سليمان الشريدة
رغم أن هذه المقالة التي يستذكر فيها الكاتب المستشرق الكبير مارشال هودجسون قد نُشرت في عام 2014م، إلا أنني رأيت أنه من المناسب ترجمتها اليوم، خاصةً مع استقبال المكتبة العربية مؤخرًا أول ترجمة لكتابه “مغامرة الإسلام: الضمير والتاريخ في حضارة عالمية”. كما أن شعور الغرب الدائم بأنه يعيش في “أزمة” مع الإسلام يجعل هذا المقال مناسبًا لكل يومٍ ولكل حدث.
(المترجم)
اتصف مارشال هودجسون بالعبقرية والخيال الواسع في آنٍ واحد، بينما بدا أنه مجرد أستاذ جامعي لا يهدأ؛ يحب الابتكار، ويعامل من حوله بود، إلا أنه كان أكاديميًا صاحب عقلية حالمة لم تخضع أبداً لوسطها الأكاديمي والاجتماعي، كما كان أيضاً صاحب مشروعٍ عالمي. أراد أن يغير العالم عن طريق تغيير نظرة الغرب وفهمم للإسلام من خلال تاريخ العالم، ومن خلال مشاركة الإسلام في ذلك التاريخ.
ولد في عام 1922، ولكونه يتبع طائفة الأصدقاء البروتستانتية فقد رفض التجنيد والمشاركة في الحرب العالمية الثانية. وبعد الخدمة لمدة خمس سنوات في أحد معسكرات الاعتقال عاد إلى مقاعد الدراسة وتمكن في بداية الخمسينات الميلادية من الحصول على شهادة الدكتوراه من جامعة شيكاغو، لمدة تزيد على العشر سنوات -حتى وفاته عام 1968- كان يُدرّس معتمدًا على مجموعة من المذكرات ودفاتر الملاحظات التي أصبحت فيما بعد كتابه المعنون بـ”مغامرة الإسلام”. وبعد ما يزيد على الأربعين عامًا من نشر هذا العمل الكبير لا تزال تركة هودجسون محيرة. هل كان سابقاً لعصره، أم كان تحت تأثير الحرب الباردة وآثارها بما فيها رعب الحادي عشر من سبتمبر وعواقبه المستمرة؟
كان هودجسون مهتمًا بالنظرة الأخلاقية لتاريخ العالم. لقد آمن بجوهرية القضية الإسلامية لأنها تصحح فكرة المركزية الأوروبية في التاريخ العالمي، وهي تلك الفكرة التي عززتها العاطفة المنتشية بأصداء الانتصارات الأوروبية. شملت دراسة هودجسون لتاريخ الإسلام كل المجتمعات السابقة لظهور الإسلام التي تحدثت عنها كتب التاريخ. كما أكد على أن بداية تشكل الحضارة العالمية يعود إلى ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد. وفي القرن الخامس عشر قبل الميلاد كانت قد ظهرت أربع مناطق حضرية جوهرية، وهي حضارات حوض البحر المتوسط، وحضارات ما بين نهري النيل وجيحون، وحضارات الهند، وحضارات الصين. ما بين نهر النيل في الجنوب ونهر جيحون في الشمال رُسمت معالم الخارطة للمنطقة التي انتشرت فيها الحضارة الإسلامية. لم يكن هناك شرقٌ أوسط ولا شرقٌ أدنى، لأن كلا التعريفين يفترضان وسطًا غائبًا: أوسط إلى أين؟ أدنى من ماذا؟ شرق عن ماذا؟ بدلاً عن ذلك، شكّل نهرا النيل وجيحون إطارًا للتطورات الكبرى التي ميزت المراحل الثلاث المبكرة للحضارة الإسلامية.
لقد سمّى هودجسون المرحلة الأولى مرحلة التشكل (125ق.هـ – 13هـ) والتي تنتهي بوفاة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-. المرحلة الثانية مرحلة اعتناق الدين والتبلور (13-256هـ). ورغم أن الحكم الإسلامي ساد في هذه المرحلة إلا أن المسلمين لم يكونوا هم الأغلبية في جميع المناطق الخاضعة للحكم الإسلامي. المرحلة الثالثة مرحلة التفكك وتفتح الأزهار (256-433هـ)، حيث تقسمت الدولة الإسلامية لكن الإسلام نفسه ظهر كقوة حضارية عظمى للمرة الأولى.
الفترات اللاحقة ليست أقل أهمية ولكن هودجسون لم يصنفها تصنيفاً واضحاً كما فعل مع القرون الأولى للتوسع والحكم الإسلامي. كمرحلة رابعة أسماها مرحلة الهجرة والنهضة (433-808هـ) يأخذنا هودجسون إلى هجمات المغول وتيمورلنك والنتائج التي ترتبت عليها. ثم أتبع هودجسون هذه المرحلة بمرحلة خامسة أسماها مرحلة التوحد والاتساع (808-1094هـ) ختمها بنظرةٍ خاطفةٍ على الوجود الإسلامي في المحيط الهندي بعد استعراضه للإمبراطوريات (الهندوتيمورية) وهن الإمبراطورية العثمانية، والإمبراطورية الصفوية، والإمبراطورية المغولية. وأخيرًا، تبلورت -كمرحلة سادسة- مرحلة الإصلاح والإستقلالية والتعافي (1094-العصر الحاضر)، وهذه المرحلة استكملت بعد وفاة هودجسون وألحقت بها مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وعنون لها بـ”الإسلام والعولمة: عصر التنقل”.
[انظر “العالم الإسلامي” خلاصة من تأليف طالبتين من طالبات هودجسون وهما ماريلين والدمان ومليكه زيجال، وهي متاحة على الشبكة العنكبوتية في دائرة المعارف البريطانية].
باختصار؛ يرى هودجسون أنه من المهم النظر إلى الإسلام من خلال إطارٍ زمني يمتد إلى 1500 سنة دون إهمال مراحل التطور التي أثرت في الإسلام تأثيرًا كبيرًا، التي تمتد إلى ثلاثة آلاف سنة. حيث إن التفاعل بين حضارات العالم المعروفة كان حاسماً. كانت المنطقة ما بين النيل إلى جيحون -التي قامت على امتدادها مملكة الإسلام- أقل المناطق الحضرية الأربع تماسكاً وأكثرها تعقيداً. بينما نشأت لغة واحدة في كلٍ من المناطق الحضرية الأخرى -اللغة الإغريقية في حوض المتوسط واللغة السانسكريتية في الهند واللغة الصينية في الصين- شهدت منطقة ما بين النيل وجيحون تطور العديد من اللغات الإيرانو-سامية، ومنها اللغة الآرامية، واللغة السريانية (الآرامية الإيرانية أو الشرقية)، والفارسية الوسطى (لغة شرقي إيران). وبالطبع، فإن منطقة ما بين النيل وجيحون اتحدت مع الجزيرة العربية أثناء مرحلة الفتوحات الإسلامية المبكرة، ولكن تطور المجتمع والثقافة والدين في تلك المنطقة كان ذا تأثير متبادل بين القوة الغالبة والمغلوبة. فرغم أن العرب تغلبوا على السكان وملكوا المجتمعات والمؤسسات إلا أن المجتمعات المغلوبة ساهمت في تغيير المتغلبين. كان العصر المحوري (800-200ق.م.) عصراً محورياً بالفعل لأنه شهد ظهور الأديان التي تبشر بالخلاص والنجاة في المناطق الحضرية الأربع -كاليهودية والمزدكية والبوذية والكونفوشيوسية- ومن هذه الأديان نشأت الأديان المتأخرة كالمسيحية والإسلام.
※
※
لنفهم هودجسون الإنسان ونقدر تركته العلمية لا بد لنا أن نبدأ من حيث بدأ هو حيث التصور الأخلاقي الذي واءم بين الاستمرارية والتغيير الحضاري. في مؤتمر المجلس العالمي لدراسات الشرق الأوسط عام 2014م قدّم هوريتشيان إسلاماوغلو -أحد أنجب تلامذة هودجسون- ملخصاً لنظرية هودجسون حول الاستمرارية والتغيير الحضاري في أربع نقاط. ذكر إسلاماوغلو أن هودجسون يرى أولاً: بأننا جميعاً متشاركون ومساهمون في صناعة التاريخ، وهو الأمر الذي تفوق أهميته النظر إلى اختلافاتنا وخلافاتنا التي تفرقنا. ثانياً: تظهر الأهمية الجوهرية للفرد من خلال السياق الاقتصادي العملي. ثالثاً: جميع الممارسات البشرية ممكنة تاريخياً وتخضع للمد والجزر ولا يمكن فهمها إلا من خلال نظرةٍ فاحصةٍ على الماضي دون إهمال النقد الدائم للذات. رابعاً: لا يعتبر الفرد مجرد تابع غير مؤثر بل يعتبر أداة ذات قوة مؤثرة وقادرة على التغيير.
هناك حضارة عالمية واحدة والإسلام جزء منها، وليس جزءًا مستقلاً عنها
لم يكن هودجسون بدعاً من المفكرين؛ بل سبقه مفكرون كبار كابن خلدون الذي يرى بأن التاريخ يُعنى بالتنظيم الاجتماعي والنماذج الحضارية، كما يزعم بأن صُنّاع التاريخ لم يهتموا بالدعوة إلى الدين مجرداً كما اهتموا بالدعوة إلى التغيير الاجتماعي في المقام الأول، فجعل القضية الاجتماعية أكثر أهمية من القضية الدينية. وفي مقاربة مشابهة، لم ينظر هودجسون إلى الإسلام كدخيل على التاريخ العالمي؛ بل هو جزء لا يتجزء منه لاعتبارات كثيرة لا ترتكز على الدين فقط. فالإسلام دينٌ عظيم الشمولية، وأثره عميق التغلغل. ولذا؛ فهو لا يقبل نسبة كل ما هو مسلم أو إسلامي إلى المسلمين الفعليين أو اعتبارها ممارسات وعقائد وطقوس وأسس إسلامية. عوضاً عن ذلك؛ يرى هودجسون بأن هناك تقاليد مرنة ومتحركة من الممكن أن نفهمها كمظهر من مظاهر حضارة المنطقة الإسلامية (التي أعطاها هودجسون مصطلحاً أسماه إسلاميكيت). ما يقصده بـ”حضارة المنطقة الإسلامية” هو مفهوم أوسع من النسبة فقط إلى الإسلام نفسه أو إلى تعاليمه. إنما هي لوحة رسام اختلطت فيها العديد من المظاهر الاجتماعية والثقافية التي تبلورت تحت الحكم الإسلامي، مشتملةً على كل من عاش تحت هذا الحكم سواءً كان مسلماً أم ذمياً. فحضارة المنطقة الإسلامية في فلسفة هودجسون ليست حكراً على ما أنتجه المسلمون أنفسهم أو ما ينسب إلى المسلمين؛ بل كل التراث الذي قدمته هذه الحضارة مترامية الأطراف للحضارة العالمية.
كما أن الأساس الذي تقوم عليه جدلية هودجسون هو فرضية أن للعالم حضارة واحدة فقط والإسلام جزء منها، وليس جزءاً منفصلاً عنها. ومن ثَمّ، فإن تراث حضارة المنطقة الإسلامية (إسلاميكيت) يشمل جميع مبادئ الفكر الإسلامي التي أخذها المسلمون عن مصادر كتبت في عصور ما قبل الإسلام باللغات الفارسية والعبرية والإغريقية واللاتينية؛ كما تشمل حضارة المنطقة الإسلامية التعاليم الدينية التي جاءت بها المزدكية واليهودية والمسيحية؛ وتشمل حضارة المنطقة الإسلامية أيضاً المُثُل التي قدمتها الإمبراطوريات البيزنطية والساسانية والمنغولية. وبالتالي، فإن حضارة المنطقة الإسلامية أصبحت بدورها جزءاً من الغرب الذي ظهر جلياً للعيان بعد عام 1800م نتيجة لتطورات عدة.
※
المشروع الهودجسوني لم ينته بموت صاحبه، بل لا يزال يتطور دون توقف. فالمسلمون إلى يومنا هذا لا يزالون يكافحون ليكونوا في مَرْكبٍ واحد مع بقية العالم وليكونوا جزءاً من التاريخ العالمي. بينما يركز النقاش الدائر حول ما يسمى صراع الحضارات الذي أشعل جذوته برنارد لويس وسامويل هونتينجتون وفرانسيس فوكوياما -أحد تلامذة هونتينجتون- على المركزية الأوروبية والسيطرة الغربية مع إعادة تدوير جدليات قديمة تحت مسميات جديدة. ولتجاوز الانتقادات العديدة للنظرية الحضارية لا بد من تحديد مسار بديل للربط بين تاريخ العصور ما قبل الحديثة بالتاريخ الحديث. فإعادة التفكير في المناطق المأهولة من آسيا وأفريقيا (العالم المعروف قبل القرن العاشر الهجري) من خلال نظرة لا تعترف بالمركزية المناطقية وإنما تفحص النقاط اللامركزية للإلتقاء الحضاري كالمدن الكبرى وشبكات الطرق التي تصل المدن المختلفة من آسيا إلى أميركا، ومن المحيط الهادي والهندي إلى البحر الأبيض المتوسط وإلى المحيط الأطلسي.
بين جميع مؤرخي القرن العشرين والقرن الحالي -الواحد والعشرين- لم يُحدد أحدٌ منطقة الحضارة الإسلامية كموضعٍ شهد التحول نحو التاريخ الحديث سوى هودجسون؛ فبدون التطورات التي شهدتها مملكة الإسلام لم يكن الصعود الغربي ليحدث أبد الدهر. مغامرة الإسلام -إذن- يقوّم المغالطة التي تزعم بأن الهلال المُحدِّد للحضارة العالمية يتمركز في الغرب، متجاهلةً العالم الإسلامي وما يسمى بالعالم الثالث وجميع المناطق المأهولة بالسكان في آسيا وأفريقيا، ومعتبرةً تلك المناطق ضيقة التفكير وتقليدية ومتخلفة.
أكد هودجسون على الفكرة العميقة الرامية إلى أن العالم خضع لنظام تعددية المراكز حيث شكّلت معايير ومبادئ حضارة المنطقة الإسلامية (إسلاميكيت) ما يعرف اليوم بخصائص المناطق العالمية (الكوزموبوليتانية). فالقوانين والدساتير لم تكن اختراعات غربية فحسب، بل إنها كُيِّفت لتكون أدوات حاسمة في المساعدة على تشكيل مناخ في القرنين العشرين والواحد والعشرين مشابهٍ للمراكز الحضارية العالمية (الكوزموبوليتية) في مناطق الحضارة الإسلامية. فالتعددية التشريعية لم تظهر إلا في القرن الثامن عشر الميلادي، بينما أثبت هودجسون أن تاريخ نصف الكرة الأرضية (العالم القديم) كان قد شهد بالفعل ما يشبه الجنسية الممنوحة دستورياً ولكنها وفق مُثُل ومبادئ حضارة المنطقة الإسلامية وذلك من خلال النظر إلى جميع أطراف الإمبراطورية كنقاط تقاطعٍ تفاعلية محكومةٍ بنظامٍ واحد.
أعْتبرُ مساهمة هودجسون بالغة الأهمية لغموض -وبنفس الوقت- إنتاجية نظرية “عالمية الحضارة الإسلامية”. هذه النظرية تشتمل على الجنسية، الهوية الثقافية، التمثيل الطبقي والجنسي، و بطبيعة الحال فكرة الشبكات العابرة للمسافة والزمن التي تصل بين المدن. كما أن هذه النظرية لا تقتصر فقط على المسلمين؛ بل تشمل جميع من عاشوا بين المسلمين سواءً كانت الفئة الحاكمة أغلبية أم أقلية. بغض النظر عن النقاش الطويل حول الإرهاب ومصطلح الخوف من الإسلام وكراهية المسلمين (الإسلاموفوبيا) فإن المُثُل التعددية للحضارة الإسلامية العالمية التي يفترضها هودجسون قد ظهرت وهي تستحق التحليل كنتيجة غير متوقعة ولكنها واضحة بنفس الوقت لفلسفة هودجسون الأخلاقية والعالمية.
※
رغم أنه لم يسبق لي أن التقيت بهودجسون، إلا أنني درّستُ مغامرة الإسلام لما يزيد عن خمس وثلاثين سنة في عدة جامعات؛ ولذا لا أجد حرجاً من أن أصنف نفسي كهودجسوني. وفي المقابل، الكثير من الباحثين الآخرين كانوا مترددين من ارتباط أعمالهم البحثية بميراث هودجسون الفكري. هذا مع الأخذ بعين الاعتبار التحذير الذي أطلقه الزميل الودود أنور ماجد. في إصداره العظيم الشمولية
Unveiling Traditions: Postcolonial Islam in a Polycentric World (2000)
ألمح ماجد -وهو ناقد أدبي مغربي يحاضر في جامعات أميركية- إلى تركيز هودجسون على اللغة حيث يقول: “لا يُعنى مفهوم حضارة المنطقة الإسلامية (إسلاميكيت) الذي قدمه هودجسون بدين الإسلام فقط ولكنه يهتم أيضاً بالمجموعة الاجتماعية والثقافية التي ارتبطت تاريخياً بالإسلام والمسلمين. ورغم أن هذا العالِم البارز قد قدم حجةً دامغةً تثبت الحاجة الملحة لصياغة مصطلحٍ جديدٍ للتعاطي مع تاريخ “مملكة الإسلام”، إلا أن الأحكام المجحفة لا تزال منذ القدم تحدد التساؤلات المطروحة والمخرجات المقدمة في الدراسات الأكاديمية حول الإسلام”.
ولمعرفة مدى دقة القول بأن ” الأحكام المجحفة لا تزال منذ القدم تحدد التساؤلات المطروحة والمخرجات المقدمة في الدراسات الأكاديمية حول الإسلام”، لا بد للباحث أن يُقيّم ردود الفعل حول عمل هودجسون في المملكة المتحدة والولايات المتحدة. البعض تجاهلوا هودجسون، وآخرون قرأوا مقتطفات من عمله، ولا يزال هناك من يحاولون نقض فكرته والرد عليها. فالمؤرخ البريطاني فرانسيس روبينسون قد ارتبط بأفكار هودجسون دون مصطلحاته التي قدمها أو أطر جدليته. لقد اعترف روبينسون بكامل الفضل لهودجسون بإلهامه وحثه على إصدار عمله المعنون بـ
Atlas of the Islamic World since 1500 (1982)
وهو كتاب منمق يناسب عشاق القراءة أثناء الجلوس إلى طاولة القهوة، حيث قدم فيه خرائط تفوق عدداً تلك التي قدمها هودجسون، إضافةَ إلى صورٍ تثير الذكريات، كما أن هذا العمل مقتصر على فترة التاريخ الحديث فقط، ما بعد 1500م. بينما يضع روبينسون مخططاً للمواضيع الرئيسة في التاريخ السياسي والاقتصادي والديني للإسلام من وجهة نظر غربية، إلا أن الإسلام يبقى خارج الغرب، ويبقى “الآخر” الذي يجابه ولكنه أيضاً يعطي تعريفاً للغرب.
المؤرخ الأميركي إيرا لابيدوس أيضاً مدين لهودجسون. فبالإضافة إلى أنه أعاد استخدام العديد من الخرائط من كتاب مغامرة الإسلام، فقد ردد لابيدوس الكثير من أفكار هودجسون في كتابه الضخم
A History of Islamic Societies (1988)
رغم أن اختصار كتاب مغامرة الإسلام المكون من ثلاثة أجزاء (أكثر من 1600 صفحة) إلى مجلد واحد (1002 صفحة) يُعد ميزة إلا أن لابيدوس ذهب إلى أبعد من ذلك، فقد قلد هودجسون في تقسيمه لتاريخ الإسلام إلى ثلاث مراحل، فقسمه هو أيضاً إلى ثلاثة أقسام: ظهور الإسلام، أو ما أسماه ظهور المجتمعات الإسلامية الكبرى، وفترة الانتشار الطويلة كمرحلة ثانية تشمل نشأة الإمبراطوريات الكبيرة، ثم مرحلة السيطرة الأوروبية المرتبطة بالتراجع الاقتصادي والحركات القومية التي أعقبت الاستعمار. لابيدوس ليس بديلاً مخففاً من هودجسون لفهم الإسلام المعاصر، خاصةً في ظل ظاهرة الثقافة ذات الاتجاه المدني التي أدت إلى ظهور نتائج سياسية واجتماعية غير متوقعة.
رغم أن روبينسون ولابيدوس يتفقان مع هودجسون إلا أنهما لا يتبنيان أفكاره. وفي المقابل، هناك علماء بريطانيون عارضوا هودجسون صراحةً. فعلى سبيل المثال، كريستوفر بايلي -البروفيسور في جامعة كامبردج- انتقد هودجسون في عدد من المحاضرات حول العلوم الإنسانية ألقاها عام 2013م في جامعة أوكسفورد -وهي متاحة حالياً كتسجلات صوتية- بسبب إصراره الألماني على فكرة الجوهرية وبسبب إيمانه الخفي بأهمية وحدة العالم الثالث. أراد بايلي أن يثبت بأن هودجسون حاول أن يخفي مطارداته الهامشية (فقد كان نباتياً وكان متبعاً لمذهب المسالمين) ولذا فقد استبدل مصطلح العالم الثالث بمصطلح العالم الإسلامي. كما اتهم بايلي هودجسون بأنه استخدم المسلمين وقضاياهم ليدعم كفاحه كمؤرخ عالمي شبه اشتراكي ضد الرأسمالية.
هذا التصور الذي طرحه بايلي عن هودجسون لم يسلم من النقد من داخل المجاميع الأكاديمية البريطانية. فحين دعي فيصل ديفجي -الأستاذ في أوكسفورد- أثناء المحاضرة للرد على بايلي لم يُخفِ إعجابه بجهد هودجسون لزرع الإسلام في الصورة الذهنية للباحثين حين يفكرون في أوروبا والهند، حيث أدت جهوده إلى صياغة مثال جديد لتاريخ النصف الآخر من الكرة الأرضية. ولنكون أكثر دقة، لقد نبهنا ديفجي إلى أن هودجسون قد علمنا كيف نحكم ضمائرنا في التعامل مع التاريخ رغم أن البعض قد ينظر إليه كمتخصص هامشي. ولأن هودجسون لم ينشر في حياته إلا أطروحة واحدة صغيرة الحجم
The Secret Order of Assassins (1955)
يرجّح ديفجي أن هذا العمل لا يشعرنا بأن صاحبه سيتبعه مغامرة الإسلام الذي كان في أصله مشروعاً تعيليمياً تحول لاحقاً إلى كتابٍ من عدة أجزاء. ورغم أن ديفجي قد بالغ في إطراء المواضيع المتعلقة بالحضارة الفارسية في المجلد الثالث الذي تعرض للكثير من التعديل بعد وفاة هودجسون، إلا أنه لم يتجاهل الإطار العام والتأكيد المستمر على الحس الأخلاقي في عمل هودجسون وهو رأيٌ مناقض لطرح بايلي الذي كانت تدخلاته أشبه ما تكون بهجومٍ لاذع رغم قلّتها.
لعل أكثر صفة اتصف بها هودجسون هي صراحته المطلقة حول التزامه التام أكاديمياً وتأكيده على الحاجة الدائمة لنقد الذات. لنستشهد مرةً أخرى بما ذكره هوريتشيان إسلاماوغلو الذي يؤكد على أن ما يجعل هودجسون مختلفاً عن زملائه في جامعة شيكاغو وباقي الجامعات الأميركية هو “انفتاحه الصريح على نفسه وعلى خلافاته، بل إنه لا يجد حرجاً من إظهار تردده حيال بعض القضايا. لقد كان رجلاً يسعى لاكتشاف نفسه كرجلٍ ينتمي إلى حركة التنوير (وليس عصر التنوير)، رجلٌ غربيٌ بكل ما في ذلك من تناقضات. اجتهد هودجسون ليعيد تمركزه ويتخذ لنفسه موضعاً أخلاقياً كرجل له رؤية عالمية، وهو حين سلك هذا الطريق لم يكن مكرهاً عليه لكونه ينتمي إلى مذهب الأصدقاء البروتستانتي ولا لكونه متأثراً بالمبادئ اليسارية. إنه ذلك الطريق الذي استنفد عمر هودجسون وعمله الأكاديمي.”
والآن، بعد أكثر من أربعين سنة على رحيل هودجسون، نلحظ اليوم تزايد استخدام مصطلح “منطقة الحضارة الإسلامية” (إسلاميكيت) الذي ابتكره هودجسون. أشارت بعض الأبحاث التي نشرت مؤخرًا إلى المرونة الصحية لمصطلح “منطقة الحضارة الإسلامية” (إسلاميكيت) كتعريف للارتباط الفكري الثقافي عبر الحدود العقدية، الطائفية، واللغوية في المنطقة الأفرو-يوروآسيوية في العصر ما قبل الحديث. منذ 2013م، بدأت دار بريل الشهيرة للنشر في ليدن بإصدار مجلة جديدة تهتم بالتاريخ الفكري لمنطقة الحضارة الإسلامية، بينما أطلقت منظمة أكاديمية ذات ارتباط شامل بجميع حقب ومدارس التاريخ العالمي صفحةً إلكترونية في عام 2010م تهتم بالفكر المعاصر وحضارة العالم الإسلامي، وهي منبر للنقاشات العلمية كما يصدر عنها مراجعات لكتب.
※
لا يمكن إثبات صلة هودجسون بالقرن الواحد والعشرين إلا من خلال قاعة الدراسة، أما إنتاجه الفكري الرائع فقيمته أعلى بكثير من مجرد كونه مقررًا دراسيًا، ولا أدل على ذلك من كون أكثر المختصين دقةً والتزاماً بمناهج الدراسات الإسلامية لا يزالون مختلفين حوله. في مطلع الألفية قام برانون ويلر -أحد خريجي جامعة شيكاغو- بتنظيم مؤتمرٍ تشاوري نتج عنه لاحقاً كتاب تدريس الإسلام (2003) وهو كتاب جُمعت فيه العديد من المقالات وأشرف على إخراجه ويلر نفسه. وقد سُئلتُ للمشاركة في مقالٍ لينشر في هذا الكتاب، ولكنني أعترف “بأنني أول من يُقر بأن مناقشة الفروق الدقيقة بين مصطلح منطقة الحضارة الفارسية ومنطقة الحضارة الإسلامية (إسلاميكيت) يعتبر تحدياً. رغم أنه من الممكن تجاوز هذه القضية وعدم مناقشتها، ولكن هذا قد يؤدي إلى الإفراط في تسهيل الأمر والعودة إلى تعميم المفاهيم المغلوطة مرةً أخرى. ومن الممكن أيضاً تحمل المسؤولية، ولكن هذا يتطلب أن يكون الباحث حصيفاً في استخدام المراجع التي ظهرت بعد مغامرة الإسلام. ولعل الطريقة الأمثل هي اعتماد دائرة المعارف البريطانية كنص أصلي. لقد أبدعت المؤرخة مارلين والدمان -المختصة بتاريخ الإسلام في آسيا وأفريقيا في ما قبل العصر الحديث- حين افتتحت فصل العالم الإسلامي في دائرة المعارف البريطانية معتمدةً على عمل أستاذها الذي لم يكن سوى مارشال هودجسون. مثل مخترع مصطلح “منطقة حضارة العالم الإسلامي والفارسي” (إسلاميكيت)، حاولت والدمان فهم مراحل التحول الفعلية من خلال منطقة العالم الإسلامي. قطعة والدمان النثرية لم تكن مجرد انعكاس لهودجسون، بل إنها أيضاً بسّطت وكشفت بعض آرائه العلمية”. وبعد عقدٍ من الزمن، لا أزال أعتمد على والدمان. لقد اقتبست منها في مطلع هذا المقال، كما أن لها فضلًا في إثارة القضايا الرئيسة ومناقشة المصطلحات الجديدة التي ابتكرها هودجسون، من دون إعادة تقديم جميع النقاشات والغموض في النص المقدم في الأجزاء الثلاثة الصادرة عام 1974م.
كما فعل هودجسون من قبل، فسّرت والدمان المسافة في العالم المعروف قديماً في لحظات مختلفة من الزمن. لقد كانت هناك قوى مختلفة وأشخاص خاضعين لتوجهٍ معين أخذوا على عاتقهم مهمة تعريف مراحل تاريخية حاسمة وتقديم حبكةٍ روائيةٍ معينة. ولعل من أهم المناطق التي انصهرت في بعضها البعض في مرحلةٍ من المراحل المنطقة الأفرو-آسيوية، أو باللكنة الأوروبية المنطقة الأفرو-يوروآسيوية. ومع ظهور الإسلام، كان هناك قوتان مؤثرتان: اللغتين الإيرانية والعبرية. وبالتالي فنحن بحاجةٍ إلى مصطلح الإيرانو-سامية، كما نحتاج لاحقاً إلى استخدام مصطلح الفارسو-عربية. في الواقع، لا يمكن لأحد التفكير في اليهودية أو الإسلام بمعزلٍ عن إيران. بسبب كونها تارةً منافسة لجيرانها وتارةً أخرى مكملةً لهم، لعبت إيران دور الناقل فيما بينهم. لقد نسجت والدمان هذه العلامة الفارقة وغيرها بطريقةٍ سرديةٍ بارعة وبسلاسةٍ فاعلة في الفصل الخاص بكتاب مغامرة الإسلام في دائرة المعارف البريطانية. ولكن ياللحسرة، لم يلق مقال والدمان الصدى الذي يستحقه لكونه نشر في أحد ملاحق دائرة المعارف البريطانية.
※
لعل أوجز تقييم لتراث هودجسون هو مدى تأثيره في العامة. منذ الحادي عشر من سبتمير، وربما منذ الثورة الإيرانية عام 1979م، ونحن نقاسي البكائيات الشعبية والإعلامية المدعومة من اليمين المتطرف حول الشر الإسلامي. بينما كان لهذه النبرة أصداء في أميركا، كما حدث مؤخرًا تجاه نقد بيل ماهر للإسلام، إلا أننا لا نجد من ينافس أوروبا في شدة نفخها لنيران الفكرة التي تزعم بأن المسلمين لا ينتمون البتة للمجتمعات الغربية.
في بداية صيف 2014م زرتُ موقع الجزيرة للإطلاع على العناوين الرئيسة التي كان أحدها: “عن معاداة السامية والكراهية الإسلامية (إسلاموفوبيا) في أوروبا”. كاتب الخبر بريطاني مختص بعلم الاجتماع وليس لديه دوافع سياسية أو عرقية، ولكنه ذكر بأسلوب صارخ: “رغم أن المهاجرين عموماً يوصمون بأنهم تهديد اجتماعي واقتصادي للمجتمعات والعمال الأوروبيين، إلا أن المهاجرين المسلمين على وجه التحديد هم من جاءوا ليلخصوا صورة ’الآخر السيئ‘. هذا الأمر لم يتحقق بجهود دعاية اليمين المتطرف الكارهة للأجانب فحسب، بل إن المحافظين وحتى الأحزاب الليبرالية واليسارية ساهمت في نفخ البوق”.
وصف المسلمين كـ “الآخر السيئ” كان كابوساً بالنسبة لهودجسون، ولكنه أصبح في القرن الواحد والعشرين روتيناً يومياً في أوروبا وأميركا. ليس مهما إن كانت سارة هاريس -كاتبة مقال في الجزيرة- محقةً أم مخطئة في تقييمها للأمر. لو عدنا إلى وجهة النظر في العصور السحيقة، لوجدنا أن المسلمين كاليهود والمسيحيين وكل مجتمعٍ إنساني يُحاسبون بما فعلوا، وليس بما فُعِل بهم. ولكن لا تزال العناوين الرئيسة تُصعّب التحول من الأزمات الآنية التي تغذي الإعلام الشعبي إلى تقديرات أكثر هدوءاً للتغيرات التاريخية -لتكون أكثر إنتاجية وذات قدرة أكبر لقراءة المستقبل. وهذا ما يجعل هودجسون ضرورياً وخطراً كمحفز لتفاعل قرننا الواحد والعشرين مع الإسلام.
ولذا لا بد لنا أن نختم للعامة بأننا وجدنا تركيزًا مشحونًا بطريقةٍ مقلقةٍ جداً حول صراع الحضارات المُشاهد والحرب المستمرة على الإرهاب ونقاشاً حاداً جداً لا يخرج عن مواضيع كراهية الإسلام (إسلاموفوبيا) وكراهية الإسلام (إسلاموفوبيا) ما أدى إلى مسح -وليس مجرد تغطية- الفروق الرقيقة التي قدمها هودجسون. ولعل العلماء مخطؤون إلى حدٍ ما حيال هذا التركيز السطحي رغم أن إدوارد سعيد في كتابه الإستشراق قد عارض رؤية هودجسون بلا قصد. لقد أبدع سعيد في إصداره عام 1978م حيث راجع ونقد علماء الاستشراق بسبب نواياهم السياسية المتنكرة. وضع سعيد كومةً من الازدراء على رأس مشرف هودجسون في مرحلة الدكتوراه غوستاف فون جرونباوم -مهاجر نمساوي هارب من النازية الألمانية- الذي درّس في جامعة شيكاغو قبل أن ينتقل إلى جامعة كاليفورنيا في لوس آنجليس حيث أسس مركز دراسات الشرق الأدنى الذي سُمّي لاحقاً باسمه. ولكن اسم هودجسون -الذي كان مختلفاً عن مشرفه كما كان مختلفاً عن بقية زملائه في جامعة شيكاغو- لم يظهر في صحفات الاستشراق. لقد امتلك هودجسون حساَ حقيقياً لمؤرخ ما قبل الاستشراق وما بعده، ولكن لأن هودجسون مات قبل إنهاء كتابه فإن عاصفة الاحتجاج والإطراء المتملق ذهبا إلى الاستشراق ومنهج سعيد دون منهج هودجسون. رغم أن هودجسون ناقش قضايا الالتزام العلمي قبل صدور كتاب سعيد بوقتٍ طويل الذي صادف إصداره أحداث الثورة الإيرانية. حين بدأ الشك في النفس يتغلغل إلى الأكاديمية الأميركية كانت مساهمة هودجسون في نظرةٍ بناءة حول الإسلام على امتداد الزمن والمسافة قد حُبست عن المتلقين أولاً بسبب النقاش الدائر حول الاستشراق في الثمانينات والتسعينات الميلادية، وثانياً بسبب الحرب على الإرهاب التي بدأت في عام 2001م ولا تزال.
إن تغيّر مذاق الأجيال المتعاقبة لا يمكن أيضاً أن نتجاهله. فحين ننظر إلى أسباب تراجع تأثير تراث هودجسون نجد أنه ليس راجعاً لنظرته التاريخية الواسعة أو اختياره لمصطلحات صعبة النطق فحسب بل لأن العامة أيضاً لا تستطيع النظر إلى الفوارق البسيطة من خلال الإسلام أو النظر إلى الفوارق البسيطة حول الإسلام من خلال التاريخ العالمي للدرجة التي كانت ممكنة بالنسبة لهودجسون في منتصف الستينات الميلادية. نعم، لقد مرت أميركا بأوقاتٍ عصيبة: الحرب الباردة، الحرب الفيتنامية، الفقر الطاحن للعديد من الشعب، وفوضى حركة الحقوق المدنية. ورغم ذلك لقد كان هناك متسعٌ للنظرة الأخلاقية، نظرةٌ كتلك التي قدمها هودجسون، نظرةٌ لا نزال بحاجةٍ إليها.